أحمد العامري: «الشارقة للكتاب».. وطن الناشرين

أحمد العامري: «الشارقة للكتاب».. وطن الناشرين

الشارقة: «الخليج»
يواصل معرض الشارقة الدولي للكتاب مــسيرته المكللة بالنجاحات النوعية على الصعيدين المــــحلي والعالمي، وفي كل عام نقف أمام دورة جــــديدة من المعرض لنـقـــــــرأ كيف ينجح في الحــفــــاظ عـــــلى زخـــمــه وقـــوة حضـــوره وأثـــــره، وتــطـــــوره الدائم الذي لا يواكب المستجــــدات على الساحة الثــــقافية العالمية بل يسبقـــــها ويصــــنعــها ويحدد مآلاتها وتوجـــــهاتها. وحول هذه المـــسيرة، نحاور أحمد بن ركاض العامري، الرئيــس التنفيــــذي لهيئة الشارقة للكتاب. 

* منذ انطلاقته قبل أكثر من أربعة عقود.. كيف نجح المعرض في أن يتحول من حدث ثقافي إلى مشروع وطني وإنساني متكامل له امتداداته على الساحتين العربية والإنسانية؟

– يجب التأكيد بدايةً أن المعرض، هو نتاج رؤية استثنائية لصاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، حول الثقافة ودورها في بناء الحضارات والمجتمعات وتحقيق التنمية الشاملة، لذلك لم يكن المعرض مجرد حدث ثقافي يضاف إلى أجندة الفعاليات العربية، بل أراد صاحب السموّ من خلاله، أن يُؤسَّس فضاء متجدد للمعرفة يتجاوز فكرة العرض والاقتناء إلى بناء علاقةٍ واعية بين الإنسان والكتاب. وأن ينقل المعرفة من هامش الحياة، لتصبح هي الحياة ذاتها حين تتجلى في صورتها الأرقى، فكراً يوجّه التنمية، ونصوصاً تصوغ الأخلاق، وإبداعاً يصون الهوية.

من هذا الإيمان جاء المعرض أداةً استراتيجيةً ومكوناً أصيلاً في مشروع الشارقة الثقافي. ومع اتساع الرؤية، تشكّل المعرض بوصفه منظومةً وطنية متكاملة تتقاطع فيها جهود المؤسسات والهيئات في الإمارة بمختلف تخصصاتها، ضمن شبكة تعمل بتكامل وتنسيق وتجتمع على الوعي بأهمية الكتاب والمعرفة.

اليوم يعد المعرض الأول عالمياً، من حيث بيع وشراء حقوق النشر، والأول عالمياً من حيث التفاعل الاجتماعي مع فعالياته كماً ونوعاً من قبل ما يزيد على 200 جنسية، لم نر تراجعاً في الإقبال على المعرض مهما كانت الظروف. وأيضاً هذا المعرض أصبح وطناً معنوياً للناشرين والمثقفين والكتّاب من كل العالم، فهو يحتضن أكبر تجمع للناشرين الأفارقة خارج إفريقيا، وأكبر تجمع عالمي للناشرين من الهند ومختلف دول آسيا، والمساحة الأكبر التي تعرض الإنتاج الثقافي الأوروبي خارج أوروبا، وهو ما يجعل منه نموذجاً عالمياً فريداً ومقياساً جديداً لنجاح المعارض والفعاليات الثقافية.

عربياً، أصبح المعرض بمثابة مختبر للمستقبل العربي، وميدان لتجديد الثقة بالثقافة العربية كقوة فاعلة في الوجدان الجمعي العالمي. فيه تتلاقى ثقافات العالم وتتقاطع عند الثقافة العربية التي يجسدها المعرض، وفيه يجد الكاتب والناشر العربي وكل من يعمل في صناعة الكتاب الفرصة لبناء الشراكات وفتح الآفاق نحو الأسواق المحلية والعالمية، وهنا نستطيع القول إن المعرض هو أحد أهم المنجزات العربية كما وصفته في إحدى المرات الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب.

