إذ يتصارع الشرق الأوسط بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص مع تيارين يلتهمان الدول العربية يركز المراقبون على سؤال تحليل مركزي لم يظهر بعد في الإعلام لكنه ملأ التقارير والتحليلات والامتحانات في معرفة المستقبل، هذا السؤال يتلخص بعبارة واحدة: “من الأخطر على العالم العربي وبشكل خاص على المعتدلين المتكوكبين حول التحالف العربي، هل ما زالت الجمهورية الإسلامية الخطر الأكبر أم أن زحف “حركة تحرير الشام” والقوى الداعمة لها من التيارات الإخوانية هي الأخطر؟”.
فعلاً سؤال كبير والإجابة عنه ليست سهلة، لأن كل طرف مشارك في المعادلات بين الإسلاميين وغيرهم وحتى أنفسهم يختلفون في النظر إلى أي قوة سوف تهدد الاستقرار الإقليمي من ناحية أم يجب أن تتحول إلى قوة استقرار ضمن التيار الإسلامي بحد ذاته.
في السؤال الأولي والأساسي للفارق بين إيران والإخوان على صعيد المنطقة هو إلى أين تتجه هذه القوى الإسلامية بشكل عام. على الصعيد العقائدي تبدو وكأنها طائفية، أي أن الإخوان والتكفيريين ينحدرون من التيارات الإسلامية التي توصف بأنها “جهادية” تدعي في نهاية المطاف أنها تسعى إلى إعلان الخلافة من جديد، وبين نظام الخميني والميليشيات المرتبطة به في العالم العربي، هذا المحور وكتبنا عنه كثيراً يدعو إلى حالة متوازية أو موازية للتيارات الإسلامية السنية وكأن أصحاب وصف التيارين يعتمدون على المقياس الأول الظاهر وهو انتماء هؤلاء إلى دار الشيعة ودار السنة، أما في الحقيقة فهي أعمق من اختلافات طائفية، فالخمينيون لا يدعون فقط إلى عقيدة دينية لمواجهة الطرف الآخر بل تختلف طريقة التنفيذ على الأرض عبر إقامة المشروع الإسلامي بفصله الخميني التابع للرؤية الإمامية، أما مشروع الخلافة السنية فيتركز على العمق الإخواني أو التكفيري.
ومع أن التيارين يتواجهان فإنهما يتضامنان بعد المواجهة ضد العرب المسلمين الذين يطرحون مبدأ الحداثة وهم مؤمنون بالدول الوطنية في العالم العربي والإسلامي. هذا الاختلاف في النظرة والرؤية المستقبلية بين إيران والإخوان إنما هو عملياً المقياس الذي يستخدم لفهم المراحل الآتية، فالطرفان بإمكانهما التقاتل لزمن طويل ولكن يجب الإدراك بأنهما قررا وقيما السبيل الأفضل لتوحيد الجهود بينهما، فالتياران يبغيان كل على حدة أن يقيما إمبراطوريتهما، وهذا بيت القصيد.
هذا الصراع يضع الدول العربية الإسلامية في المنطقة أمام أصعب الخيارات وأكثرها تعقيداً، ألا وهو معرفة أي من الكتلتين سوف يشكل خطراً على الاعتدال قبل الآخر، وهنا بإمكاننا القيام بنظرة معينة، لكن قبل ذلك يجب أن نلاحظ أن معسكر الاعتدال بشكل عام يعتمد على عدم استفزاز أي من التيارين، وبالتالي على رغم الصدامات فقد جرت العادات السياسية في المنطقة بإعلان هذه الدول بشكل مباشر أو غير مباشر أن العلاقات جيدة وطبيعية، إن كان مع الكتلة الإيرانية أو مع الكتلة الإخوانية.
في عمق المعادلة فإن العواصم العربية ومراكز سلطاتها ومراكز أبحاثها -لا سيما عندما يغيب العالم الغربي عن مواجهة مطامع الإسلاميين- تعلن دوماً عن استعدادها لتسوية الأمور والتوحد خلف القضايا، كالقضية الفلسطينية منعاً لانجرارها إلى مواجهة مع القوى الراديكالية، لأن المواجهة إن حصلت فإنها لن تأتي سوى بالكوارث والأزمات وسقوط الأحلام في العالم العربي، لذلك لم نسمع عن التصورات في العواصم العربية عن التيارات الإسلامية إلا إذا كانت هناك مواجهة مباشرة، والسؤال هنا هل المحور الإيراني الخميني الأخطر على الدول العربية أم أن الميليشيات الإخوانية من المشرق إلى شمال أفريقيا هي من تشكل الخطر الأبعد والأعمق ولو كان خطراً أخوياً على المجتمعات العربية.
العواصم العربية تنظر إلى الخطرين على الصعيد التاريخي بأنهما متوازيان، إذ إن هدف كل من المعسكرين ولو تقاتلا يخبئان استراتيجية بعيدة الأمد واحدة الهدف، وهي إضعاف ودحر ما يسمونه الأنظمة العربية، أي الحكومات المعتدلة، إذاً ليس هناك فارق كبير بين الخمينيين والإخوان، فلكل منهما هدف بعيد المدى وهو إقامة دولة أو نظام أو إمارة وخلافة أو إمامة لا مكان فيها لدول الحداثة العربية، وهذا قد شكل عصب الصراعات في المنطقة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن إذا حللنا الموقع الجيوسياسي والأولويات لدى دول الاعتدال فنرى أن هناك فوارق ولو بسيطة أو متغيرة بين المواقف حيال الخطر المشترك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمثلاً بالنسبة للمملكة العربية السعودية، الدولة الرائدة في العالم الإسلامي، هناك ارتدادات تاريخية تعتبر أن قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 في طهران هو بحد ذاته بداية تصاعد خطر إسلاموي شيعي استهدف منذ خروجه إلى العلن ليس فقط سياسات المملكة ولكن كينونتها، ولن ترتاح هذه الجمهورية قبل أن تصل إلى الحجاز، وهذا ما قالته قيادتها وهذا ما تواجه حوله وعليه المعلقون من البلدين.
صحيح أن الدولة السعودية هي دولة فكرية عاقلة ومنطقية تعلم تماماً كيف تدير علاقاتها السياسية على أساس عولمة هذه العلاقات، ووجود الرياض في عمق كتلة واسعة من الدول التي تريد الاستقرار. المملكة تريد رؤية المستقبل بينما الجمهورية الإسلامية تريد العودة إلى الوراء، إذاً مع كل ما مارسته القيادة الخمينية من حرب على المملكة عبر الحوثيين و”حزب الله” والميليشيات المسماة شيعية في العراق وسوريا، وعبر محاولة إيران التأثير على الداخل السعودي، كل هذا يدل أنه وفي نهاية المطاف إن لم تحصل إصلاحات داخل إيران فالخطر الأساسي الذي يستهدف المملكة يأتي من الملالي ونظامهم، وهذا لم يمنع مراكز قيادات الرياض المواجهة عندما كان ضرورياً، وتهادن عندما أصبح واقعاً، وتختار ما هو أفضل لمصلحتها.
أما بالنسبة إلى جارتها وحليفتها الإمارات العربية المتحدة فظروفها الخاصة تعتبر أن الخطر الأكبر عليها وعلى رغم موقعها الجيوسياسي يأتي من التيارات الإسلامية عموماً والإخوان خصوصاً، ومع أن الإمارات والسعودية شقيقتان قريبتان تنسقان ضد الإرهاب فإن نظرتيهما التحليلية تجاه الأخطار الإسلامية تختلف في الأولويات، الرياض تنظر إلى إيران على أنها الخطر بينما الإمارات تنظر إلى الإخوان وميليشياتها، ثم تأتي مصر لترى بسبب تاريخها وخبرتها ما مر عليها من الحركات الإخوانية التي سيطرت على السلطة لفترة قصيرة على أنها الأخطر لأرض الكنانة، ولا سيما أن الشعب المصري ذاتياً تحرك خلال ثورة يونيو (حزيران) 2013 لإزالة هذا النظام الإخواني الذي كان حاكماً.
المنطق الاستراتيجي المصري يعتبر أن خطر الإخوان هو الأعلى على الأمن القومي، وبالنسبة لإيران فإن القاهرة تتضامن مع الدول العربية في جهودها المضادة للإرهاب، ويبقى تركيزها منصباً على مواجهة الخطر الإخواني الساعي للسيطرة على قدرات الدولة. وبالنسبة إلى الدول العربية الأخرى فإن النظرة إلى مواجهة الخطر تتفاوت، فالمملكة الأردنية الهاشمية في زمن الملك حسين ثم في عهد الملك عبدالله كانت هناك مخاوف من “هلال شيعي” محيط بعمان، وبالتالي فإن الخطر كان يأتي من الإيرانيين لا سيما بعد 1979، غير أن بعض التحركات الداخلية لجماعات الإسلام السياسي عدلت قليلاً في نظرة الأردن إلى أي من الخطرين هو الأهم، والآن يمكن الاعتبار بعد سقوط معظم سوريا بأيدي “هيئة تحرير الشام” أن الأمن القومي للمملكة الأردنية يعتبر أن الإخوان والإيرانيين يشكلان حالة مربكة لعمان المعتدلة في سياساتها، وكلما صعد نفوذ أحد الخطرين فإن ذلك يقرع جرس الإنذار داخل الأردن.
وإذا ذهبنا إلى ليبيا فإن الصراع بين الميليشيات الإسلامية المتمركزة في طرابلس والمرتبطة بقطر وتركيا، ودعم الدول العربية المعتدلة لقيادة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر رسم عملياً خريطة تقدير الخطر بالنسبة إلى الطرفين، فالجيش الوطني قاتل ليس فقط ميليشيات الإخوان ولكن القوة العسكرية التي أرسلها الرئيس أردوغان لمواجهة نفوذ البرلمان المنتخب. في ليبيا الحالة واضحة فمؤيدو الجيش الليبي والنواب يعتبرون أن الإخوان هم الخطر الأكبر وهذا يدل على قلق المجتمع المدني وبشكل خاص الوطنيين الليبيين من الميليشيات الإخوانية أكثر من ميليشيات إيران المتمركزة أساساً في الشرق.
وهكذا دواليك حالات المجتمع العربي، أحياناً تدفعهم لاعتبار طهران أساس التهديد لأمنهم القومي، أو تعتبر أن الخطر الإخواني هو الأهم وله الأولوية، وبين كل هذه الدول والفئات هناك من يعتبر أن الخطرين متوازيان ولا يمكن تفضيل مواجهة خطر على الآخر، وهذا ما يجعل الموضوع أصعب، إذ أن كل دولة عربية تعتبر في نهاية المطاف أن التطرف لا يهدد الأمن القومي لها فقط بل المشاريع التنموية، ولكن لكل دولة ميزانها في تقييم تطور الخطر على داخلها وقدرات مجتمعاتها.
يمكن التلخيص بأن التحالف العربي والمجتمعات المدنية يعتبران التيار الإسلامي، سواء “القاعدة” و”داعش” و”الإخوان” من ناحية وعلى الجانب الآخر “حزب الله” والحوثيين و”الحشد الشعبي”، خطراً كبيراً وإن اختلفوا في ما بينهم على بعض السياسات، لكن ما يوحدهم هو أقوى على الصعيد الإقليمي على رغم الاختلاف العقائدي، لذلك لو درسنا هذا الفصل في المدارس المتوسطة والثانوية فسنلخص الموضوع عبر القول الشعبي المعروف “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”، فكل دولة عربية لديها نظرة على المستوى التاريخي، لكن في نهاية المطاف، كما قال لنا رؤساء عرب، هي معركة موحدة في الثقافة وداخل صفوف الدراسة، والحل يأتي عبر إصلاح تربوي وعميق في جميع الدول العربية، لأن ما يهدد السلامة المستقبلية تعميق وتجذير التطرف في المدارس والجامعات.
نقلاً عن : اندبندنت عربية