على رغم أن ما تسمى في ديارنا المشرقية “بلاد الموسكوب” تبدو دائماً على كل شفة ولسان، وتبدو بصورة متواصلة أنها تعنينا نحن أهل الشرق أكثر مما يعنينا أي مكان في العالم عبر تاريخ متوتر ومتقلب غالباً ما يحمل حصته من اهتماماتنا الشرقية بل العربية، وفي غالب الأحيان من موقع عداء ما، نعيشه ضد تلك البلاد ولا سيما حين تخوض ما يمكننا تسميته المسألة الشرقية عبر مجابهات شرقية – غربية ترتدي فيها ديار الروس سمات الغرب قسراً ويتخذ فيها العثمانيون من ناحية واليابانيون من الناحية الأخرى، ثم مجمل البلدان والمناطق الواقعة إلى الجنوب من روسيا، سمة المكان المثير لتعاطفنا… على رغم ذلك كما على رغم انتشار الروايات الروسية العائدة إلى القرن الـ19 غالباً وعصر الرواية الذهبي (دوستويفسكي وتولستوي على سبيل المثال)، تبقى تلك البلاد القريبة والبعيدة في الوقت نفسه، غامضة بالنسبة إلينا غموضها بالنسبة إلى العوالم الواقعة إلى الغرب منا. وقد ينطبق هذا بخاصة على القرن الـ20 الذي تحولت فيه بلد الموسكوب إلى إمبراطورية، وغابت تحف العصر الذهبي للأدب التي شكلت دائماً مصدراً يدعم محاولات التوسع في فهم غوامض عالم السوفيات.
محاولة للفهم؟
طبعاً لن نزعم هنا أن رواية أو 10 روايات أو حتى أكثر من ذلك قد تحل تلك الألغاز التي تضحى أحياناً محطة لسوء الفهم، لكن الأعمال الأدبية المساعدة على ذلك بإمكانها أن تكون محاولة للفهم والتوضيح ولا سيما حين تدبج بقلم عبقري يتنطح لأن يعد نفسه ليس فقط وريثاً لروايات القرن ما قبل الماضي، بل حتى وريثاً لتلك الملاحم العائلية الكبرى التي تسمى “ساغا”، وتملك معظم الأمم أعمالاً كبرى في مجالها الذي يتابع عقوداً طويلة من حياة وتقلبات وأفراح وأشجان أجيال متعاقبة، ويرسم من خلال تلك المتابعة تاريخ الوطن كله وتاريخ هوية ذلك الوطن. ولعل النماذج الأكثر تداولاً في هذا السياق “آل بودنبروك” للألماني توماس مان، و”ثلاثية” كاتبنا المصري الكبير نجيب محفوظ، وبخاصة “ساغا آل فورسايت” لجون غالسورثي الإنجليزي. والحقيقة أنه لئن كان اسم الكاتب الذي نعنيه هنا لا يزال غير متداول في عالمنا العربي إذ لا تزال أعماله غير مترجمة إلى لغة الضاد، فإن العالم الغربي كله بات يعرفه جيداً من خلال ترجمة رواياته، ناهيك بأنه يعد في بلده الروسي ظاهرة نادرة تتفوق شهرته ومقروئيته على كل مواطنيه من الكتاب، الذين باتوا “أكثر من الهم على القلب” كما يقول المثل ولا سيما منذ انهارت الأيديولوجيا، لذا فإن كتابته تعيد النظر في كل ما عرف عن تلك الإمبراطورية طوال القرن الـ20. الكاتب الذي نعنيه هنا هو يوري بويدا الذي يسعى اليوم إلى ترسيخ “تاريخ جديد” لبلاد الموسكوب ينطلق من الأدب الفردي والعائلة ليصبح في تاريخ أمة، ويبدو أنه نجح في ذلك إلى حد كبير في ما يزيد على نصف دزينة من روايات جعلت القراء يضعونه في صف كبار عباقرة الرواية في القرن الـ19 الروسي.
