احتمالات لا حصر لها تلك التي كان يفكر فيها بشار الأسد خلال رحلة هربه من مطار حميميم في مدينة اللاذقية على الساحل السوري إلى موقعه الأخير في موسكو.
“الهارب ذو الشخصية المضطربة فكرياً وذهنياً”، كما يصفه متابعوه ومراقبون وعلماء نفس، ومن عرفه من قرب يجعل التكهن بما كان يفعله أو يفكر فيه أمراً شاقاً.
اضطراب الشخصية النرجسية
لم يكُن ذلك مبالغة في وصف الأسد، فأشد المقربين منه يعرفون كيف كانت شخصيته ويصفونه بـ”العنجهي المغرور”، وعند محاولة التعمق أكثر في البحث وتحليل شخصية رأس النظام السابق تقود كل المعطيات والمؤشرات والمعلومات والتحليلات إلى أنه “مصاب باضطراب الشخصية النرجسية”.
و”لعله اضطراب رافقه منذ سنوات شبابه الأولى وعقدته من أخيه الأكبر باسل، وصولاً إلى إيجاد نفسه حاكماً على بلد ورثه عن أبيه، وفي هذا البلد حينها نحو 20 مليون ساكن، لا مواطن، ذلك أن أباه لم يسمح لأحدهم يوماً بأن يشعر بحقوق المواطنة ودرجاتها ومتطلباتها وامتيازاتها”، وفق ما يرى مراقبون.
وفوق ذلك بلد شرق أوسطي يعتبر مفتاح المنطقة ومعبر نفوذ الدول التي التقى كثيراً من قادتها قبل أن يصير رئيساً حتى، وقبل أن يكون مجهزاً لمسؤولية بتلك الضخامة، وهو الذي لأجله تم تعديل الدستور في نصف ساعة ليتولى الحكم، فقهقه في مجلس الشعب عالياً واعداً بإصلاحات تكاد تضع بلده في مقدمة الدول الفرنكفونية.
لكنه وكما خانته العبارات دائماً، كان يقصد أن يضع نفسه كشخص في مقدمة تلك الدول وأن يضع بقية الشعب في “غوانتنامو كبير للغاية وإلا كيف سيرضي أناه وهو المتوهم بأن الجميع يحيك ويدبر له المؤامرات للتخلص من الرجل المشع معرفة وخبرة وخطراً سياسياً”.
قرأ فنون العنف واستزاد
لا تهم أعوام حكم الأسد الـ10 الأولى بقدر أهمية الـ14 عاماً التي تلتها في الحرب الأهلية، على رغم أنها كانت نواة تأسيس شخصيته وهيكلة أفكاره، ولكن العبرة في التطبيق فلعله قرأ كتاب “فن الحرب” والمهم من مقدمة ابن خلدون و”كفاحي لهتلر” واطلع بصورة موسعة على سيرتي موسوليني وفرانكو واستنبط من الجميع ما يهمه ليتجاوز مرحلة الحرب بأشد الخسائر لا أقلها.
وبطبيعة الحال، فإن الجلاد تدرب ليكون دوره وظيفياً مع “التكبيل الرباعي وخراطيم التعذيب وبساط الريح والشبح وغيرها من وسائل التعذيب”، من دون أن تتناهى إلى أذنيه صرخة واحدة من أولئك المكلومين، وبذلك يكون الجلاد أرضى نزعته الفطرية للعنف، وأرضى القائد وكسب لديه مكانة من الولاء.
ومن يوالي كبير جلادي البلاد، يحصل على ربطتي خبز لا ربطة، ويحق له تجاوز الدور وامتيازات أخرى، لم تكُن تستحق أن يصفع لأجلها كفاً واحداً، لكن رحلة إثبات الولاء أصعب من الولاء نفسه، بخاصة إذا كانوا يقدمون فروض الطاعة لشخص لا تستوي فصول حكمه من دون أن يضع الأقفال في الأفواه، وما أكثر التهم التي كان يراها صاحب الشخصية المؤصلة بالمرض تلك مهددة لعرشه، فكلمات على غرار “نظام وجائعون ومفترون وحرية وآلاف الكلمات”، كلها كانت تجعله يتقلب على سريره من دون أن يعرف النوم، لا لأن شعباً جائعاً يئن كيفما التفت، بل خوفه من تنامي دور جلاد لديه.
