هل يقضي ترمب على دبلوماسية المناخ خلال ولايته الثانية؟

ما زلت أستحضر لحظات التفاؤل التي سادت أروقة مؤتمر مراكش للمناخ عام 2016، كأول قمة مناخية كبرى بعد دخول اتفاق باريس التاريخي حيز التنفيذ، حينها بدا أن دبلوماسية المناخ قادرة على رسم مستقبل أفضل للعالم.

غير أن اليوم الثاني للمؤتمر حمل في طياته تحولاً دراماتيكياً، فبعد خلود جميع المشاركين للنوم في سكينة تامة خالية من أي قلق، استيقظنا في الساعات المبكرة من الفجر على وقع خبر فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية، لتنقلب أجواء التفاؤل رأساً على عقب. وفي غضون دقائق، انهمرت الدموع في أروقة المؤتمر، وتحول التفاؤل الجماعي إلى مزيج من القلق والرعب، وأضحى مؤتمر المناخ الذي استمر على مدار أسبوعين يشبه مشهداً واقعياً من مسلسل “الموتى السائرون” The Walking Dead.

وكشفت تلك التجربة المريرة كيف يمكن لتغير القيادة في البيت الأبيض أن يحدث تداعيات هائلة على الساحة الدولية، واليوم يخيم الشبح نفسه على أروقة مؤتمر المناخ في باكو “كوب 29″، بسبب تصاعد المخاوف من تكرار سيناريو 2016.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عام 2016، خيمت حالة غموض على المشهد الدولي، إذ لم يدرك أحد ما ستحمله رئاسة ترمب من تداعيات. غير أن المخاوف كانت تتركز حول مصير اتفاق باريس التاريخي – تلك المعاهدة التي نجحت للمرة الأولى في توحيد جهود دول العالم تحت مظلة واحدة – إذ بات آنذاك مهدداً بالانهيار.

ويحذر كبار الدبلوماسيين في العالم، عبر رسالة مفتوحة، من أن العالم قد يكون على أعتاب تحول جذري جديد. وعلى رغم أن الحكم على الأمور قد يبدو سابقاً لأوانه، إلا أن التساؤل حول مدى صمود الهياكل الحالية لدبلوماسية المناخ أمام هذه التحديات – وإن كان يجب عليها ذلك، يظل مشروعاً.

ولكن ترمب ليس التطور الوحيد الذي يجب على العالم أن يواجهه، إذ شكل قرار الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي بسحب وفد بلاده من مؤتمر باكو، جرس إنذار جديد للمجتمع الدولي. وتتزايد المخاوف مع اقتراب موعد انتخابات مصيرية لقضية المناخ في دول مثل ألمانيا وكندا وأستراليا التي تعد من كبار المسؤولين تاريخياً عن الانبعاثات الكربونية، قد تؤدي إلى تحولات جذرية في سياساتها المناخية.

وإذا استشعر قادة اليمين في أوروبا، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ونظيرته الإيطالية جورجيا ميلوني، ضعف الموقف الدولي، فقد نشهد موجة انسحابات متتالية للحكومات اليمينية من الالتزامات المناخية العالمية، مما قد يدفع الدول الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية إلى التشكيك في جدوى المفاوضات المناخية برمتها، على غرار ما فعلته بابوا غينيا الجديدة.

غير أن التاريخ يؤكد أن مستقبل العمل المناخي العالمي لا يرتهن حصراً بالمواقف الدبلوماسية التي تتبناها القوى الغربية، لا سيما وأن دبلوماسية المناخ شهدت تحقيق إنجازات بارزة بقيادة دول لم تكن في الحسبان، مثل جنوب أفريقيا عام 2011 التي أرست أسساً مهدت لاتفاق باريس التاريخي، أو مثل اليابان التي قادت جهوداً دبلوماسية توجت بتوقيع بروتوكول كيوتو عام 1997 الذي ألزم الدول الصناعية للمرة الأولى بخفض انبعاثاتها.

إن أنجح مؤتمرات المناخ العالمية لم تكن تلك التي استضافتها العواصم الغربية، بل التي عملت فيها “قوى حقيقية” بصورة مشتركة في بناء الجسور، وليس أصحاب الثروات ويخوتهم الفارهة.

وخلال السنوات المقبلة ستجني الاقتصادات الناشئة أكبر المكاسب من التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة، مما يمنحها نفوذاً غير مسبوق في تشكيل المشهد العالمي. فدول مجموعة “بيسك” BASIC التي تضم البرازيل وجنوب أفريقيا والهند والصين، إلى جانب قوى صاعدة كإندونيسيا وتركيا والمكسيك وكولومبيا ونيجيريا، لن تتخلى عن صناعاتها القائمة على الوقود الأحفوري بين ليلة وضحاها، غير أن هذه الدول ستقود عملية التحول في مجال الطاقة على المستويين الإقليمي والعالمي. فمن خلال تعزيز التجارة والتعاون الدولي، تمتلك هذه القوى الصاعدة قدرة غير مسبوقة على خفض الانبعاثات – محلياً وعالمياً – بصورة تفوق ما يمكن للدول الغربية تحقيقه. وبات واضحاً أن مستقبل الطاقة المتجددة ومضاعفة كفاءة استخدامها ثلاثة أضعاف والتحول التدريجي بعيداً من الوقود الأحفوري مرهون بقرارات هذه الدول.

وعلى رغم الإحباط المشروع من تراجع الدول الغربية عن تعهداتها المالية لدعم العمل المناخي، إلا أن القوى العالمية الصاعدة تقف اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة مستقبل العمل المناخي الدولي وفق رؤية جديدة، تتجاوز الأطر التقليدية لاتفاق باريس. وحتى إذا لم يحقق مؤتمر باكو للمناخ تقدماً ملموساً، فإن ذلك لا يعني نهاية دبلوماسية المناخ أو توقف مسيرة العمل المناخي العالمي.

وتتجه الأنظار اليوم إلى قمة المناخ المرتقبة في البرازيل العام المقبل، التي قد تشكل ساحة اختبار حقيقية لهذا التحول، وتبرز في هذا السياق قيادات أميركا اللاتينية، ممثلة في سوزانا محمد ومارينا سيلفا، اللتين يتوقع أن تواصلا جهودهما المناخية على رغم الضغوط والتحولات السياسية، غير عابئتين بتغريدات ترمب أو خافيير ميلي، الرئيس الأرجنتيني.

وليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها العمل المناخي العالمي تحديات من اليمين المتشكك، ففي عام 2001 نجح المجتمع الدولي في التصدي لمحاولات الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لتقويض بروتوكول كيوتو، بفضل الدور المحوري لليابان في الحفاظ على تماسك الاتفاق. وحتى حين أعلنت أستراليا، وتبعتها كندا، رفضهما الالتزام بقواعد بروتوكول كيوتو، لم ينهر النظام المناخي العالمي. فعلى رغم سنوات من التشكيك والتردد، نجحت الإرادة الدبلوماسية في شق طريق جديد، مدفوعة بقوة الأمل في مستقبل أفضل.

غير أن مسيرة العمل المناخي لن تكون سلسة على الدوام، فعلى رغم الأرقام القياسية التي يحققها قطاع الطاقة المتجددة في مجالي الاستثمار والإنتاج، يبقى التحدي الأكبر هذا العام مالياً بامتياز، وهو ما يمثل معضلة حتى في أفضل الظروف الاقتصادية.

وتزداد المعادلة تعقيداً في ظل تفاقم أزمة تكاليف المعيشة التي باتت هاجساً عالمياً يؤرق الطبقة العاملة، إذ يجد قادة الدول الديمقراطية أنفسهم أمام موقف صعب: كيف يبررون لناخبيهم تخصيص موازنات ضخمة للعمل المناخي العالمي، في وقت تتصاعد فيه كلفة الكوارث المناخية بصورة غير مسبوقة؟ غير أن الواقع يفرض معادلة قاسية، فتحقيق العدالة المناخية وتمويل العمل المناخي ليسا ترفاً، بل فاتورة مستحقة الدفع عن تجاوزات الماضي والحاضر.

من دون التمويل المناخي الكافي وضآلته فإن أزمة تكاليف المعيشة ستتفاقم إلى مستويات غير مسبوقة، مهددة حياة مليارات البشر الذين لا ذنب لهم في الأزمة المناخية. لذا فإن إيجاد أرضية مشتركة سيكون أمراً بالغ الأهمية على مدى الأيام والسنوات القليلة المقبلة، وأنا بصراحة لا أعرف على ماذا سترسو الأمور.

ولكني شهدت لحظة تاريخية من أقوى مشاهد دبلوماسية المناخ، ففي تمام الثالثة فجراً، خلال مؤتمر ديربان، خيم صمت مذهل على القاعة حين اعتلت مفاوضة فنزويلا، كلاوديا ساليرنو، طاولة المفاوضات حافية القدمين، وطالبت بعدم إجبار الضعفاء على دفع ثمن خطايا الأقوياء.

لقد شهدت بأم عيني المفاوض الفيليبيني ييب سانو وهو يحول قاعة مليئة بأعتى المتشككين خلال “كوب 19” في قطر إلى شهود على معاناة الشعوب، في مشهد إنساني مؤثر دفع الحاضرين للبكاء تعاطفاً مع ضحايا التغير المناخي. أما في باريس، رأيت توني دي بروم، ممثل جزر مارشال الصغيرة، يقود تحالفاً من 100 دولة في مسيرة ليلية حاسمة نحو قاعة المفاوضات، مما أسفر عن ولادة “تحالف الطموح العالي” High Ambition Coalition.

فهل ستصمد دبلوماسية المناخ أمام موجة اليمين المتصاعدة؟ أعتقد ذلك، ولكن ذلك مشروط بتطورها وقدرتها على التكيف، فالتمسك بالهياكل التقليدية والانقسامات الجامدة في عالم متغير، قد يجعلنا كمن يقف مشلولاً أمام تحديات المستقبل المتسارعة.

ولن يكون الأمر سهلاً، وربما تتنصل أكبر الدول المسببة للانبعاثات في العالم تاريخياً عن المسؤولية الملقاة على عاتقها، ولكن في إطار هذا الصراع تكمن فرصة التحول الحقيقي. وعلى رغم الجمود الظاهر في المشهد الراهن، تلوح في الأفق بوادر عهد جديد في العمل المناخي العالمي، عهد لا يستند إلى القوى الاستعمارية القديمة، بل يؤسس لنظام عالمي جديد يقوم على المشاركة المتكافئة لجميع دول العالم. ومن دون هذا الإطار، حسناً… قد لا يكون هناك بديل.

كريس رايت مؤسس منظمة “كلايمت تراكر” Climate Tracker هو من أبرز المتابعين لمفاوضات الأمم المتحدة للمناخ على مدى 15 عاماً.

نقلاً عن : اندبندنت عربية