أعرب زعماء ثلاث دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، تقع على خط المواجهة الشرقي مع روسيا، عن مخاوفهم في شأن استعدادات الـ”ناتو” لمواجهة روسيا بقيادة فلاديمير بوتين من دون دعم من الولايات المتحدة. وحضوا الحلفاء الآخرين في المنظمة على تعزيز الاستثمار الدفاعي بصورة كبيرة.
وكان زعماء كل من لاتفيا وإستونيا وفنلندا طالبوا في أعقاب فوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية باتخاذ إجراءات حاسمة لتعزيز دفاعات أوروبا، معتبرين أن الوقت حان لذلك، ومحذرين من خطورة المضي في “نقاشات مطولة لا تنتهي” في شأن طريقة التعامل مع التهديد الروسي المتزايد.
الرئيس اللاتفي إدغارز رينكيفيكس قال “نحن بلا شك غير مستعدين، وهذا واضح للغاية”. ونبه إلى أخطار الاعتماد فقط على وضع تواصل فيه الولايات المتحدة لعب دور في الدفاع عن أوروبا.
رئيس الوزراء الإستوني كريستن ميخال الذي يتفق مع هذا الرأي قال “علينا تعزيز قدراتنا الدفاعية بصورة كبيرة رداً على التهديد الروسي المستمر، وعدم قدرتها على أن تكون دولة ديمقراطية تعمل في عالم يحكمه القانون”.
معلوم أن البلدان الثلاثة هذه هي الدول الوحيدة في حلف شمال الأطلسي التي تتقاسم حدوداً مع روسيا، تمتد على مسافة ألف و200 ميل (1.931 كيلومتراً) بدءاً من المناطق الشمالية لفنلندا، وصولاً إلى الزاوية الجنوبية الشرقية للاتفيا، التي تقع أيضاً على الحدود مع بيلاروس، وهي دولة حليفة بصورة وثيقة لبوتين، وكانت بمثابة نقطة انطلاق لغزو موسكو لأوكرانيا.
وتعد فنلندا وإستونيا ولاتفيا كذلك من بين أكثر دول حلف الـ”ناتو” إنفاقاً على موازنات الدفاع، مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي.
ويفرض حلف شمال الأطلسي على أعضائه تخصيص ما لا يقل عن اثنين في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي لموازنة الدفاع، لكن حتى وقت قريب لم يتمكن سوى ثلث تلك الدول من تحقيق هذا الهدف. وفيما ارتفعت النسبة الآن إلى الثلثين يحذر الخبراء من أن الإنفاق الإجمالي بات منخفضاً للغاية وغير كاف. وفي الجهة المقابلة من المتوقع أن تخصص روسيا 6.3 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع بحلول مطلع عام 2025.
هذا وتنفق إستونيا على موازنتها الدفاعية ما نسبته 3.4 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، وهي ثاني أعلى حصة بين أعضاء حلف شمال الأطلسي، ولا تتجاوزها سوى بولندا. وتخصص لاتفيا 3.15 في المئة مما يجعلها رابع أكبر منفق بعد الولايات المتحدة، في حين تستثمر فنلندا ما يزيد بقليل على 2.4 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي في الدفاع.
المملكة المتحدة تحل في المرتبة التاسعة من حيث الإنفاق الدفاعي لدول حلف شمال الأطلسي، بحيث تخصص ما نسبته 2.3 في المئة فقط من ناتجها المحلي الإجمالي، على رغم وعد حكومة حزب “العمال” برفع هذه النسبة إلى 2.5 في المئة. ومع ذلك فإن هذا الرقم يخفي حقيقة مفادها أن الإنفاق الدفاعي في المملكة المتحدة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ظل من دون تغيير إلى حد كبير منذ عام 2014، في حين ضاعفت دول مثل إستونيا وفنلندا ولاتفيا موزاناتها الدفاعية تقريباً خلال تلك الفترة.
وكان قرار كل من فنلندا والسويد التقدم بطلب الحصول على عضوية حلف الـ”ناتو” خلال مايو (أيار) عام 2022، وهو ما مثل نهاية لعقود من الحياد الذي اتبعته الدولتان، لقي ترحيباً من دول المنظمة، واعتبر بمثابة تعزيز كبير للقدرة العسكرية للحلف. وأدى انضمامهما بعد نحو عام إلى مضاعفة حدود حلف شمال الأطلسي مع روسيا.
ويعد الجيش الفنلندي أحد أكبر الجيوش في أوروبا بحيث يبلغ قوامه 280 ألف جندي. ويقول رئيس البلاد ألكسندر ستاب أنه يمكن “تعبئة القوات المسلحة بسرعة وتجهيزها بالكامل في غضون أسبوع”. وتلقى نحو 20 في المئة من مواطني فنلندا البالغ عددهم 5 ملايين و500 ألف نسمة تدريباً عسكرياً، وذلك بفضل برنامج الخدمة الوطنية الإلزامية.
ورداً على المخاوف المتزايدة من عدوان قد تشنه روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، قامت فنلندا بتوسيع جيشها بصورة كبيرة خلال الأعوام الأخيرة. ومنذ عام 2022 ارتفع إنفاقها الدفاعي بنحو 0.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وخلال وقت شنت فيه القوات الروسية غزوها واسع النطاق داخل أوكرانيا في فبراير (شباط) عام 2022، أنهت هلسينكي أكبر صفقة إنفاق عسكري لها على الإطلاق، بحيث حصلت على 64 طائرة مقاتلة من طراز “أف 35 أي” F-35A بكلفة تقدر بـ7 مليارات و500 مليون جنيه استرليني (9 مليارات و375 مليون دولار أميركي).
وفي تعليق على المشتريات العسكرية الفنلندية الأخيرة وتعزيز القوات العسكرية، قال الرئيس ستاب “نحن لا نستثمر في هذا الجانب بسبب مخاوف مصدرها ستوكهولم أو لندن. إنها في الواقع موسكو التي نشعر بقلق في شأنها”.
يشار إلى أن حاجة أوروبا لتعزيز إنفاقها الدفاعي قضية ملحة تسبق إعادة انتخاب دونالد ترمب، لكن عودة الملياردير “الجمهوري” إلى البيت الأبيض سلطت الضوء على عدم كفاية الاستعداد العسكري لدى كثير من أعضاء حلف شمال الأطلسي، ولا سيما في أوروبا الغربية.
وكان الرئيس المنتخب الذي سيصبح قريباً الزعيم الـ47 للولايات المتحدة أعلن مطلع العام الحالي عن نيته السماح لروسيا “بأن تفعل ما تريده” بأعضاء حلف الـ”ناتو”، الذين يفشلون في دفع نصيبهم العادل في التحالف.
هذا التصريح أثار انتقادات بتقويض المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، التي تنص على أن الهجوم على أحد أعضاء التحالف يعد هجوماً على جميع الدول الأعضاء. ومع ذلك رحب الرئيس ستاب بما وصفه بـ”الضغط” الذي يقوم به دونالد ترمب، مؤكداً في المقابل ضرورة أن يعطي أعضاء الحلف الأولوية “للقدرات بدلاً من مجرد الإنفاق”.
ورأى ستاب أنه “يتعين على الجميع تصحيح عجزهم في الدفاع”، مشيراً إلى أنه يجب على أوروبا أن تتجاوز نهج حقبة “الحرب الباردة” المتمثل في تقليص قواتها العسكرية. أما في ما يتعلق بموضوع استمرار الولايات المتحدة في الحلف، فقد أضاف “لا أعتقد أن حلف شمال الأطلسي يمكن أن يوجد من دون الولايات المتحدة”.
ويقول الرئيس اللاتفي رينكيفيكس إن مناقشات تُجرى في شأن زيادة الحد الأدنى المطلوب للإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء.
وفي الاجتماع الذي عقده الزعماء الأوروبيون في العاصمة الإستونية تالين الشهر الجاري دعا وزير دفاع إستونيا هانو بيفكور إلى وضع هدف أكثر طموحاً، عندما اقترح على أعضاء الحلف أن يخصصوا ما يصل إلى خمسة في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي للدفاع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما لم يعرب أي من الزعماء الأوروبيين عن اعتقادهم بأن دونالد ترمب قد يسحب بلاده من حلف الـ”ناتو”، على رغم تشككه طويل الأمد في التحالف، فإن مخاوف تسود من أن الولايات المتحدة تحت قيادته قد تركز اهتمامها في نهاية المطاف على الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما فيها الدفاع عن تايوان.
ويقول الرئيس الفنلندي ستاب إن “العدو أو المنافس الأول للولايات المتحدة هو الصين”، لكنه في المقابل يضيف أنه يعتقد أن ترمب يدرك مع ذلك أهمية التحالفات في مواجهة بكين.
ويحذر خبراء من أنه إذا حولت الولايات المتحدة اهتمامها ومواردها بسرعة كبيرة نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من دون إعطاء أوروبا الوقت الكافي لتصبح أكثر استقلالية في مجال الدفاع، فقد تجد نفسها مضطرة للعودة إلى قضايا الأمن الأوروبي بكلف أكبر بكثير.
ويرى الرئيس الفنلندي أن “من مصلحة الولايات المتحدة أن تظل منخرطة (في أوروبا)”، ويقول “في نهاية المطاف أعتقد أن التحالفات المتجذرة في القيم المشتركة تستمر لفترة أطول بكثير من تلك القائمة على المصالح المتبادلة فقط”.
ويرتبط التركيز الأساس المتزايد من جانب أوروبا على الإنفاق الدفاعي ارتباطاً وثيقاً بالتزامها دعم أوكرانيا ضد العدوان الروسي. وبغض النظر عن التشكيك في دعم الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، فقد تعهد دونالد ترمب بالتخلي عن الفلسفة الغربية السائدة المتمثلة في دعم كييف حتى طرد جميع القوات الروسية من أراضيها.
وأكد أن أعمال العنف من الجانبين يجب أن تتوقف فوراً، واعداً بوقف الحرب خلال 24 ساعة من توليه مهام منصبه. ومع ذلك يتخوف كثر من أن يتضمن ذلك الضغط على أوكرانيا التخلي عن أجزاء من أراضيها المحتلة خلال الوقت الراهن، لروسيا.
وأقر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن الجيش الأوكراني ليست لديه بعد القدرة اللازمة لاستعادة جميع الأراضي الواقعة خلال الوقت الراهن تحت الاحتلال الروسي، بما في ذلك أربع مناطق في شرق البلاد وجنوبها، إضافة إلى شبه جزيرة القرم على البحر الأسود.
وعلى رغم ذلك فإن الدول التي تقع على خط المواجهة في أوروبا، تظل حازمة في موقفها الذي يعد أن مكافأة فلاديمير بوتين على عدوانه أمر غير مقبول، وتعد أن أمن القارة يتوقف على انتصار أوكرانيا.
ويقول رئيس وزراء إستونيا ميخال “بصراحة شديدة، عندما تكون روسيا في حال حرب مع أوكرانيا وتواجه الهزيمة هناك، فمن الواضح من سيكون التالي”. ويضيف “إذا سمحنا لروسيا، كنظام يمارس التنمر والبلطجة، بالاستيلاء على أراض بالقوة، ومن ثم إضفاء الشرعية على جزء من الأراضي التي قامت بغزوها، فإن ذلك يبعث بإشارة سيئة للغاية في ما يتعلق بمستقبل العالم الديمقراطي”.
إلا أن اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في حماية أراضيها وعجزها عن القيام بذلك بنفسها، يكشف عمق التحديات التي تواجهها في الإبقاء على الدعم العسكري الذي تقدمه لأوكرانيا.
عندما اعترف الرئيس زيلينسكي بأن أوكرانيا ليست لديها القدرة على استعادة الأراضي التي تحتلها روسيا، كان من المهم أنه أكد أن “الضغط الدبلوماسي” هو الوسيلة الوحيدة لمنع الرئيس الروسي من الاستفادة من الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
الرئيس الأوكراني أشار أيضاً خلال اجتماع عقد في بروكسل الأسبوع الماضي إلى أن الضمانات الأمنية الأوروبية وحدها لم تكن كافية للتوصل إلى حل دائم للصراع. ورأى أن الضمانات التي تدعمها الولايات المتحدة هي وحدها القادرة على ردع اعتداءات روسية في المستقبل.
الرئيس اللاتفي رينكيفيكس قال “إننا نتعاون مع الإستونيين والفنلنديين على تدريب قوات أوكرانية، لكن قدرتنا الراهنة لا تكفي”.
وأضاف “أود الإشارة إلى أن التحدي الراهن لا يقتصر على تردد بعض الدول في تزويد أوكرانيا بالأسلحة فحسب، بل يكمن أيضاً في أن قطاع الدفاع يجد صعوبات في تلبية مستويات الإنتاج المطلوبة. وبينما نزود أوكرانيا بما نستطيع لكننا في كثير من الحالات وصلنا بالفعل إلى حدود مواردنا الخاصة”.
وفي تعليق على ما تقدم قال متحدث باسم حكومة المملكة المتحدة “يعد حلف شمال الأطلسي التحالف الدفاعي الأكثر فاعلية في التاريخ، بحيث يضمن مقداراً أكبر من السلامة والأمن لنحو مليار شخص يحميهم، بمن فيهم سكان المملكة المتحدة”.
وأضاف “نحن نخصص خلال الوقت الراهن ما نسبته 2.3 في المئة من ناتجنا المحلي الإجمالي للدفاع، والتزمنا رفع هذه النسبة إلى 2.5 في المئة خلال أقرب فرصة”.
وختم بالقول “إن دعمنا لأوكرانيا لا يتزعزع، مع تعهدنا بتقديم 3 مليارات جنيه استرليني (3 مليارات 750 مليون دولار) سنوياً كمساعدات عسكرية لكييف، طالما كانت هناك حاجة لها”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية