يقيناً أن الكاتب الفرنسي المؤسس أونوريه دي بلزاك كان خلال الثلث الأول من القرن الـ19، شاباً ناضجاً يوم رحل نابوليون بونابارت منفياً مريضاً ربيع عام 1821 في جزيرة القديسة هيلينا حيث كان اعتقاله الثاني بتواطؤ الكثير من الأمم الأوروبية ضده مع أعدائه المحليين، سواء كانوا من أنصار الثورة الفرنسية التي أوجدته أو من أعدائها.

لكن بلزاك الذي كان في الـ22 يومذاك، لم يكن قد أضحى بعد، الكاتب الذي سنعرفه لاحقاً، ناهيك بأنه كان في ذلك الحين من الانشغال بغرامه الحقيقي الأول مع مدام دي بيرني، التي كان قد التقاها قبل ذلك بعامين، فشغلته عن كل شيء آخر وجعل منها لاحقاً بطلة لبعض نصوصه الأولى، ومع ذلك علينا هنا أن نتنبه إلى ما تذكره سير بلزاك التي كتبت خلال حياته وبعد ذلك، من أن الكاتب الشاب تعمد في ذلك الحين أن يكتب على تمثال نصفي للإمبراطور المهزوم جملة ظلت كالشبح تطارده وتطارد محللي حياته وأعماله “ما لم يتمكن من تحقيقه بالسيف، سوف أحققه أنا بالقلم”.

ولاحقاً حتى وإن كان قد بدا أن بلزاك نسي ذلك المشروع الطموح فإن كثراً من كاتبي سيرته لم يفوتهم أن يروا في منظومه الروائية الجامعة الأخيرة “الكوميديا الإنسانية” معادلاً للمسعى النابوليوني الكبير الذي كانته إنجازات الإمبراطور من طريق “الجيش الكبير” الذي جمعه يوماً ليسيطر به على أوروبا، فلم يبق منه اليوم سوى قوس النصر والجادة العريضة الممتدة منه مقابل جادة الشانزيليزيه حاملة اسم ذلك الجيش.

شذرات نابوليونية لاحقة

مهما يكن من أمر، لا شك أن بلزاك كان دائماً ما يورد ضمن مشاريعه المستقبلية، عملاً كبيراً يتوق إلى تحقيقه عن ذلك البطل الذي ساءه دائماً أنه لم يعش حياته كلها تحت مظلته، لكن ليس دائماً من موقع الإعجاب، بل من موقع يتعلق بنوع من التحدي الذي نجده لا يزال مسجلاً حتى اليوم على التمثال النصفي النابوليوني الذي أشرنا إليه قبل سطور.

لكن، بصورة أكثر جدية من العبارة المكتوبة بخط الفتى الذي كانه بلزاك، يمكننا أن نترصد عدداً من باحثين فرنسيين اهتموا إلى حد كبير بحضور نابليون في أدب صاحب “الكوميديا الإنسانية” وغيرها من قمم علمت الأدب الروائي وغير الروائي الفرنسي، وحملت توقيعه وضمنياً وعده بأن يحقق لأمته ذلك المجد الذي مات نابليون من دون تحقيقه… إنما بالقلم لا بالسيف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل في وسعنا أن ننطلق في هذا الاستعراض مما يبدو فيه غائباً لا حاضراً. وبالتحديد إذاً من “الكوميديا الإنسانية”، ذلك العمل الضخم الذي ضم فيه الكاتب عشرات النصوص، الروائية خاصة والتي أنتجها طوال حياته، وقد قسمها هنا إلى فصول ومجموعات تحمل عناوين مثل “القسم الأول: دراسات في الأخلاق”، و”القسم الثاني: دراسات فلسفية”، و”القسم الثالث: دراسات تحليلية”. علماً بأن القسم الأول يبقى هو الأشمل والأطول والأهم، إذ ينقسم بدوره إلى خمس مجموعات بعدما كان ينقسم إلى ست. فهناك مشاهد من الحياة الخاصة في أربعة كتب، ومشاهد من حياة الأقاليم في أربعة كتب أخرى، ثم مشاهد من الحياة الباريسية في أربعة أيضاً، وأربعة كذلك لمشاهد من الحياة العسكرية، وأخيراً مشاهد من الحياة الريفية في كتابين.

والحقيقة أن هذا كان المشروع الأولي لكنه لم يكتمل، وبخاصة منه القسم المتعلق بالحياة العسكرية، وهو بالطبع القسم الذي كان يمكن أن يتضمن مئات بل ألوف الصفحات عن نابوليون. والحال أن ليس في وسعنا هنا أن نتساءل كما فعل كثر عن سبب ذلك الغياب الذي استبدل على أية حال بحضور لنابوليون متجزئ ومتباعد، يبدو واضحاً أن بلزاك قد اكتفى به بديلاً عن حضور أكثر امتداداً وكثافة.

حين يتقلص الطموح

لكن حتى في الشذرات المتباعدة، ومن خلال تطلعات الوعود التي لم تتحقق يمكننا أن نضع قبل أي شيء نوعاً من لائحة مختصرة بالتوصيفات -أو ببعضها على الأقل- التي أسبغها بلزاك على القائد الراحل في هذه الصفحة أو تلك، هذا الفصل أو ذاك، وهو أمر يشي دائماً بأن الكاتب سيصل إلى ما هو أوسع حتى وإن كان قد استنكف عن فعل ذلك. فها هو الجنرال الكورسيكي يوصف هنا بقلم بلزاك بأنه المحرك الكبير للطاقة الفردية، ثم نجده رجل التاريخ الكبير، أو العبقري في مضمار التنظيم. بل إن بلزاك وفي نوع من التقديم للكوميديا الإنسانية نفسها يتحدث في عام 1842 عن المجتمع الذي “يؤرخ” له عبر ألوف الصفحات وعشرات الكتب المتضافرة بكونه مماثلاً للطبيعة من حيث تنظيمه، أما الذين يتولون ذلك التنظيم فإنما هم نخبة متقدمة وواعية تتألف من نحو ألفين وخمسمئة شخص يتولون شتى المهام وينظمون توزيع الأعمال وما يشابه ذلك ولكن انطلاقاً من مفهوم يقول إن مهمة هؤلاء الرئيسة إنما هي التفكير حول الأفراد “وما التفكير حول الأفراد سوى التفكير حول المجتمعات والأمم”.

 

والحال أن بلزاك يصل هنا، عند هذه النقطة بالذات إلى ذروة التعبير عن تقديره المبجل لنابوليون، وكما لم يفت فيكتور هوغو أن يذكر خلال تأبينه بلزاك في مقبرة الأب لاشيز الباريسية، فإن “الراحل كان يرى دائماً أن الفرد الذي كان من شأنه أن يفرض نفسه محركاً لتلك النخبة، ما كان يمكنه أن يكون سوى نابوليون”.

امتدادات نابوليونية

لكن بلزاك لا يكتفي بتسليم نابوليونه تلك المهمة التي يقيناً أنها لن تتحقق وتبقى وهمية بعد رحيل “القائد المغدور”، بل إنه سينشر ظل الإمبراطور عريضاً ومكثفاً على طول روايته “الشوان” التي يدور موضوعها الأساسي من حول أولئك المزارعين في مناطق بريتاني في الغرب الفرنسي من الذين قاوموا الثورة مفضلين حكماً ملكياً، وليس إمبراطورياً، عليهم. لكن قبل ظهور نابوليون الممجد على رغم التباساته في “الشوان”، لا بد أن نذكر أن أول ظهور روائي له كان في قصة بلزاكية تدور أحداثها في كورسيكا عنوانها وموضوعها “الثأر”.

ثم بعد ذلك وعشية معركة يينا، يحدثنا بلزاك في قصته “صفقة غامضة” عن لقاء مبهم بين نابوليون والقائد لورانس دي سان سيني المعروف حينها بكونه من الضباط الملكيين ويتم اللقاء بينه وبين جنرال الثورة للتباحث في شأن عدد من النبلاء كما من الضباط المخلصين للملك والذين يأملون اليوم في أن تحل مشكلتهم من دون أن يتخلوا عن ولائهم السابق. وهنا، من دون أن يكون لهذا التأكيد البلزاكي سند تاريخي، ها هو نابوليون يوافق على العفو عنهم شرط أن ينضموا إلى جيوش فرنسا الجديدة!

بين التاريخ والأدب

لكن هذا ليس كل شيء بالطبع. فحتى ولو أن بلزاك يبدو في مرات عديدة وكأنه، وكما سوف تفعل السينما الديستوبية- أي التي تعيد رواية التاريخ الحقيقي على مزاجها-، عند نهايات القرن الـ20، يخرج عن سياق الوقائع التاريخية الحقيقية، هانحنذا يطالعنا نابوليون في روايات بلزاكية أخرى، كما الحال مثلاً في رواية “طبيب في الريف” حيث الجنرال العجوز غوغيلا، لا يتوقف عن إمتاع مجالسيه بما يرويه عن نابوليون، أو الكاتب كاناليس يلقي أمام مستمعيه أنشودة في مديح الإمبراطور قل نظيرها في القصة المعنونة “دراسة أخرى عن امرأة”، واصفاً إياه بحسب ما يذكر واحد من الباحثين الفرنسيين الذين شاركوا في تتبع الحضور النابوليوني في أدب بلزاك، بكونه “رجلاً يمكنه القيام بكل ما يريد القيام به لأنه  يريد ذلك. ولأنه رجل كان لديه في رأسه رمز وسيف… كان يملك القول والفعل…”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية