تشير المعلومات إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع بدأ بفتح الملفات القديمة التي ورثها عن النظام السابق، في محاولة منه لمعالجة التركات العالقة وتصحيح المسار الاقتصادي والسياسي في البلاد. وفي هذا السياق، تبرز قضية الودائع السورية في المصارف اللبنانية كإحدى هذه الملفات الشائكة التي تستوجب حلولاً عملية تضمن حقوق جميع الأطراف المعنية. ويبدو أن الشرع يصر على استعادة هذه الأموال، معتبراً إياها جزءاً أساسياً من حقوق الدولة السورية، خصوصاً أن قسماً كبيراً منها يعود لأتباع النظام السابق ومصدرها الفساد الداخلي، ويرى الرئيس السوري أن هذه الأموال يجب أن تستخدم في مشاريع إعادة الإعمار في بلاده.

تفاقمت قضية الودائع السورية في ظل الأزمة المالية التي يعانيها لبنان منذ عام 2019، إذ فرضت المصارف اللبنانية قيوداً مشددة على عمليات السحب والتحويل، مما جعل استرداد هذه الودائع أمراً بالغ الصعوبة. كما تراجعت احتياطيات مصرف لبنان من 36 مليار دولار في عام 2016 إلى نحو 8 مليارات دولار في عام 2024، مما زاد من تعقيد إمكان استعادة الودائع.

وفقاً لأرقام أعلنها رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد، تتراوح قيمة هذه الودائع بين 20 و42 مليار دولار، بينما تشير مصادر مصرفية لبنانية إلى أن حجم هذه الودائع لا يتجاوز 8 إلى 10 مليارات دولار.

مسار قانوني

في المقابل تبدو السلطات اللبنانية متحفظة في شأن هذا الملف، إذ أشار مصدر قضائي لبناني (رفض الكشف عن اسمه) إلى أن القضاء اللبناني سيجري تحقيقات في مصادر الودائع السورية في لبنان، وأن أي أموال سورية لا تواجه أية إشكالية قانونية أو مالية، وكانت وضعيتها سليمة في المصارف اللبنانية، سيجري التعامل معها كأية وديعة لبنانية أخرى، ولن تخضع لأي إجراءات استثنائية. أما بالنسبة إلى الودائع التي قد تكون مشبوهة أو مصادرها تعود للفساد وتبييض الأموال، أو التي استخدمت كوسيلة لتحويل الأموال بطرق غير شرعية في الحقبة السابقة، واستخدمت البنية التحتية الاقتصادية والمالية اللبنانية، فسيجري حجزها ومصادرتها.
وأوضح أن هناك مساراً قانونياً يجب أن يبدأ من سوريا، معتبراً أن “الخطوة الأولى التي يجب على الحكومة السورية اتخاذها هي تقديم طلب رسمي إلى الحكومة اللبنانية. هذا الطلب سيحال إلى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، التي ستقرر بدورها الموافقة على رفع السرية المصرفية أو الرفض أو تجميد هذه الحسابات”.

تستند الحكومة اللبنانية في هذا الإجراء إلى قانون مكافحة تبييض الأموال، الذي أنشئت بموجبه “هيئة التحقيق الخاصة” لدى مصرف لبنان المركزي. هذه الهيئة ذات طابع قضائي مستقل، ولا تخضع في ممارسة أعمالها لسلطة المصرف المركزي. تتألف الهيئة من حاكم “مصرف لبنان” أو أحد نوابه، والقاضي المعين في الهيئة المصرفية العليا، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، وعضوين يعينهما مجلس الوزراء.

وأشار المصدر القضائي ذاته إلى أن الهيئة، وفقاً للإطار القانوني الحالي، لا تقدم حلولاً قانونية حاسمة في شأن وجود أو عدم وجود عمليات تبييض أموال، كما أن قراراتها لا تتمتع بصفة الأحكام القضائية الملزمة.

تقديرات متباينة

تتفاوت التقديرات في شأن حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية، إذ تشير دراسة للمشرف على قسم البنوك والتأمين في جامعة دمشق علي كنعان، إلى أن الودائع السورية تشكل نحو 25.4 في المئة من إجمالي الودائع في البنوك اللبنانية، التي تبلغ نحو 177 مليار دولار.
في المقابل، يرى خبراء ومصرفيون أن هذه الأرقام مبالغ فيها. إذ قدر الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف في لبنان سمير حمود حجم الودائع السورية بما لا يتجاوز 7 مليارات دولار، أي نحو ستة في المئة من إجمالي الودائع، مشيراً إلى أن الجزء الأكبر من هذه الودائع يعود لأفراد لا علاقة لهم بالأعمال التجارية.

تعقد العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، وخصوصاً “قانون قيصر” الأميركي، المشهد أكثر. تخشى المصارف اللبنانية من خرق هذه العقوبات في حال تعاملها مع أموال قد تكون مرتبطة بالنظام السوري السابق، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيدات أمام استعادة هذه الودائع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تدقيق جنائي

في هذا السياق لفت الخبير الاقتصادي نيكولا شيخاني إلى أن “تدفق الأموال من سوريا إلى داخل لبنان كان ميسراً قبل عام 2013، لكن بعد ذلك التاريخ أصدر مصرف لبنان المركزي توجيهات مشددة تمنع دخول الأموال بطرق غير قانونية، وذلك في إطار تطبيق ’قانون قيصر‘ وقوانين مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وأضاف “إذا كانت هناك أموال دخلت البلاد بطرق غير مشروعة، فلا يمكنني تحديد كيفية ذلك. ولذلك من الضروري إجراء تدقيق جنائي شامل على القطاع المصرفي بأكمله، على غرار المطالبات بالتدقيق الجنائي في مصرف لبنان المركزي، وذلك للكشف عن جميع التحويلات المالية المشبوهة التي جرت داخل القطاع”.
وأوضح أنه من المحتمل أن تكون بعض الأموال دخلت البلاد نقداً عبر الحدود، ثم أودعت في بعض المصارف من دون تطبيق إجراءات “اعرف عميلك” (KYC) اللازمة، وأشار إلى أن هذه العملية تعتبر مخالفة للقانون، وتقع مسؤوليتها على عاتق المصارف المخالفة وليس على الدولة.

وشدد شيخاني على ضرورة إجراء تدقيق شامل للمصارف، لتحديد حجم وطبيعة المعاملات المالية التي تمت، والكشف عن أية مخالفات أو تجاوزات تكون وقعت. واعتبر أن “المشكلة اليوم تكمن في السرية المصرفية”، معترفاً بصعوبة تحديد مصادر الأموال المشبوهة. وتابع أن “الحديث عن هذه الأموال يتطلب حذراً شديداً، لتجنب التورط في اتهامات غير دقيقة قد تترتب عليها عقوبات قانونية”.

وأشار إلى أن هناك قوانين دولية صارمة، مثل “قانون قيصر”، تمنع استخدام الدولار في المعاملات المالية مع سوريا. وفي حال تحويل أموال إلى لبنان، فإن المصارف اللبنانية تخضع لمعايير دولية صارمة، مثل “اعرف عميلك” للتأكد من شرعية مصادر الأموال. ورجح أن تكون معظم هذه الأموال شخصية ولأصحابها حق التصرف بها، ولكن هناك استثناء في حال طاولت العقوبات الدولية أصحابها.

حقوق لبنان

وأوضح الأمين العام للهيئات الاقتصادية في لبنان نقولا شماس أن “الأزمة الاقتصادية في سوريا والحرب فيها أسهمتا بصورة كبيرة في تدهور الوضع المالي والمصرفي في لبنان”، مشيراً إلى خروج كميات كبيرة من الدولارات من لبنان إلى سوريا من خلال تهريب المواد والسلع المدعومة من المصرف المركزي اللبناني، إضافة إلى تكاليف النزوح السوري.

في المقابل تساءل شماس عن حقوق لبنان المالية لدى سوريا، التي تقدر قيمتها بين 50 و100 مليار دولار على مدى الأعوام الـ50 الماضية. وأشار إلى أن “النظام السوري السابق كبد لبنان خسائر مالية واقتصادية هائلة، من خلال إغلاق الحدود وتعطيل الصادرات اللبنانية، إضافة إلى إغراق السوق اللبنانية بالتهريب”.
ودعا شماس الدولة اللبنانية إلى توثيق هذه الوقائع والمطالبة بالتعويضات عن الأضرار التي لحقت بها، مؤكداً أن أي نظام جديد في سوريا لا يمكنه التنصل من هذه المسؤوليات، نظراً إلى استمرارية الحكم. وشدد على ضرورة أن يتحرك لبنان كما فعلت الدول الأوروبية بعد الحروب العالمية، من خلال المطالبة بحقوقه المالية والاقتصادية، مؤكداً أن “لبنان دولة قانون، وكل صاحب وديعة شرعية سيستعيد حقه”، مشدداً على أهمية المطالبة بحقوق لبنان المالية لدى سوريا، لتحقيق العدالة والتوازن في العلاقات بين البلدين.

نقلاً عن : اندبندنت عربية