حتى مطلع العشرينيات من القرن الماضي كان جمهور الأفلام مهيمناً ولم يكن هناك أي ظهور لجمهور المسلسلات وقتها، فثقافة مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائية كانت تعبر عن احتفاء الإنسان بظهور ثقافة الصورة ومعرفة البشر بفن الفيديو.
لتشاهد فيلماً وقتها كان عليك أن تتهيأ بملابس أنيقة لتذهب إلى دور السينما، لكن ظهور التلفزيون بعد عقود عدة وما تبع ذلك من ثورة في التقنيات وصناعة التكنولوجيات المرئية أسهم كثيراً في عزوف الجماهير عن مشاهدة الأفلام والتحول إلى متابعة المسلسلات الطويلة، إذ أصبح من المتاح للإنسان البقاء في المنزل ضمن محيطه الخاص وبيئته الحميمية للتمتع بمشاهدة برامجه المفضلة بعيداً من إزعاج الآخرين ووفق طقوسه الخاصة والمميزة.
الفارق بين الجمهورين
ليس من السهل تحديد الفارق بين جمهور الأفلام وجمهور المسلسلات، وذلك نظراً إلى وجود متغيرات زمنية وتحديات كثيرة، تظهر دائماً مع مرور الوقت أمام الجمهورين. فجمهور الأفلام هو الأسبق زمنياً، إذ ظهر في بداية الحياة الترفيهية المعاصرة قبل عقود عدة، وتحديداً في عشرينيات القرن الماضي تزامناً مع ظهور الأفلام الناطقة في بدايات “هوليوود” في الولايات المتحدة الأميركية، وهي فترة وصفت بأنها “العصر الذهبي” لذلك الجمهور. في مقابل ذلك ظهر جمهور المسلسلات بعد جمهور الأفلام بما يزيد على أربعة عقود وتحديداً بعد ستينيات القرن الماضي.
وربط نقاد وكتاب صحافيون بين ظهور وتزايد جمهور المسلسلات وظهور الفترة الذهبية للتلفزيون في أميركا، ومن ثم انتشار هذا الجهاز الذي يعد العنصر الأول في سلسلة التكنولوجيات المرئية الحديثة التي وصلت بسرعة إلى جميع المنازل غرباً وشرقاً. وجسد ظهور التلفزيون شرارة التحدي الرئيس أمام جمهور الأفلام، لأنه ووفقاً لفصل من كتاب “الأنماط السيكولوجية لرواد دور العرض السينمائية” نشر على موقع مؤسسة هنداوي على الإنترنت، وحسب استطلاع أجراه معهد غالوب عام 1977 “لم يقض على جمهور الفيلم لكنه وضع عليه عبئاً كبيراً”.
كهوف المتعة
كهوف المتعة هو مصطلح نفسي أطلقه بعض النقاد الغربيون ليصف تحديداً جمهور المسلسلات التلفزيونية، إذ تخلى هذا الجمهور عن ثقافة الذهاب لمشاهدة الأفلام من خلال الشاشة الكبيرة في دور السينما مفضلاً البقاء في بيئته المنزلية الحميمية. وبناء على هذا الوصف كونت المسلسلات باكورة جمهورها الانعزالي خصوصاً في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لتحدث بعد ذلك نقلة سينمائية نوعية، استجابت من خلالها صناعة الأفلام في “هوليوود” لرغبة جماهير الأفلام المتمثلة في نقل مشاهدة الأفلام من دور العرض السينمائي إلى المنازل والمكاتب والعيادات وحتى في الطائرات عبر الشاشات الصغيرة. بذلك دخل كل من الجمهورين، جمهور الأفلام وجمهور المسلسلات، إلى تلك الكهوف، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل التنافس بين الجمهورين في وقتنا الراهن التي يؤكد نقاد عرب وعالميون أن ثورة التقنيات والاتصالات أشعلت جذوتها من جديد.