نمط الشخصية ذلك يفرض على دماغه نوعاً من الفكر المرتبط بالحكم الأبدي على قاعدة من سيحكم بعدي؟ ومن يصلح أكثر مني ومن ذريتي؟، كنتم رعاعاً قبل والدي، ومن صفات تلك الشخصية النكران أي أن ينكر أنه قبل أبيه كان هناك آباء مؤسسون للقانون والدستور والاستقلال وميثاق الأمم المتحدة، وخلال عهودهم عاش الناس مواطنة حقة تساووا فيها وتعايشوا وأحبوا بعضهم، قبل أن يعلمهم نظامه المستمر منذ خمسة عقود كيف يكتب الأخ تقريراً في أخيه لأنه اعترض على شيء، أي شيء، ونجح كل النجاح في تحويل شعبه إلى مخبرين على بعضهم يهاب أحدهم أن يقول رأياً، فتجاوزوا الأمر، وصاروا يخافون افتتاح بسطة فتشاركهم السلطة أرباحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول الطبيبة النفسية لونا حسن بحكم مراقبتها لحركات وتصرفات وقرارات الرئيس المخلوع بشار الأسد إنه كان مصاباً باضطراب الشخصية النرجسية، وبدا ذلك واضحاً ولا يمكن إخفاؤه، موضحة أنه “نوع من الاضطرابات المعقدة التي تحتاج إلى علاج فوري بإشراف طبي تخصصي لئلا تتنامى ويصبح صاحبها مصدر تهديد فعلي للآخرين من حوله إذا كان شخصية عادية، فكيف لو كان رئيساً؟”.
وتتابع أن “تلك الحالة المرضية حين يصاب بها شخص فإنه يبدأ بالشعور بأهمية مبالغ بها حيال نفسه وتكوينه ومكانته، فيظل في كل لحظة محتاجاً إلى الاهتمام والإطراء المبالغ به، وفي حال لم يحصل ذلك، فإنه يسعى ويعمد إليه ويبدأ التصرف بطريقة تجذب الأنظار إليه ليستمع إلى ما يريد. أنا لست سياسية أو محللة في هذا الشأن، ولكن انطلاقاً من تخصصي كان يمكن لحظ الحركات البهلوانية التي يمارسها ليحظى بالمديح والاهتمام”.
وتمضي في تحليلها، “حين كنا في عنق الزجاجة وأمامنا مخرج تركي للحل، هل يعقل أن يقول في لقاء له، ’لماذا سألتقي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لنحتسي المرطبات؟‘. إنه كان يسعى إلى قول شيء يتلقى عليه المديح من حلفائه المعادين لخط أنقرة ومن مؤيديه على وسائل التواصل الاجتماعي، والأمثلة في هذا الصدد لا تنتهي إذ حكم ربع قرن بالطريقة الاستعراضية ذاتها”.
وتشرح أن “شخصية بشار لا تحتاج إلى تحليل واسع لإدراك ماهية ما تعانيه، فالمصابون بالنرجسية لديهم مشكلة في فهم مشاعر الآخرين، وخلف كل تلك الثقة ثمة ما هو هش جداً حيال تقدير الذات أو أي انتقاد، لذلك يعتبر سماع أخبار تعذيب الآخرين من غير المعجبين به أو أياً تكن تهمتهم مثار تلذذ لديه وإشباع لأناه الفوضوية الغريزية التي تستمتع بتحويل كامل محيطه إلى مصفقين ومطرين ومعجبين بل منذهلين من نباهته في كل كلمة وموقف وطريقة مشيه حتى وصولاً إلى طريقة التقاط صوره المتواترة، ليس لأن المصور يتقن مهنته، بل لأن الكاميرا تحب وجهه”.
“لم ينتحر… لم يواجه”
وتوافق المتخصصة في العلوم النفسية روان الرز على ما ذكرته الطبيبة حسن، وعند سؤالها ألم يفكر في الانتحار؟، تجيب “لا أعتقد ذلك، فالشخصية النرجسية لا تتعامل مع الواقع كما نتعامل معه، ولا تراه من منظورنا، وفي الزاوية التي نتحدث عنها أعتقد بأنه فضل الهرب لجملة من الأسباب قد أذكر أبرزها لأن الضعف والجبن من صفات هذه الشخصية، إضافة إلى توهمه بأنه قد يعود مرة أخرى لسوريا، فضلاً عن أنه سيشتري حياته التي يراها مقدسة بأي طريقة وأي ثمن ولو كان الثمن بلداً بأكمله”.
وتقول أيضاً، “النرجسي خائف وجبان ولا يثق بنفسه من الأعماق، ومن الجانب النفسي فهو كان يحتمي بآلاف الناس الذين اعتقد بأنهم سيموتون لأجله، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وعلينا هنا أن نتذكر بأن أبرز سمات النرجسيين هي الحط من قدرة خصومهم، وهو ما فعله بالضبط، ولا شك في أنه حتى سقوطه كان يراهم بضعة أفراد (مندسين) كما شاءت له نفسه التصور وكما شاء له من حوله تصويرهم”.
تضيف، “كذلك تكبّره على حلفائه، ولا أريد الإفتاء في السياسة، ولكنه رفض مراراً طلب حليفه الأكبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقاء أردوغان، لكنه سخر من طبيعة ونوعية ذلك اللقاء، فوجّه صفعة إلى حلفائه قبل خصومه، علاوة على ذلك، وهذا أقوله من منطلقين، عملي ومعرفتي كسورية، فهو أحاط نفسه بعديمي الخبرة وغير المؤهلين من أعضاء مجلس الشعب إلى الحكومة فالقيادة فموظفي القصر، وهذا طبيعي ومفهوم في حالته، إذ يريد الإحساس بالتفوق النوعي في كل ثانية، يريد تصفيقاً وتهليلاً وتعظيماً وعدم اعتراض ولو كان الحديث عن لون ربطة عنقه، يريد هتافات كيفما التفت لينتشي بها ويشعر بسطوته وقوته ومكانه الأثير الذي لا يمكن أن يشغله غيره”.
تركَ مجاعة وألبوم صور
تسلّم بشار الأسد الحكم صبياً مدللاً وتركه بملامح شخص عجوز مبغوض، وبالإجماع ذاته الذي ادعى أنه جاء به غادر به. غادر ولا أحد يطيقه أو يريد بقاءه يوماً واحداً آخر. ترك البلد وترك من إرثه في حقبة حكمه التي يسعى الناس إلى نسيانها مليون ضحية وعشرات آلاف المخفيين والمغيبين قسراً وسجوناً تضج بمن فيها ظلماً وعشرات المعتقلات التي لم يكُن أحد يتصور وحشيتها ومئات المقابر الجماعية و15 مليون سوري بين نازح ومهاجر ونصف بلد مدمر وبنية تحتية شبه معدومة وأعلى مستوى بطالة عرفه العالم وواحداً من أدنى فرص التشغيل والأجور مع اقتصاد منهار تماماً وزراعة متآكلة وصناعة متهاوية وتجارة مصادرة، وأفرع أمنية انقسمت إلى قسمين، واحد للتعذيب وآخر للجباية ومحاسبة التجار على مداخيلهم، وفوق كل ذلك ألبوم صور وهو شبه عار في معظمه ليكون ترك أخيراً للشعب ما ضحكوا عليه من شدة القهر.
نقلاً عن : اندبندنت عربية