بيت روسيا
من آخر ما صدر وحقق نجاحه حتى اليوم على أية حال لبويدا روايته التي صدرت قبل 10 سنوات من اليوم تحمل عنواناً يبدو عليه للوهلة الأولى أنه يقول كل ما يمكن قوله بالنسبة إلى كل ما طرحناه في السطور السابقة: “عن السم وعن العسل”. والحقيقة أن هذا العنوان لا يبدو للوهلة الأولى جديداً، تماماً كما أن الموضوع نفسه ليس بجديد. بل ثمة من بين النقاد من تحدث عن تأثر من ناحية كون الرواية تدور من حول عائلة محددة في زمن طويل، برواية غابريال غارسيا ماركيز “مئة عام من العزلة” بخاصة أن ثمة قاسماً مشتركاً بين هذه الأخيرة و”عن السم وعن العسل”، وبخاصة أن الروايتين تغوصان في الحياة العائلية ومصائر أفرادها، بيد أن التقارب يتوقف ها هنا. وذلك بالتحديد لأن رواية بويدا وإن كانت تتسم بقدر كبير من الحس الساخر والفكه، تتميز أيضاً بذلك الغوص في التراجيديا ذات الطابع الروسي الشديد الخصوصية. ففي نهاية الأمر لا شك أن عائلة (أوسوريين) من نبلاء الأزمنة السابقة على الثورة البلشفية، تختلف اختلافاً كبيراً عن سلالة الجنرال الكولومبي المهيمن على رواية ماركيز حتى وإن كان التشابه بين اسمي العائلتين لافتاً، غير أنه ليس أكثر من تشابه مخادع في نهاية الأمر، كذلك فإن التشابه بين داري العائلتين مخادع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور للمكان في الزمان
ولعل السمة الأولى التي يمكننا التوقف عندها هنا هي أنه فيما تبدو دار العائلة الروسية وكأنه مكان يرسم هبوط العائلة التي كانت ذات مكانة سامية في رواية بويدا، تبدو دار آل الجنرال بونديا وسلامته في رواية ماركيز صعوداً يوازي صعود الحكم العسكري في رواية ماركيز. ومهما يكن هنا من أمر، قد لا يكون ثمة مفر من القول إن الدار في الرواية الروسية تلعب دوراً يفوق بكثير الدور الذي تلعبه الدار في رواية الكولومبي، بل إن ثمة في الرواية الروسية ما أغرى كثراً من نقاد الغرب بالالتفات إلى أن الرواية تبدو في نهاية الأمر أقل قيمة من رواية ماركيز في مضمار الحديث عن الإحالات في “عن السم وعن العسل”، ونعني هنا رواية “بيت روسيا” للإنجليزي جون لوكاريه وهي إحالة لم يستنكرها بويدا على أية حال وإن كانت قد أدهشته. فهل أدهشته حقاً؟ لا يمكن الجزم هنا وإن كان من المنطقي القول إن معظم الذين قرأوا الرواية وأحبوها اعتبروها نوعاً من مرجعية في التاريخ الروسي مبنية انطلاقاً من تاريخ كوني، ولكن شديد الروسية بالتحديد. ولم ينظر أيهم إلى تلك “التحفة الأدبية الروسية الجديدة” على اعتبارها تخرج حقاً من الشغف بذلك النمط من التأريخ للروح الروسية. وهو على أية حال تأريخ ينتمي إلى الأدب الروسي الكبير، ولكن أيضاً إلى التاريخ الروسي الحقيقي.
يبقى أن ننقل عن الناقدة الروسية تاتيانا سوخاريفا أن شخصيات هذه الرواية التي تبدو بعيدة جداً عن شخصيات تشيخوف المحبطة أو شخصيات بوشكين أو ليرمنتوف غير القادرة على التواصل، تبدو وكأن أهم ما يميزها كونها تعرف كيف تمضي تماماً على مجرى الزمن واختلاف العلاقات، متماهية تماماً أمام شخصية البيت المبني قبل قرن ونصف القرن في ضاحية موسكوفية راقية، فهو شديد الحيوية ذو شخصية مستقلة ومسيطرة ويعرف كيف يحصن نفسه من دون أن يكون في حاجة إلى من يساعده في ذلك، كما في اختيار من يقبل بهم أو من يرفضهم لينتهي الأمر بنا وبهم إلى الإدراك كم كان دائماً على حق. ترى هل نحن هنا أمام ثورة معمقة للأمة الروسية نفسها؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية