يواصل سعر صرف الدولار الهبوط أمام العملات الرئيسة، إذ انخفضت قيمة العملة الأميركية، الأسبوع الماضي، إلى أدنى مستوى لها أمام الين الياباني في خمسة أشهر، وارتفعت قيمة العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، مقابل الدولار بنسبة 4.5 في المئة في أسرع صعود لليورو أمام الدولار منذ عام 2009.

ويتوقع غالب المحللين استمرار منحى هبوط الأسواق وسعر صرف الدولار في ظل سياسات الإدارة الأميركية للرئيس دونالد ترمب، سواء نتيجة حربها التجارية مع الشركاء بفرض التعريفة الجمركية أو سياساتها الداخلية بإلغاء الوظائف الحكومية وفي القطاع العام وتسريح العاملين.

لا يقتصر الأمر على اضطراب أسواق العملات، بل إن أسواق الأسهم والسندات تشهد تذبذباً قوياً في الأيام الأخيرة وسط مخاوف من تأثير سياسات إدارة ترمب على أكبر اقتصاد في العالم. ومنذ بداية عام 2025 ارتفعت مؤشرات الأسواق الأوروبية بنسبة 14 في المئة، بينما هوت مؤشرات السوق الأميركية في “وول ستريت” وأصبح مؤشر “أس أند بي 500” القياسي منخفضاً بنسبة نحو اثنين في المئة.

كل ذلك أدى إلى عودة الأصوات التي تشير إلى احتمال زحزحة الدولار الأميركي عن عرشه كعملة احتياط العالم، ومكانته المتفردة في المعاملات المالية والتجارية الدولية، بل إن بعض المعلقين اهتموا بإمكانية أن يحل اليورو محل الدولار كعملة احتياط وملاذ آمن في سوق العملات، أو في الأقل يكسب اليورو مزيداً من النصيب في سوق العملات العالمية على حساب العملة الأميركية كما أشار تقرير لصحيفة “ديلي تلغراف”، الأسبوع الماضي.

تضارب إشارات إدارة ترمب

رغم أن تلك الآراء والتعليقات تكررت أكثر من مرة، فإن الدولار لم يفقد عرشه كعملة احتياط ومبادلات وتعاملات وتجارة العالم، لكن الوضع الآن يثير القلق بحسب ما يشير تحليل لمجلة “إيكونوميست” تحت عنوان “هل يريد ترمب فعلاً دولاراً ضعيفاً؟”. وسبب التساؤل من قبل المجلة هو أن الإشارات من أركان الإدارة الأميركية متضاربة، فضلاً عن أن سياساتها المستمرة تدفع بالدولار نحو الهبوط أكثر.

يصر وزير الخزانة في إدارة ترمب سكوت بيسنت، على أن سياسة “الدولار القوي” لا تزال قائمة، بينما الرئيس ترمب ونائبه جي دي فانس يرحبون بما تفعله سياسات الإدارة بسوق العملات. ومع أن ترمب هدد من يسعى لزحزحة الدولار عن مكانته العالمية إلا أنه يقبل بحقيقة أن الدولار القوي يضر بالصادرات الأميركية ويزيد فجوة العجز التجاري مع العالم، ذلك العجز الذي يحاول تقليله بفرض تعريفة جمركية ورسوم على الواردات.

سبق لمرشح ترمب لرئاسة مجلس المستشارين الاقتصاديين ستيفن موران أن أعلن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 عن سلسلة إجراءات يتعين اتخاذها لخفض قيمة الدولار. تراوح تلك الإجراءات ما بين اتفاقات تجارية جديدة متعددة الأطراف تحت تهديد فرض تعريفة ورسوم وعقوبات، وفرض رسوم على حاملي سندات الخزانة الأميركية من الأجانب، وهذا الاقتراح الأخير كفيل بإثارة مزيد من الاضطراب في أسواق السندات وابتعاد المستثمرين عن الدولار.

تبقى المشكلة أن تبعات سياسات الإدارة الأميركية غير محسومة، بخاصة في ظل التصريحات والقرارات ثم التراجع عنها أو تخفيفها، لذا يتوقع أن تستمر الشركات والأعمال الأميركية في التحوط للمستقبل غير الواضح بزيادة الشراء من الخارج وتكديس السلع والمواد تحسباً لقرارات فرض تعريفة جمركية جديدة، وذلك مما جعل العجز التجاري الأميركي يقفز في يناير (كانون الثاني) الماضي إلى 153 مليار دولار، مقابل 92 مليار دولار في الشهر السابق.

استمرار ضعف الدولار

مع مؤشرات ضعف النمو في الاقتصاد الأميركي فقد يضطر “الاحتياطي الفيدرالي” (البنك المركزي) إلى خفض سعر الفائدة بوتيرة أسرع وهو ما سيؤدي إلى مزيد من هبوط سعر صرف الدولار. حتى في سوق السندات يتوقع أن يستمر توجه الانصراف عن سندات الخزانة الأميركية إلى السندات الأوروبية، وهو ما يعني تراجع حاجة المستثمرين للدولار ومن ثم انخفاض قيمته.

في الأسبوع الماضي زاد العائد على السندات الألمانية من 2.4 في المئة إلى 2.8 في المئة مع تقديرات المستثمرين أن الحكومة الجديدة ستمول الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري بالاقتراض عبر سوق السندات، ويتوقع أن يستمر تحول المستثمرين في أسواق الدين بعيداً من سندات الخزانة الأميركية إلى أسواق أخرى في أوروبا وغيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتخوف الاقتصاديون من تلك الدائرة المفرغة التي قد تقود إليها سياسات إدارة ترمب التجارية والاقتصادية، فاحتمال خفض سعر الفائدة الذي سيؤدي إلى مزيد من تدهور قيمة الدولار سيرفع من كلفة السلع المستوردة على المستهلك الأميركي، ومن ثم ترتفع معدلات التضخم في الاقتصاد، وتتعقد مهمة البنك المركزي في ضبطه. وتقدر نائبة مدير صندوق النقد الدولي غيتا غوبيناث أن هبوط سعر صرف الدولار بنسبة 10 في المئة يضيف ما بين 0.4 و0.7 في المئة إلى معدلات التضخم.

من الصعب التكهن بمسار السياسات المستقبلية للإدارة الأميركية في ظل ما هو معروف من طريقة الرئيس دونالد ترمب في الإدارة والحكم، لكن المؤشرات المبكرة إلى تلك السياسات في الآونة الأخيرة تدفع الأسواق نحو التحوط بعيداً من العملة الأميركية كملاذ آمن أساسي، في الأقل الآن.

أما احتمالات إزاحة الدولار عن عرشه في سوق العملات العالمية فربما تكون بعيدة، في الأقل لأنه ليس هناك بديل حتى الآن يمكن أن يحل محل الدولار، علاوة على أن تجارب سابقة للابتعاد عن الدولار في حسم المعاملات المالية والتجارية لم تحقق إنجازاً كبيراً.

مكانة اليورو

رغم لجوء كثير من الدول في الأعوام الأخيرة إلى طرق تعامل في ما بينها تتفادى الاعتماد على الدولار فإن العملة الأميركية تظل في مكانة متقدمة عالمياً، وبفارق كبير مع نظرائها من العملات الأساسية كاليورو والين والاسترليني، فمنذ بداية هذا القرن الـ21 شكل الدولار ما بين نسبة 85 و90 في المئة من تجارة العملات حول العالم.

ومع أن التفاؤل بالعملة الأوروبية الموحدة لدى طرحها رسمياً مطلع القرن كان كبيراً، إلا أنها لم تتمكن من زيادة نصيبها بقوة في سوق العملات العالمية، وعلى مدى العقدين الأخيرين تراجع نصيب اليورو في سوق تجارة العملات العالمية من 38 في المئة إلى 31 في المئة عام 2022، في المقابل ارتفع نصيب الدولار الأميركي في التعاملات المالية العالمية عبر نظام “سويفت” من 38 في المئة عام 2021 إلى 47 في المئة العام الماضي.

ربما تكون عمليات “المقايضة” التي تستخدمها بعض الدول في تعاملاتها بعيداً من الدولار لتفادي تأثير العقوبات الاقتصادية المتزايدة أكثر تأثيراً في النيل من نصيب الدولار في المعاملات المالية العالمية. لكن تلك العمليات لا تضيف إلى نصيب اليورو أو غيره على حساب الدولار. حتى في ما يتعلق بتنويع كثير من الدول احتياطاتها من العملات الأجنبية بعيداً من هيمنة الدولار فلم تنل كثيراً من تقدم الدولار على العملات المنافسة، إذ يظل نصيب الدولار عند 58 في المئة من تلك الاحتياطات مقابل ما لا يزيد كثيراً على نسبة 20 في المئة لليورو.

رغم ذلك فلن تتوقف محاولات دول كثيرة حول العالم لتفادي الاعتماد على الدولار في تعاملاتها المالية والتجارية، لكن ذلك لن يعني بالضرورة أن تدفع تلك التوجهات عملة أخرى مثل اليورو لتحتل مكانة الدولار، ومع أن استمرار ضعف الدولار نتيجة سياسات الإدارة الجديدة يمكن أن ينال أكثر من مكانة العملة الأميركية عالمياً إلا أن النتيجة في النهاية ستكون تقليص الفارق بين مكانة الدولار وعملات أخرى كالين واليورو وغيرها.

نقلاً عن : اندبندنت عربية