دور التقنيات والسوشيال ميديا
يصف الناقد السينمائي المصري محمود مهدي الذي ظهر أخيراً في برنامج مساء الثقافة عبر القناة الثقافية السعودية، دور الـ”سوشيال ميديا” في تشكيل ظاهرة “الجمهور الناقد” بأنه حراك افتراضي إيجابي، يتبادل عبره متفاعلون الآراء الشخصية حول أعمالهم المفضلة من أفلام ومسلسلات، مؤكداً أهمية هذا التفاعل بوصفه عاملاً جديداً في تحديد جمهور الأفلام والمسلسلات. وبذلك لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في توجيه الجماهير نحو الأعمال المميزة، خصوصاً في مواسم الإنتاج السنوية التي من أشهرها موسم المسلسلات في شهر رمضان.
بعد دخولنا في مرحلة انكسار السينما بداية الستينيات تراجع جمهور الأفلام كثيراً أمام جماهير المسلسلات في الولايات المتحدة الأميركية وفي بقية أنحاء العالم. وانتشرت موجة كاسحة من المسلسلات العالمية التي ترجم كثير منها إلى اللغة العربية بلهجات محكية. وظهرت في هوليوود في الثمانينيات والتسعينيات مسلسلات خرقت جدار عزلة تلك الجماهير، كان أشهرها مسلسل الخيال العلمي والرعب “سترينجر ثينجز/ أشياء أكثر غرابة” للمخرجين شون ليفي وأندرو ستانتون الذي عرض على “نتفليكس” عام 2016، وتبعه بما يقارب عقداً من الزمن المسلسل الكوميدي الشهير “فريندز” عام 1994، إضافة إلى مجموعة من المسلسلات الرومانسية المنقولة عن الثقافة المكسيكية والتركية والكورية، التي تابعها جمهور المسلسلات في العالم العربي.
ظلم جمهور الأفلام
وصل جمهور المسلسلات في تلك الحقبة إلى ذروته، إلى درجة تأكيد عدد من النقاد الظلم الذي تعرض له جمهور الأفلام من قبل الفضائيات العربية تحديداً التي اتهمت بتشجيع النمط التجاري وبيع المسلسلات “الممطوطة”، في مقابل عدم الاهتمام بجمهور الأفلام الذي بحث وفق هؤلاء النقاد عن “خطاب سينمائي متميز ورصين”. في المقابل اتهم نقاد جمهور المسلسلات بالسطحية.
يمكن القول إن تقدم الإنسان التكنولوجي صب في صالح جمهور المسلسلات أكثر من جمهور الأفلام. ويظهر ذلك بوضوح من خلال دور التقنيات ومواقع التواصل الاجتماعي، التي لعبت دوراً واضحاً في تغذية زخم مشاهدة المسلسلات، من خلال الترويج لأعمال ناجحة ومميزة. وهنا يتساءل الناقد طاهر علوان في مقالة له عام 2021 “متى سيلبي جمهور المسلسلات كل تلك الفرص للمشاهدة؟ ومتى سيتاح له أن يشاهد عشرات من الساعات التلفزيونية يومياً؟”، إذ تبلغ مدة مشاهدة الفيلم ساعة ونصف الساعة مقابل 30 ساعة تلفزيونية للمسلسل الواحد.
“أون لاين”
مع انتشار متزايد للغاية في خيارات السينما الافتراضية ظهرت عشرات المواقع العالمية لعرض الأفلام والمسلسلات بصورة دائمة وعلى مدى الساعة. لتظهر ثقافة المشاهدة “أون لاين” عبر منصات مثل “نتفليكس” وغيرها. وأسهمت هذه الثقافة الشعبية في تغيير الشعور السائد لدى جمهور الأفلام والمسلسلات. لتصبح مشاهدة كل الأفلام والمسلسلات متاحة كل الوقت وفي أي مكان وزمان.
نقلاً عن : اندبندنت عربية