لأيام عدة أثناء منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي حدث شيء على الإنترنت لم يحدث من قبل، في الأقل ليس بهذا الحجم. اجتمع ملايين المستخدمين من الولايات المتحدة والصين على منصة واحدة للدردشة وتبادل النكات المصورة، وإرسال صور حيواناتهم الأليفة لبعضهم بعضاً.
جاء هذا التبادل الثقافي غير المتوقع نتيجة للحظر المرتقب لتطبيق “تيك توك” في الولايات المتحدة، على خلفية مخاوف متعلقة بارتباط التطبيق بالصين. ووصفت وزارة العدل الأميركية “تيك توك” بـ”الخطر على الأمن القومي”، زاعمة أنه يمكن استخدامه لنشر الدعاية والتجسس على المواطنين.
لكن البديل الذي وجده من أطلقوا على أنفسهم اسم “لاجئي تيك توك” لتطبيق الفيديو واسع الانتشار هو “ريد نوت” RedNote، وهو تطبيق ذو روابط أوثق بالصين. وانضم نحو 3 ملايين أميركي للتطبيق خلال الأيام التي سبقت الحظر وسط ترحيب ودود من 300 مليون شخص يستخدمونه بالفعل.
وقال مستخدم صيني في فيديو “هذا جنون حقاً. لم يكن أي أحد ليتوقع أن نلتقي بهذه الصورة في يوم من الأيام ونتواصل بهذه الحرية”.
وعندما طلبت إحدى المستخدمات المساعدة لإنجاز فرض اللغة الإنجليزية، انهالت عليها أكثر من 500 إجابة من مستخدمين أميركيين يعرضون مساعدتهم. وفي لفتة طريفة، اتفق المستخدمون على أن كل أميركي جديد ينضم إلى المنصة عليه أن يدفع ضريبة بأن يشارك صورة لقطته.
انتشر هذا التفاعل الودي الافتراضي ليعم تطبيقات أخرى، إذ سجل تطبيق “ديولينغو” Duolingo لتعليم اللغات ارتفاعاً مفاجئاً في عدد مستخدميه بلغ 200 في المئة. ونشرت الشركة على صفحتها للتواصل الاجتماعي “آه، الآن تريدون تعلم اللغة الصينية!”.
حتى إن بعضاً وصفوا الوضع بلحظة “جدار برلين لعام 2025″، إذ منح تطبيق “ريد نوت” المستخدمين الأميركيين لمحة عن البلاد تتخطى الحاجز السيبراني الذي يفصل البلدين عادة، ويسمى جدار حماية الصين العظيم. وتفرض هذه القيود رقابة مشددة على ما يمكن للمواطنين نشره أو الاطلاع عليه على الإنترنت، إذ تحظر مواقع مثل “يوتيوب وفيسبوك وويكيبيديا” على 1.4 مليار شخص في الصين.
حتى “تيك توك” على رغم أنه مملوك لشركة صينية فإنه غير متاح في الصين. وبدلاً منه، تمتلك الشركة الأم “بايت دانس” تطبيقاً منفصلاً يسمى “دوين” مخصصاً للمستخدمين الصينيين، وهو بدوره غير متاح في الولايات المتحدة.
وهذا ما يجعل من “ريد نوت” طفرة نادرة، إذ مد جسراً تجاوز جدار الحماية الصيني العظيم وسمح لمستخدمي الإنترنت من الطرفين بالتواصل والتفاعل.
وكتب أحد المستخدمين إنها “لحظة غريبة كثيراً. إنها المرة الأولى منذ فترة طويلة التي يتفاعل فيها مستخدمو الإنترنت الصينيون والأميركيون بحرية من دون أي وسيط أو شبكة افتراضية خاصة (virtual private network)… لن يمر وقت طويل برأيي قبل أن يفصلهما “ريد نوت”، لكنني آمل ألا يحدث ذلك. فهذا التفاعل جميل حقاً”.
ومن المعلوم أن الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب وقع أمراً تنفيذياً يمنح منصة “تيك توك” مهلة 75 يوماً إضافية، مما يعني أن “بايت دانس” لديها حتى أبريل (نيسان) كي تجد مشترياً أميركياً لعملياتها في البلاد، إن أرادت تجنب الإغلاق التام.
لكن خلال اليوم الذي وقع فيه ترمب الأمر، أطلقت شركة صينية أخرى هي “ديب سيك” DeepSeek أحدث نسخة لتطبيقها، وهو روبوت دردشة قائم على الذكاء الاصطناعي ومزود بإمكانات مشابهة لتلك التي صممتها الشركات الأميركية، ومصنوع بكلفة منخفضة جداً.
وفي غضون أسبوع من تنصيب ترمب رئيساً، كان “ديب سيك” أطاح بـ”تشات جي بي تي” الذي كان يتربع على عرش قوائم التطبيقات، مما أدخل قطاع التكنولوجيا الأميركي في دوامة كلفته مليارات الدولارات. فقد نجحت مجموعة صغيرة من الباحثين لديها موازنة ضئيلة نسبياً بصناعة منتج دفعت شركات مثل “ميتا” و”أوبن أي آي” مليارات الدولارات لصناعته. هذا على رغم أن التعريفات الجمركية الأميركية حرمت “ديب سيك” من الوصول حتى إلى أحدث شرائح الكمبيوتر من “إنفيديا” لتشغيل تقنيتها الذكية.
وقال مؤسس “غلوبال تيك أدفوكتس” [شبكة دولية من المهنيين والخبراء في قطاع التكنولوجيا تهدف إلى تعزيز الابتكار ودعم نمو صناعة التكنولوجيا في مختلف أنحاء العالم] راس شو لـ”اندبندنت”، “شكل وصول ’ديب سيك‘ تحولاً كبيراً في قطاع الذكاء الاصطناعي العالمي، وتصدى لهيمنة عمالقة التكنولوجيا الأميركيين ومهد لمنافسة شديدة. لا شك أننا نشهد لحظة حاسمة يمكنها تغيير صورة الابتكار والتقدم الاقتصادي للأعوام المقبلة”.
ومع وصول “ديب سيك” إلى الساحة، حصل المستخدمون الأميركيون على لمحة عن الحياة وراء جدار الحماية العظيم، هذه المرة بفضل الذكاء الاصطناعي الصيني. وسرعان ما أدركوا أنه على رغم ذكاء البرنامج، فهو لا يجيب عن أسئلة بسيطة تتعلق بالرئيس الصيني أو بالشخصية الكرتونية ويني الدبدوب. كما أثار نفس المخاوف المتعلقة بالأمن القومي والخصوصية التي آثارها “تيك توك”.
وحذر الباحثون في شؤون الأمن من هذه التطبيقات التي قد تشكل فعلاً خطراً أكبر من “تيك توك” على الولايات المتحدة، إذ يجمع بعضها معلومات خاصة ومعلومات مالية وحتى تفاصيل متعلقة بالعرق، ويخزنها على خوادم في الصين.
وفي حديث إلى “اندبندنت”، قال أحد كبار الباحثين الأمنيين في شركة “كاسبرسكي” للأمن السيبراني مارك ريفيرو “تتمادى ’ريد نوت‘ في هذا المجال فتطلب الأسماء الحقيقية للأشخاص وصور الهوية الشخصية وحتى فحصاً للون البشرة. كما أن دمج خاصيتي التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية كفيل بتشكيل خطر إضافي على معلومات المستخدمين المالية. وهذا يعني أن أي خرق يظهر في أمن ’ريد نوت‘ لا يشكل خطراً على تاريخ تصفحنا للإنترنت ولا تسجيلات الإعجاب، بل على الهوية الشخصية أو ربما معلومات أكثر حساسية من ذلك”.
وتحيط مخاوف مشابهة ببرنامج “ديب سيك” فيما زعم أحد خبراء القطاع أن أحدث نسخ البرنامج “متداخلة بصورة أوثق مع الحزب الشيوعي الصيني”. وقال الرئيس التنفيذي لمنصة الذكاء الاصطناعي “بيبلز”، التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، أمين جان توران “هناك خطر بأن تستخدم البيانات التي تعالجها سحابة ’ديب سيك‘ لمصلحة الحزب الشيوعي الصيني. والنموذج المعتمد على مصدر مفتوح حيث الشفافية ضئيلة أو معدومة، يفاقم هذا الخطر”.
ولم يظهر أي دليل بعد على اختراق بيانات المستخدمين، وقد تكون مقاربة المصدر المفتوح التي يتبناها “ديب سيك” أكثر أماناً من عمليات تعقب البيانات التي تستخدم على نطاق أوسع بكثير من قبل الشركات الأميركية مثل “غوغل” و”ميتا”. وبعد فترة قصيرة من انتشار “ديب سيك”، نشر موظف في “أوبن أي آي” تغريدة على “إكس” لتحذير المستخدمين من البرنامج. وكتب ستيفن هايدل “لا شك أن الأميركيين مولعون بالتبرع بمعلوماتهم الشخصية للحزب الشيوعي الصيني لقاء أشياء مجانية”.
لكن سرعان ما سلط مدققو الوقائع الضوء على منشوره لافتين إلى أنه خلافاً لـ”تشات جي بي تي” المملوك لشركة “أوبن أي آي”، يمكن تشغيل نموذج “ديب سيك” للذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر من أي مكان دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت، ولن ترسل بالتالي أية بيانات لجهات ثالثة.
وبعد أعوام من الهيمنة الأميركية، أصبحت التطبيقات الصينية تشكل منافسة حقيقية لتطبيقات وادي السيليكون وعمالقة التكنولوجيا الأميركيين. وتحتل “ديب سيك” الصدارة في قائمة أكثر التطبيقات تحميلاً في الولايات المتحدة منذ أسبوع تقريباً، فيما تظهر تطبيقات صينية أخرى في هذه القوائم أيضاً.
لكن “تيك توك” ليس مدرجاً في القائمة لأنه على رغم أمر ترمب التنفيذي، لا يزال التطبيق محظوراً على متجري “أبل” و”غوغل”، بينما تظهر أسماء تطبيقات التسوق بأسعار منخفضة، مثل “تيمو” و”شي إن”، ضمن أول 20 تطبيقاً.
برز هذا النمو الرهيب في شعبية التطبيقات الصينية في ظل معركة على الهيمنة التكنولوجية بين البلدين، وسباق تسلح يعتمد على الذكاء الاصطناعي، ومخاوف من حرب تجارية مرتقبة بين الولايات المتحدة والصين.
يشتهر ترمب بإجراءاته الانتقامية ضد السياسات التي يعتقد أنها غير عادلة، وتحدث مؤيده ومموله إيلون ماسك علناً عن عدم عدالة شهرة التطبيقات الصينية في الولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذ كتب على “إكس” (تويتر سابقاً)، “ينم الوضع الحالي الذي يسمح لـ’تيك توك‘ بالعمل في أميركا بينما ’إكس‘ ممنوع من العمل داخل الصين عن اختلال في التوازن. يجب أن يحدث تغيير”.
هذا الخطاب أثار مخاوف من أن الولايات المتحدة قد تبني جداراً مشابهاً لـ”جدار الصين العظيم”، فيما أشار بعض إلى أنه يجدر بترمب التركيز على بناء ذلك الجدار بدلاً من بناء جدار على الحدود الجنوبية للبلاد.
هذا وحظرت البحرية الأميركية “ديب سيك” بالفعل معللة ذلك بأنه يشكل “مخاوف أمنية وأخلاقية”، مما يعكس خطوات مماثلة اتخذت خلال الفترة التي سبقت الحظر التام الذي فرض على “تيك توك”.
ومن جهة أخرى، تحدث الرئيس الصيني شي جينبينغ عن “تعزيز التبادل الثقافي بين الشعبين” في الصين والولايات المتحدة. واتخذ المشرعون في الصين خطوات إضافية من أجل إزالة جدار الحماية العظيم بغية تحسين التطور التكنولوجي واستقطاب رؤوس الأموال والمواهب الأجنبية.
وأثبتت تطبيقات مثل “ريد نوت” و”ديب سيك” أن التكنولوجيا الصينية بلغت مستوى يصعب معه إخضاعها. وكشف التفاعل بين مستخدمي الإنترنت من الجانبين عندما انتشر “ريد نوت” أن “الميمز” يمكن أن تتفوق على السياسة عندما تكون التفاعلات غير مقيدة. بغض النظر عن التحركات التي قد تتخذها واشنطن والصين، يمكن للتكنولوجيا أن تجد طريقها.
وكما قال المدير التنفيذي لمجموعة “ديفير” لإدارة الأصول نايجل غرين لـ”اندبندنت”، “كشف إنجاز ’ديب سيك‘ في عالم الذكاء الاصطناعي حدود تعريفات ترمب الجمركية، إذ تحدى قدرة واشنطن على تقييد صعود الصين التكنولوجي”.
وأضاف “يشكل إنجاز ’ديب سيك‘ دليلاً على أن الابتكار سيشق دوماً طريقاً للتقدم، مهما كانت العوائق الاقتصادية والسياسية أمامه”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية