على مدى أعوام كثيرة، كانت وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة المكان الذي يستقطب كل شيء ويحدث فيه كل شيء. فإن كنت تريد معرفة آخر الأخبار وأحدث التيارات الثقافية وأذكى الآراء المرتبطة بكل الأمور، فستجد طلبك حتماً. كانت خلاصات الأخبار أو ما يُعرف بالـ”فيد” Feed بمثابة ضرورة، أقله إذا كنت تريد أن تكون على اطلاع دائم بآخر المستجدات.
ولكن أصبحت المنصات هي المكان الذي تسير فيه الأمور كافة على نحو مدمر. ويزداد عدد الأشخاص الذين باتوا في حال “ما بعد النشر” بعدما سئموا من الصراخ ومن تشجيعهم على الصراخ في وجه الآخرين، في مشهد إما أن تصيح فيه أو تصبح غير مسموع.
ارتبطت النكتة التهكمية في بدايات عهد “تويتر” بأنه كان موقعاً يُستخدم لإخبار الآخرين بما تناولته على الفطور؛ والآن يبدو ذلك أشبه باليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، بعدما أصبحنا في عالم قد تتحول فيه صورة فطور إلى رسالة من حرب ثقافية قد لا تفقهها ولا تعرف عنها أي شيء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالنسبة إلى أي شخص مهتم بما يكفي بوسائل التواصل الاجتماعي ليقرأ مقالة عن زوالها، فربما لا داعي لسرد العلامات التي تشير إلى أين ساءت الأمور. الأمر يشبه النظر إلى رسمة “جروح الرجل” Wound Man والتساؤل عما إذا كان كل شيء يسير على ما يرام معه.
[رسمة “جروح الرجل” مخطوطة طبية قديمة تعود للعصور الوسطى وعصر النهضة، تُظهر رجلاً مصاباً بجروح متعددة في أنحاء جسده، مثل طعنات السيوف والسهام والجروح الناجمة عن الرماح والحروق. كان هذا الرسم يستخدم في المخطوطات الطبية كأداة تعليمية توضح أنواع الإصابات التي قد يتعرض لها الجنود أو الأشخاص، مع إرشادات حول كيفية علاجها – والتشبيه هنا يعني أن وسائل التواصل الاجتماعي في وضع سيئ للغاية لدرجة أن الحديث عن حالها يشبه النظر إلى رجل مليء بجروح مميتة والسؤال عما إذا كان بخير، وهو أمر سخيف لأن حاله بوضوح مأسوية].
لكن لنلقِ نظرة سريعة على وضع أكبر المنصات: “فيسبوك” أصبحت مليئة بمحتوى الذكاء الاصطناعي غير المرغوب فيه، كما أشار مارك زوكربيرغ إلى أنه سيسمح بخطاب الكراهية والأكاذيب والجدالات السياسية على التطبيق. “إنستغرام” تشبهه إلى حد كبير ولكن مع وجوه مختلفة قليلاً. أما تطبيق “إكس” (تويتر سابقاً)، فهو مليء بنقاشات دائمة تصعب متابعتها إلا إذا قضيت وقتاً طويلاً عليه لدرجة أن عقلك سيتآكل، وعندها لن يهمك الأمر أصلاً. هناك شيء خاطئ جداً.
هناك كثير من المنصات التي يُطلق عليها وسائل تواصل اجتماعي لكنها في الواقع مجرد منصات إعلامية مخصصة للبث أكثر من أنها مجتمعات حقيقية، وهي أكثر وعياً بالمسؤولية التي تترتب على ذلك. “تيك توك” لديه مشكلاته، لكنه لا يعج بالكراهية بالدرجة نفسها. تطبيق “يوتيوب” أصبح أقل اجتماعية خلال الأعوام الأخيرة، إذ إنه ركز أكثر على صناع المحتوى الكبار، لكن هذا جعل المنصة أكثر تنظيماً وأقل حدة في تعاملها مع المستخدمين.
على نحوٍ مشابه، تعني المجهولية (السرية أو عدم الكشف عن الهوية) المتكافئة في منصة “ريديت” أن هناك قليلاً من الحوافز أو الدوافع لإزعاج الآخرين؛ وأولئك الذين يدافعون عن البقاء على “تويتر”https://www.independentarabia.com/”إكس” يفعلون ذلك غالباً انطلاقاً من وجهة نظر مفادها بأنه من الضروري أن نتابع التطورات، ولكن في الواقع، يبدو تعلم شيء ما على هذا النوع من المواقع أمراً في غاية الاحتمال. بالتالي، تُعتبر هذه التطبيقات أكثر نجاحاً نسبياً لأنها ليست اجتماعية.
في المقابل، تبرز منصات المراسلة على غرار “واتساب” و”تيليغرام”، المخصصة للتراسل المباشر، على رغم أنها غالباً ما تقوم بدور المستضيف لمجموعات كبيرة بما يكفي لتتحول إلى شبكات اجتماعية في حد ذاتها. وهي أيضاً لا تخلو من الأخطار، فكليهما كان موطناً للتطرف والمعلومات المضللة ومشاركة المحتوى المسيء والعنيف وغير ذلك من المشكلات التي أثبتت أنها مميتة بكل ما للكلمة من معنى. ولكن التجربة الفعلية لاستخدامها تعتمد بصورة كاملة على مدى اجتماعيتها: إذا كان “واتساب” الخاص بك غير مريح، فهذا لأن أصدقاءك كريهون.
وفي هذا السياق، تبرز مجموعة كاملة من التطبيقات الجديدة التي تقع خارج هذا الطيف والتي أعتبرها شخصياً مصدر راحة متزايدة في وقت يبدو أن شبكة التواصل الاجتماعي تتفكك. قد ترغبون في تسميتها “الشبكات الاجتماعية البطيئة”.
وفي سياق متصل، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والشبكات الاجتماعية خلال الأعوام الأخيرة كلمتين مترادفتين تقريباً. لكن فقدان التمييز بينهما كان واضحاً: فالشبكات تتمحور حول الاتصال والحديث، فيما ترتبط وسائل الإعلام غالباً بالصراخ. فالخلط بين الاثنين هو ما جعل منصات مثل “تويتر” جذابة للغاية في البداية، فبوسعك أن تصبح صديقاً لأشخاصك المفضلين، إذا كنت محظوظاً، ولكن هذا أيضاً ما جعلها في نهاية المطاف محبطة للغاية، فيصرخ في وجهك أشخاص لا تحبهم، بعبارات مألوفة ومزعجة.
عوضاً عن ذلك، تصب شبكات التواصل الاجتماعي تلك تركيزها بصورة شبه كاملة على التواصل، إذ تتمحور كلها حول تجربة بسيطة نسبياً ولكنها جميلة للغاية تتمثل في معرفة ما يفعله أصدقاؤك أو ما ينوون فعله.
لنأخذ تطبيق العثور على الأصدقاء “فايند ماي فريندز” Find My Friends على سبيل المثال، وهو تطبيق خاص بشركة “أبل” ويقوم على تتبع موقع هواتف “آيفون” الخاصة بالأشخاص ويسمح لأصدقائهم برؤية ذلك في الوقت الحقيقي. (بالنسبة إلى الشباب وأولئك الذين لا يريدون البقاء في حديقة “أبل” المسيجة، هناك تطبيق آخر يسمى “لايف 360” Life360 ويحظى بشعبية هائلة. في الواقع، كلاهما في الأساس عبارة عن أنظمة مراقبة، ولكن من المفترض أن يمنحاك القدر الكافي من التحكم لضمان معرفة من يراقبك). يمكنك تصفح التطبيق وملاحظة أن صديقاً ما يقوم بقص شعره، على سبيل المثال، وتسجيل ذلك كشيء يمكنك التحقق منه معه في وقت لاحق.
أما إذا كنت تفضل أن ترى أين يمارس شخص ما الرياضة، فيمكنك متابعته على تطبيقَي “سترافا” Strava أو “غارمن كونيكت” Garmin Connect، وكلاهما يبقيانك على اطلاع بأنشطة أصدقائك. بوسعك أن تعرب عن إعجابك السريع بما يقومون به “لايك” (أو كما يسميه تطبيق سترافا Kudos أو المديح): في الأساس، ليس هناك مغزى كبير لذلك، باستثناء أنه نوع من الإنجاز الافتراضي الذي يذكرك بأن الناس يفكرون فيك ويشجعونك عن بعد.
في هذا الإطار أيضاً، قد يتم الحديث عن التجارب الاجتماعية للألعاب في كثير من الأحيان من خلال توبيخ الأطفال الغاضبين غير الراضين عن طريقة لعبك. لكن قائمة الأصدقاء على وحدة تحكم الألعاب يمكن أن تكون عبارة عن سلسلة طويلة الأمد من التحديثات المرتبطة بالأصدقاء القدامى والجدد: فهناك أشخاص لم أتحدث معهم منذ عقود ما زالوا يتربصون هناك، والتحديث الذي يظهر بين الفينة والأخرى بأنهم يلعبون لعبة “كول أوف ديوتي” (نداء الواجب) Call of Duty الجديدة أو يشاهدون شيئاً على تطبيق iPlayer يمكن تشبيهه بإلقائك نظرة خاطفة على حياتهم من دون أن تود ذلك أو مثل إلقاء نظرة خاطفة على شخص ما من خلال نافذة قطار قبل أن يعود كل منكما مجدداً لمساره الخاص المنفصل.
في الآونة الأخيرة، بدأ عدد متزايد من الأشخاص بتحميل تطبيق “إيربادز” Airbuds، وهو تطبيق يتتبع الموسيقى التي تستمع إليها عبر تطبيقَي “سبوتيفاي” Spotify أو “أبل ميوزك”Apple Music ويرتبها في بث مباشر. إحدى الميزات المفيدة تتيح لك رؤية جميع الأصدقاء الذين يستمعون إلى الموسيقى في اللحظة نفسها، مما يخلق قائمة نابضة بالحياة من الأغاني، تذكّر بمدى روعة الموسيقى في العالم وروعة الأشخاص الذين يستمعون إليها.
هذه المنصات شخصية: فإذا رغبت، يمكنك مشاهدة نبضات قلبي على تطبيق “سترافا” الخاص بي. كما أنها حميمة: ربما يمكن للمرء أن يعرف مزيداً عن حالي النفسية من خلال تطبيق “إيربادز” الخاص بي أكثر مما قد أختار مشاركته بصورة مفصلة على منصات التواصل الاجتماعي. وهي حقيقية للغاية: إذ لا يمكنك الركض أو الاستماع إلى الموسيقى من دون أن تقصد ذلك من الأساس.
ولكن يحدث كل ذلك في ظل مجموعة من القيود التي تجعلهم يشعرون بأمان أكبر. فهناك، يكون الجمهور أصغر حجماً ومعروف أيضاً، ولهذا تدرك أن ما تنشره من المرجح أن يُفهَم في سياقه بصورة كبيرة. فحتى لو أراد الناس قراءة منشوراتك بسخرية، سيكون ذلك صعباً لأن تلك الشبكات الاجتماعية لا تدور فعلاً حول الحجج أو الإثباتات أو تسجيل النقاط.
وفي السياق نفسه، تدور كل تلك التطبيقات حول الاطمئنان على الشخص الآخر عوضاً عن مراقبته، إذ بوسعك الدخول إليها متى شئت من دون المرور بأخبار رهيبة أو نصائح النمو الشخصي التي تحاول جرك إلى مستنقعها. فإذا كنتُ أتساءل عن مكان صديق، يمكنني التحقق من تطبيق “أعثر على صديقي” (فايند ماي فريندز) وإذا انتقل إلى مكان آخر ينتقل هذا التحديث معه من دون أن يتم حفظه في موجز (فيد) طويل مليء بالتحديثات التي تشعرني بالذنب في حال لم أنهِ تصفحها بالكامل.
كل هذه التطبيقات تذكّرنا بالفرح والسعادة التي يمكن أن يجلبها الناس لنا ولحياتنا – وربما الأكثر إثارة للدهشة هذه الأيام، الفرح الذي يمكن أن تجلبه لنا أجهزتنا، عندما تذكّرنا بأولئك الناس. فهي تذكّرنا أيضاً بحقيقة مفادها بأن وسائل التواصل الاجتماعي كانت تحمل أهمية كبيرة في الماضي، ربما أكثر أهمية من أي شيء آخر في العالم.
لهذا، سيكون من المخجل أن يعني هذا المشهد الجديد من المنصات العدائية والمتحاربة أننا نتخلص من الجانب الاجتماعي مع وسائل التواصل الاجتماعي. فهناك منصات بأكملها تنتظر منا اكتشافها ومعها أشخاص ينتظروننا على تلك الضفة أيضاً.
نقلاً عن : اندبندنت عربية