طالما شكل العجز التجاري هاجساً للرئيس الأميركي دونالد ترمب طوال حياته العامة، ومع ذلك كانت سياساته غالباً ما تتناقض مع تقليصه حين كان رئيساً في الولاية الأولى له، فالتقليص من اللوائح التجارية وفرض تخفيضات ضريبية، وهي سياسات تدعم الاستثمار الخاص، تؤدي إلى توسيع العجز في الموازنة، وهذا يؤدي إلى زيادة الواردات، ورفع معدلات الفائدة والدولار، مما يضغط على الصادرات، وبينما قد تقلل الرسوم الجمركية من الواردات، إلا أنها قد تؤثر سلباً في الصادرات بسبب تضرر اقتصادات الدول الأخرى ودفعها للانتقام، فهل هناك سياسة يمكن أن تجمع بين هذه الأهداف المتناقضة؟ الجواب نعم، بحسب ما تقول صحيفة “وول ستريت جورنال”. تقول الصحيفة إن الحزب الجمهوري لديه فرصة ذهبية لتطبيقها في ظل تخفيضات حادة وسريعة في الإنفاق الفيدرالي. وتضيف من خلال خفض الطلب والتضخم، ستؤدي تخفيضات الموازنة إلى تقليل معدلات الفائدة والدولار، مما يقلل من الواردات ويعزز الصادرات، بينما تحافظ في الوقت نفسه على الشروط اللازمة لمزيد من الاستثمارات الخاصة.

العجز التوأمي

في جوهره، ينشأ العجز التجاري عندما تستهلك الدولة أكثر مما تنتج. ويسهم العجز في الموازنة في هذا الاختلال من خلال ضخ مزيد من الطلب في الاقتصاد عبر الإنفاق أكثر مما يجري خصمه من خلال الضرائب، وهذه العلاقة هي السبب في أن العجزين يطلق عليهما أحياناً “العجز التوأمي”.

وتؤدي حالات الركود إلى تقليص إيرادات الضرائب والواردات، بينما تزيد الطفرات في الاستثمار الخاص (مثل التي حدثت في أواخر التسعينيات) من هذه العوامل، وفي كلتا الحالتين، يتحرك العجز التجاري والعجز في الموازنة في اتجاهين متعاكسين.

لكن تقليص العجز في الموازنة عن عمد، عبر التقشف المالي، أو توسيعه عبر الحوافز المالية، عادة ما يؤثر في التجارة، ففي دراسة أجراها صندوق النقد الدولي عام 2021 شملت 33 دولة بين عامي 1978 و2019، وجدت أنه بالنسبة إلى دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة، يسهم دولار واحد من التوحيد المالي في تقليص رصيد الحساب الجاري (وهو مقياس شامل للتجارة يشمل السلع والخدمات ودخل الاستثمار) بمقدار 30 إلى 50 سنتاً.

في العام الماضي، سجلت الولايات المتحدة عجزاً في الموازنة الفيدرالية بلغ 1.8 تريليون دولار، أي 6.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. واقترح وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت تقليص هذا العجز إلى ثلاثة في المئة في المئة بحلول نهاية ولاية ترمب، وعند تطبيق هذا الحساب وفقاً لمعادلة صندوق النقد الدولي، فإن هذا سيقلل العجز التجاري في السلع والخدمات، الذي تجاوز 900 مليار دولار في العام الماضي، بمقدار 300 إلى 500 مليار دولار.

أفضل من التعريفات الجمركية

العجز التجاري ليس أمراً سيئاً بطبيعته، لكن إذا كنت، مثل الإدارة الأميركية الحالية، تعتقد عكس ذلك، فيجب معالجته بأقل الطرق ضرراً، ويوفر التقشف المالي هذه المهمة مع ضرر جانبي أقل بكثير من التعريفات الجمركية، إذ تنخفض معدلات التضخم بدلاً من أن ترتفع، ولن يرد الشركاء التجاريون بالانتقام، ولن يكون هناك “لوبيات” مصالح خاصة أو عدم يقين مدمر في شأن من سيتأثر بالتعريفات ولفترة كم من الوقت.

في حين يكمن العيب الرئيس للتقشف في كونه يبطئ النمو، فكانت البلدان التي اعتمدت التقشف بعد الأزمة المالية بين عامي 2007 و2009 عانت البطالة المرتفعة التي عجزت البنوك المركزية عن معالجتها من خلال خفض معدلات الفائدة، التي كانت بالفعل حول الصفر.

واليوم الولايات المتحدة اليوم في وضع معاكس، إذ إن معدل البطالة منخفض والتضخم فوق هدف “الاحتياطي الفيدرالي” البالغ اثنين في المئة، ويمكن أن يسهم خفض العجز بصورة طموحة في تقليص التضخم. حينها، يمكن لـ”الاحتياطي الفيدرالي” خفض معدلات الفائدة، مما يعوض التأثيرات السلبية للتقشف ويضعف الدولار. وفي الوقت نفسه سيؤدي انخفاض الاقتراض الفيدرالي إلى خفض عوائد سندات الخزانة، وبهذه الصورة، سيسهم العجز الأصغر في جذب الاستثمار الخاص وتنمية الصادرات.

في المقابل، تظهر التجربة والنظرية أن التعريفات الجمركية لا تقلل من العجز التجاري، فبعد أن فرض ترمب تعريفات جمركية على الصين في ولايته الأولى، حول المستوردون مصادرهم إلى المكسيك وفيتنام، في حين ساعد انخفاض قيمة اليوان المصدرين الصينيين على امتصاص أثر التعريفات.

الدين الفيدرالي العام سيتجاوز 100 في المئة

ومن المتوقع أن يتجاوز الدين الفيدرالي العام، الذي هو مجموع جميع العجز السنوية، 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لذلك، يجب تقليص العجز الموازنة.

وبينما قد تؤدي زيادة الضرائب إلى تحقيق ذلك، فإن تخفيضات الإنفاق تكون أكثر فاعلية في الواقع، وعلى المدى القصير، فإن تقليص دولار واحد من المساعدات الحكومية سيقلل من الاستهلاك والواردات أكثر من زيادة دولار واحد في الضرائب، لأن الأسر ستستجيب للأخيرة من طريق سحب الأموال من المدخرات للحفاظ على أسلوب حياتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى المدى الطويل، فإن زيادة معدلات الضرائب تثبط العمل والاستثمار، مما يؤدي إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي، وهذا هو السبب في أن دراسة لمكتب الموازنة في الكونغرس عام 2022 وجدت أن خفض المنافع يحقق نسبة أقل من الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بزيادة معدلات ضريبة الدخل.

هذا يتماشى مع أولويات الجمهوريين، الذين يرغبون في تمديد تخفيضات الضرائب التي أقرت عام 2017، إضافة إلى إضافة تخفيضات جديدة، لكن هذا يخلق حسابات معقدة وصعبة.

تخفيضات في الإنفاق بـ12 تريليون دولار

سيترك تمديد تخفيضات الضرائب عجز الموازنة عند سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2029، بناءً على تقديرات مكتب الموازنة في الكونغرس ولجنة الضرائب المشتركة، في حين سيستلزم الوصول إلى ثلاثة في المئة ومن ثم الحفاظ عليها، تخفيضات في الإنفاق بقيمة 12 تريليون دولار على مدار العقد المقبل وفقاً لحسابات “وول ستريت جورنال”، لكن الجمهوريين في مجلس النواب، في قرارات موازنتهم التي أقرت أخيراً، يتصورون تخفيضات في الإنفاق تراوح ما بين 1.5 تريليون وتريليوني دولار.

جعل ترمب المهمة أكثر صعوبة من خلال استبعاد أي تخفيضات في الضمان الاجتماعي أو الرعاية الطبية، ومع إضافة الفوائد على الدين، أصبح نصف الإنفاق الآن خارج حدود التخفيضات، وللوصول إلى عجز بنسبة ثلاثة في المئة عام 2029، سيستلزم الأمر تقليص 40 في المئة من كل شيء آخر، مثل الدفاع والأمن الداخلي وفوائد المحاربين القدامى، وبرنامج الرعاية الطبية (ميد كير)، إلى جانب قسائم الطعام والرعاية الاجتماعية، وعديد من البرامج الفيدرالية الأخرى. وحتى لو جرى القضاء على “ميد كير” وقسائم الطعام وطرد كل موظف حكومي، فلن يكون ذلك كافياً، في وقت يتردد الجمهوريون في إجراء تخفيضات على “ميد كير”.

لذا، إما أن يضع الجمهوريون الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والضرائب على الطاولة، أو ينتظرون معجزة نمو اقتصادي، أو يقبلون هدف عجز أقل طموحاً.

في الواقع، ستظل الولايات المتحدة تسجل عجزاً تجارياً ليس فقط لأنها تستهلك الكثير، لكن أيضاً لأن الآخرين يستهلكون القليل جداً، فعلى سبيل المثال اقتصادات ألمانيا والصين منحازة هيكلياً ضد الاستهلاك ومع الصادرات، لكن قد يكون هذا في طريقه للتغيير، فالأحزاب التي من المحتمل أن تشكل الحكومة القادمة في ألمانيا ترغب في خفض الضرائب وزيادة الإنفاق على الدفاع، وتوليد الطاقة، والبنية التحتية، علاوة على أن القادة في الصين تحت ضغط لتنفيذ حوافز مالية استجابة لتراجع الاستهلاك وضعف التوظيف، لذا فإن كلا البلدين لديه قلق من أن تعريفة ترمب الجمركية قد تؤذي صادراتهم.

وربما الحل يكمن في أن تتفق ألمانيا والصين على تحفيز اقتصادهما وزيادة الواردات، وتوافق الولايات المتحدة على تقليص عجز موازنتها وعدم فرض مزيد من الرسوم الجمركية ليكون عجز تجاري أقل من دون حرب تجارية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية