منذ عرضه في مهرجان “كان” العام الماضي، إذ فاز بجائزتين، لم يتوقف الفيلم عن خطف قلوب النقاد من جهة وإثارة الجدل من جهة أخرى، وصولاً إلى الهيمنة الكاملة على جائزة “الأوسكار” التي ستوزع في بداية مارس (آذار) المقبل. فعلى رغم أن الفيلم استعان بممثلة عابرة جنسياً (كارلا صوفيا غاسكون)، لم يسلم من انتقادات لاذعة على هذا المستوى، فبعضهم أخذ عليه “رجعيته” وتكريسه صورة سلبية مملوءة بالكليشيهات عن العابرين جنسياً، هذا إضافة إلى انتقادات شملت النظرة السطحية الملقاة على الثقافة المكسيكسة.
ولكن بعيداً من هذه المهاترات التي تحمل أمراض العصر، يطرح سؤال نفسه: هل يستحق هذا الفيلم 13 ترشيحاً، خصوصاً أنه في مهرجان “كان” الأخير لم يستطع حتى التغلب على فيلم “أنورا” الفائز بـ”السعفة”، مكتفياً بجائزة لجنة التحكيم. وهل هو فعلاً أهم من كثير الأفلام، لا سيما “الوحشي” لبرادي كوربيت الذي يعتبره كثر تحفة العام الماضي، وظفر بـ10 ترشيحات.
مع “إميليا بيريز” يتخطى جاك أوديار الحدود التقليدية للفن السينمائي، من خلال تجربة بصرية سمعية تجمع بين الموسيقى والمأساة وتتطرق إلى قصة شخصية غير عادية في عالم الجريمة المنظمة في المكسيك. إنها قصة تاجر مخدرات يدعى مانيتاس ينتمي إلى أحد الكارتيلات الكبرى، ولكن خلف قسوته ورؤيته الجشعة للعالم، يختبئ حلم قديم بدأ يراوده منذ طفولته: التحول إلى امرأة.
يبدأ الفيلم مع قرار مانيتاس السعي وراء هذا الحلم والتحول إلى إميليا بيريز، يلتقي محامية متمرسة، ولكن يتأكلها شعور باليأس جراء دفاعها الدائم عن المجرمين، على رغم معرفتها بجرائمهم. هذه المحامية تصبح الشخص الوحيد الذي يدعمه في محاولته للعبور الجنسي، فهي التي تتحمل عبء مساعدته في العثور على الجراح الذي سيتولى الجراحة، وتنظيم عملية تهريب عائلة إميليا إلى سويسرا، إذ يخططان لبدء حياة جديدة بعيدة من دوامة العنف والجريمة.
المزج بين الأسلوب الموسيقي والمحتوى الدرامي نقطة يمكن الثناء عليها على رغم أفقه المحدودة، إذ يخلق سرداً يعكس تطور الشخصيات النفسية. يستخدم أوديار هذا المزج ليجسد معاناة إميليا في سعيها وراء هويتها الحقيقية، بينما يتوازى ذلك مع العنف المستشري بين العصابات، يرسم الفيلم علامات استفهام كبيرة حول التسامح والندم والتوبة.
شخصية حقيقية
شخصية إميليا تجسدها الممثلة كارلا صوفيا غاسكون، التي هي نفسها امرأة عابرة جنسياً منذ عام 2018. وهذا يضفي مزيداً من الصدق والواقعية على شخصية إميليا، لكونها تمثل رحلة التغيير وسؤال الهوية اللذين يجعلان الفيلم أكثر تعبيراً عن التحديات الحقيقية لأفراد يسعون إلى إيجاد أنفسهم في عالم همشهم تاريخياً.
عبر سيرة شخصية تختلط تفاصيلها بتفاصيل عامة، يأخد أوديار الفيلم إلى منطقة أخرى يصبح فيها نضالاً ضد النظام الاجتماعي، وبحثاً عن الخلاص والتوبة في عالم يفيض بالقسوة. وتظل الموسيقى والرقص أدوات تعبيرية تؤكد التوتر بين الحلم والواقع، بين العنف والبهجة، وبين الماضي والمستقبل.
يمكن إلقاء التحية على أوديار لأسلوبه المبتكر والمغامر، فهو اختار تصوير الفيلم في المكسيك بلغة ليست لغته الأم (الإسبانية)، لاجئاً إلى نمط سينمائي هجين. ولكن على رغم الإمكانات المادية الضخمة التي حظي بها، ونجوم مثل زويه سالدانا وسيلينا غوميز، فالفيلم يعاني وطأة الملل الذي قد يثقل كاهل المتفرج في بعض اللحظات. وعلى رغم الإحساس الواضح بوجود محاولات لتقديم شخصية إميليا موضوعياً، فالمشاهد يجد صعوبة في التعلق بها أو الانخراط في مسارها. فمن الصعب أن نتعلق بشخصيات عابرة، يعيش معظمها في عالم مليء بالأحداث المتسارعة لكنها تفتقر إلى العمق العاطفي الذي يمكنه أن يجعلنا نهتم بمصيرها. هذا على رغم أن أوديار اختار عدم إدانة أفعال شخصياته، بل سعى إلى رسم مسار حياتها في شكل يعكس محاولات التحرر والولادة من جديد.
أوديار، المعروف بتنوعه الحيوي في تناول المواضيع السينمائية، يغامر هنا على أرض متحركة وهشة مثل التحول الجنسي والمخدرات، لكنه يتجنب الوقوع في فخ الفيلم الدعائي الذي ينتصر لقضايا معينة، بل يقدم معالجة تنبذ النظرة الأحادية لهذه القضايا، محاولاً تجاوز حدود المعتاد.
“إميليا بيريز” تجربة سينمائية تخلط بين الألم والجمال، وفيه تتم مداواة التراجيديا بالموسيقى والرقص، لكن هذا يأتي على حساب التفاعل العاطفي الحقيقي مع الأحداث. فكيف يمكن أن ننسى أن الجريمة المنظمة تودي بحياة آلاف سنوياً، وتخلق معاناة مروعة لأمهات يبحثن عن جثث أبنائهن وسط صراع العصابات، ولكن بدلاً من الغوص في هذه المعاناة بشدة، نجد أنفسنا نرقص ونغني على أطلالها. من أشاد بالفيلم يرى أن المزج بين التراجيديا والموسيقى يسهم في تخفيف حدة المعاناة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يأخذنا الفيلم من مكان إلى آخر بلا توقف، تاركاً إيانا في حال من الضياع، مع شخصيات تتحدث كثيراً وتتصارع في ما بينها، في إطار حيوي يفيض بالروح اللاتينية التي لا تهدأ. تكمن براعة أوديار في خلق أجواء غنية بتفاصيل جمالية، مع استخدام ألوان دافئة تعزز من تأثرنا البصري. أما الموسيقى فهي جزء لا يتجزأ من الحوار، بحيث تتناغم الأغاني مع مجريات الأحداث.
يعمل الفيلم على ترسيخ صورة لامرأة كانت في يوم ما رجلاً وتحاول إصلاح ما أفسده الماضي، ولكن مهما تكن هذه الصورة مثيرة من منظور اجتماعي، فهي تظل خلواً من الروح الإنسانية. في النهاية، هذا فيلم قد يعجب الذين يؤمنون بتغيير المجتمع بواسطة القوة الأنثوية، حتى وإن تكن هذه القوة تنبع من شخص عابر للجنس.
نقلاً عن : اندبندنت عربية