منذ أن شاهد الرأي العام الأميركي والدولي المواجهة الكلامية بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بمشاركة نائب الرئيس الأميركي وحضور أعضاء من الحكومتين، حتى خرجت موجة حامية في الإعلام وعلى “السوشيال ميديا” تتساءل عن أسباب هذا الانفجار الكلامي الذي لم يرَ مثله في الماضي لا الشعب الأميركي ولا المجتمع الدولي. صحيح أنه ربما في حالات تاريخية كانت هناك أحداث مثيلة، إلا أنها لم تخرج على الإعلام بهذا الشكل المباشر، وبالتالي لم يتذكرها أحد. أما الاشتباك الكلامي بين القيادتين الأوكرانية والأميركية وحضور مكثف للصحافة العالمية فقد خلق صدمة كبيرة لناحية إعلام الرأي العام الأميركي والدولي بما كان يجري فعلاً خلف الستار.

وخرج الإعلام بخلاصة بأن ترمب وإدارته قد قرروا التخلي كلياً عن الدولة الأوكرانية والتحالف مع روسيا. ربما أن تغيير سياسة الولايات المتحدة الخارجية بشكل جذري قد خلق شعوراً لدى المعارضة السياسية داخل الولايات المتحدة وفي أوروبا بأن ترمب قد تخلى عن حلفائه في أوروبا، وبالطبع انتقل هذا الشعور إلى بروكسل والعواصم الأوروبية والعواصم الأطلسية بأن واشنطن الآن باتت خارج سرب الحلف الأطلسي رغم وجودها فيه، وأنها تسعى إلى إضعاف هذا الحلف واحتكار الخيارات الغربية الكبرى. وبالتالي، فهذا يشكل انتكاسة لمكان يعرف بـ”العالم الحر”. ولكن هذه النظرة هي نظرة المعارضة وليست الإدارة ولا الأكثرية في الكونغرس. النظرة هذه هي بقايا سياسات جو بايدن وباراك أوباما التي كانت وراء الاستراتيجية الأميركية الغربية الماضية تجاه أوكرانيا. وقد وعد ترمب بأنه سوف يغير هذه السياسة، وهذا ما قد شاهدناه ولكن بمشاهد درامية لم تكن موجودة في الماضي. اللقاء بين ترمب وزيلينسكي لم يفصح عن مواقف جديدة، ولكنه أفصح عنها في الإعلام، فجعل الخريطة الإعلامية النفسية في الغرب تتبدل بسرعة لتركز الآن على وقائع جيوسياسية جديدة.

إن تقييم إدارة ترمب ومؤيديها للحرب في أوكرانيا هو أن إدارة بايدن قد أخفقت إخفاقاً شاملاً في إيقاف هذه الحرب منذ بدايتها. فعندما اجتاحت القوات الروسية جزءاً من أوكرانيا ابتداءً من فبراير (شباط) 2022، كان يجب على واشنطن، بنظر إدارة ترمب، أن تدخل فوراً وتعمل على وقف إطلاق النار وتهدئة الأمور والتواصل مع روسيا وأوكرانيا لوقف إطلاق النار وإجراء مباحثات. فإدارة ترمب تعتبر أن ما تقوم به الآن كان يجب على بايدن أن يقوم به في الأسابيع الأولى من الحرب في شتاء 2022. وباعتقادي أن هذا الموقف هو صحيح، فكان يجب على أية إدارة أميركية أن تسعى فوراً، لا سيما أن روسيا هي قوة نووية، أن تجمع الطرفين في مكان محايد وتبدأ المفاوضات لمنع الأخطار من أن تنفجر الحرب داخل أوروبا بين دولة يدعمها الناتو ودولة عظمى نووية.

إلا أن هنالك قوى ضاغطة في الغرب يهمها إسقاط “وريثة” الاتحاد السوفياتي، بنظرهم، وهو الاتحاد الروسي، وبالتالي فقد قرر الغرب، ربما عن نية مقبولة، أن يدافع عن أوكرانيا، ولكن خطأه أنه وقتها أقنعته أوكرانيا أو حكومة زيلينسكي بأن الحرب ممكن كسبها على الأرض، أي بردّ القوات الروسية المهاجمة من الأراضي الأوكرانية ودخول الأراضي الروسية وإسقاط النظام فيها. هذا كان خطأ كبيراً في التقدير، إذ إن الطرفين الروسي والأوكراني وصلا إلى توازن عسكري لا يمكن الإخلال به. 

 

فالقوات الروسية وضعت ثقلها لتصل إلى العاصمة كييف، ولكنها لم تنجح في الدخول إلى المدينة، وهذا تسبب في تراجعها فيما بعد بسبب الدعم الأطلسي لزيلينسكي، من ناحية، ولكن من ناحية ثانية تقدمت القوات الروسية بشكل سريع إلى منطقة دونيتسك في شرق أوكرانيا، والأهم على ساحل بحر آزوف الاستراتيجي حتى وصولها إلى القرم وما بعد القرم، ولم تتمكن القوات الأوكرانية من إخراجها. وطبعاً، عندما حاولت حكومة زيلينسكي أن تقوم بهجوم عسكري مضاد على مدى أشهر، لم تتمكن من كسر القوات الروسية داخل أوكرانيا، على الرغم من أن بعض الوحدات الأوكرانية دخلت إلى بعض البلدات الروسية، ولكن الهدف الاستراتيجي لطرد الجيش الروسي من أوكرانيا والتقدم باتجاه موسكو أمر لم يحدث، وسيصعب حدوثه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالتالي فإن الوضع الجيو-عسكري في بداية 2023 بات واضحاً أن روسيا لن تتمكن من ابتلاع أوكرانيا بسبب الدفاع الأطلسي عنها، ولم يتمكن الجيش الأوكراني، بالرغم من الدعم الأطلسي، من إخراج الجيش الروسي من الشرق والجنوب والتقدم داخل الأراضي الروسية. هذا جعل الستاتيكو غير قابل للتغيير. فاستمرت الحرب لسنتين كاملتين من دون أي نتيجة. وكان ذلك تحت إدارة بايدن التي لم تقبل بتغيير الستاتيكو أو بالسعي إلى اتفاق وقف إطلاق نار، وصعدت عقوباتها على الاتحاد الروسي بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي.

فقررت المعارضة الأميركية بقيادة ترمب ضرورة تغيير السياسة الأميركية تجاه الحرب الأوكرانية عند وصولها إلى البيت الأبيض. وهذا بالفعل مهد فيما بعد لمعسكر ترمب أن يقتنع أن تلك الحرب لن تؤدي إلى نتيجة، وبالتالي فهي مجزرة مستمرة. بالإضافة إلى أن الصراع مع موسكو من دون نتيجة معينة يعرقل تطور السياسات الأميركية في العالم. وربما يؤدي إلى أزمات أكبر في مناطق أخرى، بما فيها في الشرق الأوسط والشرق الأقصى.

والمحللون ينظرون أيضاً إلى الواقع الاقتصادي والمالي. فالاموال الهائلة والميزانيات الضخمة التي أرسلتها إدارة بايدن إلى أوكرانيا وصلت إلى حدود الـ 150 مليار دولار على الأقل. وينتقد فريق ترمب هذا الضخ غير الاستراتيجي بأنه تمت الاستفادة منه من قبل الرئيس وأعضاء حكومته، وعلى رغم من هذه الأموال الضخمة، فإن الحكومة الأوكرانية لم تتقدم على الأرض. وهنالك بالطبع اتهامات من قبل فريق ترمب الآن أن بعض هذه الأموال قد تم استخدامها في أمور بعيدة عن المواجهة مع روسيا. وظن زيلينسكي أنه إذا انتصر فريق بايدن أو المرشحة كامالا هاريس في خريف 2024، فإن المعادلة سوف تستمر، واعتقد أن استمرار إضعاف القوات الروسية سوف يؤدي إلى انسحابها وانهيار الحكومة الروسية. ولكن الانتخابات الأميركية أهدت لترمب مفتاح البيت الأبيض، وبالتالي فإنها أعطت الرئيس الجديد وفريقه القدرة على تغيير السياسات.

ما هي خطه ترمب قبل الاجتماع في البيت الابيض؟

بكل وضوح قالت الإدارة الجديدة للطرفين بأنها سوف تكون في موقع الحكم في إنهاء الصراع، والأولوية كانت لإعلان وقف إطلاق النار على أراضي المعركة في أوكرانيا، وبعد ذلك يتم التفاوض مباشرة بين الروس والأوكرانيين. موسكو تعاونت مع ترمب وقبلت بمبدأ المفاوضات والوصول إلى حلول، وهذه أبرز نقاط الحل الذي تم طرحه من قبل إدارة ترمب. أولاً، يجري التفاوض حول بعض المناطق من شرقي البلاد، وفي حال نجاح المحادثات، يُجرى نقلها إلى السيادة الروسية.

وبناءً على ذلك يلتزم الكرملين بأن لا يجتاح الأراضي الأوكرانية والعاصمة بضمانة ضمانة أميركية أمنية كاملة. وتقوم الإدارة الأميركية بضمان خاص للسيادة الأوكرانية عبر عقد أو معاهدة لاستخراج المواد الأساسية الصخرية من أوكرانيا، ويكون ذلك باتفاق مضمون من قبل روسيا. أي في نهاية الموضوع أن تحصل روسيا على ما تسميه أراضي تاريخية لها ولكن تمتنع عن التقدم باتجاه أوكرانيا. أي أن تضمن أميركا بقاء الدولة الأوكرانية والسيادة الأوكرانية في ما حدود ما يعرف “بأوكرانيا الغربية”. وقد قبلت روسيا مبدئياً بهذا الحل، ولكنها أضافت اعتراضاً على دخول أوكرانيا في الحلف الأطلسي ولم تتقدم الإدارة الأميركية بأي ضمانات في هذا الموضوع لأنه يتعلق بقبول الحلف الأطلسي بأوكرانيا، وهذا يناقش في المستقبل. إلا أن إدارة ترمب كانت حازمة في إقناع موسكو بأن تتخلى عن أي مشروع توسع تجاه أوكرانيا لأن الولايات المتحدة سوف تكون موجودة اقتصادياً في الدولة الأوكرانية ذات السيادة.

رئاسة زيلينسكي والأوروبيين غير مقتنعين بتنازل أوكرانيا عن أراضٍ في شرقها لصالح روسيا. وحاول زيلينسكي أن يحصل على المزيد من الدعم الأميركي المالي والعسكري قبل أن يتم تطبيق هكذا أفكار. وفي هذا الإطار جاء اجتماع البيت الأبيض الكارثي ليثبت الخلاف بين الخطين في السياسات الاستراتيجية في الغرب. معظم أوروبا وحكومة زيلينسكي يريدون موقفاً أقسى وأقوى على روسيا بمواجهة عسكرية على الأرض في أوكرانيا، بينما الموقف الأميركي السائد الآن يريد إنهاء تلك الحرب وبدء عملية السلام.

اجتماع البيت الأبيض بحد ذاته عبر عن هذا الخلاف العميق. الرئيس الأميركي يريد أن ينتج إعلاناً عن عقد بين أوكرانيا والولايات المتحدة. وهكذا اتفاق من المفترض أن يؤسس لمعادلة سلام بين روسيا وأوكرانيا على أساس التخلي عن أراضٍ في الشرق وحماية نهائية لدولة أوكرانيا، وتبين أن الرئيس الأوكراني غير مقتنع بهذا التخلي. فأراد أن يذكر الرأي العام الأميركي بأن أوكرانيا تحتاج إلى دعم عسكري كبير قبل أي اتفاق نهائي. فحصل الخلاف الكبير أمام أعين الكاميرات، وخرج زيلينسكي من البيت الأبيض رافضاً التوقيع، واجتمع مع قادة أوروبيين للحصول على دعمهم البديل.

إلا أن الرئيس الفرنسي حذره بأن الأوضاع سوف تنقلب عليه. فعاد الرئيس الأوكراني وأرسل مذكرات تطمينية بعد الاجتماع الدرامي في البيت الأبيض. إلا أن الإجراءات الأميركية باتت ثقيلة على الحكومة الأوكرانية من منع وصول المعلومات الاستخباراتية إلى بداية الانسحاب الأميركي العسكري من أوكرانيا، وصولاً إلى إجراءات إدارية أخرى كبيرة بحق حكومة زيلينسكي. إلا أن الأوروبيين نصحوا كييف أن تبقى على توافق مع واشنطن. ونصحت بروكسل كييف أن تحسن شروطها، والتزمت الدول الأوروبية أن ترسل قوات لحماية أوكرانيا.

وبالتالي فإن المرحلة الآتية سوف تكون مواجهة خفية وسياسية بين الاتحاد الأوروبي وإدارة ترمب حول طريقة إنهاء الحرب. إلا أنه إذا كان هناك تفاهم بين واشنطن وموسكو فإن الأمر الواقع قد يكون الحل النهائي، أي أن تبدأ مسألة المفاوضات في ما يتعلق بالأراضي في شرق أوكرانيا من ناحية، وأن يتم توقيع العقد بين واشنطن وزيلينسكي من ناحية أخرى. وأن تكون هناك ضمانات ثقيلة أميركية لأوكرانيا. وبالنهاية قد يسمح “للدولة المصغرة” في كييف بأن تبدأ دخولها إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن هناك عقبات كثيرة حيال الناتو سوف نركز عليها في المستقبل.

نقلاً عن : اندبندنت عربية