قال الكاتب الروائي في سره إنه لو وجد شخصاً، (شخصاً واحداً فقط)، يصغي إليه، لعدل عن كتابة الرواية، ولاختار الحكي المباشر، أي أن يروي ما يشاء أمام مستمع منصت عميق الإصغاء، ويشترط أن يكون هذا المستمع صبوراً يغض الطرف عن الترهات والسفاسف، مما يعتبره المتحدث تفاصيل أساسية لرسم مشهد ما. وبالضرورة على المستمع الموهوب أن يبقى ممسكاً بخيط الحكاية من دون خفقان قلب، أو ارتجاف يد، أو سنة تأخذه إلى غفوة أو نوم، أو مجرد تثاؤب.
ولأن شروطاً كهذه تصبح صعبة ومرهقة وليست متوفرة الوقت كله، فإن الكاتب يختار الكي باعتباره آخر الدواء، فيقذف إلى المطبعة ما جادت به قريحته المنسابة، كأنه (ولو في الحد الأدنى) يكتب لنفسه، وإذا كان كاتباً متعففاً، متقشفاً في تطلباته، فإنه لا يكون في حاجة إلى تقريض لصنيعه من هنا، أو إشادة بـ”عبقريته” من هناك. إنه (باختصار) لم يجد من يصغي إليه، فألف رواية.
وقد يخطر في البال أن الناس، جلهم، يذهبون إلى الطبيب النفسي، لأنه يمتلك قدرة عميقة على الإصغاء. في فترة معينة من العلاج يمددك الطبيب على سرير أو أريكة، وعيناك إلى سماء الغرفة، ثم يوفر لك الظروف الملائمة لكي تبوح وتفضفض. إنه صبور كأن أعصابه قدت من صخر، يمنحك الثقة بكل حواسه، ولا يمثل عليك، ويشعرك أن بعض ترهاتك التي تهذي بها مهمة، ومن شأنها أن تحدث فرقاً. هو يمارس من حيث لا يقصد الكذب، ويقوم عبر هذه العملية كلها بتصنيع الوهم.
ليس الأمر بهذه البساطة، أو بهذه الصورة النمطية، قطعاً، ولكنه في أساسه قائم على الإصغاء والاهتمام والعناية والرفق والحنان والتقدير، وتلك أشياء يمكن أن يقوم بها كثيرون ممن حولنا، لكنهم يبخلون ويتقاعسون ويفضلون الثرثرة على الاستماع، ولا يولون مشكلات الآخرين ولو حداً أدنى من التفاعل والتعاطف والمشاركة والمشورة واقتراح الحلول، ويختارون أن يكونوا جزراً معزولة تحيطها المياه من الخارج، لكنها من الداخل قاحلة ومعتمة وكئيبة. ولكن كيف لي أن أصغي إلى الآخر وأثق به، إذا كنت أساساً لا أصغي إلى نفسي ولا أثق بها؟ هكذا يتساءل عالم النفس والفيلسوف الألماني إريك فروم في كتابه “فن الإصغاء” أو فن الاستماع (The Art Of Listening)، داعياً إلى أمر في منتهى الأهمية يسميه “الاسترسال العاطفي”، وذلك من خلال القدرة على تمثل مشكلة المريض النفسي بأن أسعى إلى أن أعاني، بجرعات أصغر، من الجرعات التي يعانيها المرضى، أو الذين أرهقتهم الحياة.
فن الإصغاء
الإصغاء يتعدى الإشارات الصوتية، لذا يشبه فروم فن الإصغاء بأنه يضاهي فهم الشعر. ولكي يكون هذا الفن خلاقاً، يستدعي أن يتحلى المستمع بالتركيز التام، وأن يكون خالياً من التوتر وصافي الذهن، ولا يشغل باله ما يشوش عملية الإصغاء التي تدرك أن كل ما يقوله المتحدث هو شيء مهم ويستحق التفرغ لاستقباله بالحواس كلها. ويفرض هذا الشرط أن يتحلى المستمع بالخيال الذي يجعله يحلق في مدى المتحدث ذاته، كأن كليهما يبثان على موجة واحدة، أو يعزفان “النوتة” نفسها.
ومن شأن شروط كهذه أن تخلق الحب الذي منبعه التعاطف ومصبه الفهم، وهو حب يتوخى إريك فروم أن يكون منزهاً عن النزعات الشهوانية، لأنه لا يخرج عن دائرة التعاطف العقلي.
أكثرنا، بمقدار أو بآخر، مرضى نفسيون، أو نعاني اضطرابات نفسية وسلوكية، موقتة أو دائمة. فلا تقل لمن جاءك متضرعاً: “لا تشكيلي ولا أبكيلك”، ولا تدخل معه في مبارزة لتثبت أن همومك أثقل من همومه، ولا تقل له متأففاً برماً: “خليها على الله، لسه إنتا أحسن من غيرك”. اجعل مشكلته أهم مشكلة في الكون، خذه بحنانك ورأفتك وعطفك، وامنحه حواسك كلها، فرب احتضانة من صديق، وترفق بمشاعره وآلامه، مهما صغرت، تكون كمطر فاجأ أرضاً قتلها الظمأ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن لم يجد أمطاره في سماءات الأصدقاء، فلا مفر من أن يلوذ بعزلة الكلمات ويبثها أشجانه كاتباً لا قارئاً كما قال المتنبي الذي أفتى بأن “خير جليس في الزمان كتاب”، بعدما كاد له خصومه الأقل موهبة منه، وأعرضوا عن الاستماع لشعره، فاختار النأي عنهم، ونشر قصائده في متون الريح.
أزمنة التواصل الاجتماعي ما انفكت تطحن الناس بأسنان السرعة التي حولت البشر إلى براغ صغيرة متناهية التلاشي في الماكينة الكونية العملاقة، وفي غمرة ذلك تولدت ملاذات “هجينة” من الإصغاء قائمة على الاختيار الحر من فيضان، بل تسونامي، القصص والحكايا المصورة، والأكشن الذي جسده خير تجسيد موقع “تيك توك” الصيني الذي تفوق لدى انطلاقته على منافسيه، من حيث ضآلة الزمن الذي تستغرقه القصص والفيديوهات التي لا تزيد مدتها على 60 ثانية.
في كانون الثاني (يناير) 2024، تم تنزيل تطبيق “تيك توك” أكثر من 4.1 مليار مرة، مما يجعله أحد التطبيقات الأكثر تنزيلاً في العالم.
وحيث يغدو “فن الإصغاء” جزءاً من مقتنيات الزمن الجميل، سنتوسل بشيء من السخرية، ونقترح خيارين لا ثالث لهما: إما أن تكتب رواية، أو تشترك بـ”تيك توك”!
نقلاً عن : اندبندنت عربية