موقع ومكانة

* نحن اليوم في الدورة ال44، ما هي الفلسفة التي تحكم تطور المعرض في كل دورة؟ وأين موقعه اليوم كحامل للثقافة العربية بين المعارض العالمية التي تحمل ثقافات أخرى مختلفة؟

– تحكم تطوّرَ معرض الشارقة الدولي للكتاب فلسفة جوهرها أن الثقافة كائنٌ حيّ دائم النمو والتجدد كلما أُتيحت له أدوات جديدة للتعبير. ومن هذا الفهم، تحوّل المعرض إلى منظومة ديناميكية تتسع كل عام في فضائها ومحتواها، وتعيد ابتكار أدواتها التنظيمية والفكرية لتواكب التحولات في صناعة المعرفة والنشر والتواصل الثقافي.

فالاتساع المستمر في عدد الدول المشاركة، وتنوّع البرامج المهنية، وابتكار المبادرات التي تصل القارئ بالمؤلف والناشر بالمتخصص، هو تعبير عملي عن رؤية تعتبر الثقافة مشروعاً إنتاجياً متطوراً، يربط البنية التحتية الثقافية بالتحولات الرقمية، ويوازن بين الأصالة والانفتاح، وبين الاستدامة والتجريب. بذلك، أصبح ما أراد له صاحب السموّ حاكم الشارقة منذ البداية، أن يكون فضاءً ينتج المعرفة بقدر ما يحتفي بها، ويختبر عبر مبادراتها المتجددة كيف يمكن للكتاب أن يواكب الثورة التقنية دون أن يفقد جوهره الإنساني.

إن ما يميّز المعرض اليوم ليس موقعه في جدول المعارض العالمية فحسب، بل موقعه في وعي العالم، لقد قدّم المعرض نموذجاً فريداً من الموازنة بين العالمية والجذر الثقافي، وبين صناعة الكتاب ورسالته، ليغدو واحداً من أهم مظاهر الثقة العالمية بالثقافة العربية وقدرتها على الحضور والمبادرة والمساهمة في تشكيل الوعي الإنساني لدى مختلف الثقافات والحضارات.

ركائز

* ما هي الركائز الاستراتيجية التي تنطلق منها هيئة الشارقة للكتاب في رسم مستقبل المعرض خلال السنوات الخمس المقبلة؟

– تنطلق الهيئة في رسم مستقبل المعرض من رؤية تعتبر الثقافة مشروعاً مصيرياً يحدد شكل مستقبل العالم. لذلك، تقوم استراتيجيتها على ثلاث ركائز رئيسية: التطوير المستدام، والتمكين المعرفي، والانفتاح العالمي المنظّم. فالتطوير المستدام يعني أن كل دورة من المعرض تُبنى على ما قبلها وتضيف إليه أدوات وتقنيات جديدة في الإدارة والتجربة، لضمان أن يظل المعرض بيئة متجددة قادرة على استيعاب التحولات في صناعة النشر والمحتوى الرقمي، واستشراف أفق جديد للقراءة والتعلم والإبداع.

أما التمكين المعرفي فيرتكز على توسيع دائرة المشاركة الفاعلة للكتّاب والناشرين والمبدعين الشباب، وربطهم بمساراتٍ اقتصادية ومعرفية تتيح لهم النمو ضمن منظومة ثقافية متكاملة. فيما يأتي الانفتاح العالمي المنظّم ليعبّر عن قدرة الشارقة على بناء شراكات دولية عميقة تُثري المحتوى وتضمن تبادل الخبرات، مع الحفاظ على الطابع العربي للمعرض كقيمة مضافة.

وبهذه الركائز الثلاث، ترسم الهيئة ملامح المرحلة المقبلة، لترسخ مكانة المعرض مركزاً دولياً للتأثير الثقافي، ومن الشارقة محطةً دائمة لصياغة السياسات المعرفية التي تعيد التوازن إلى العلاقة بين الثقافة والإنسان في عالم سريع التحول.

معايير

* إلى أي مدى يمكن اعتبار المعرض منصة لتشكيل صناعة الكتاب العربية الجديدة بما تتطلبه من تقنيات، وحقوق ملكية، وشراكات مع دور النشر العالمية؟

يمكن النظر إلى المعرض بوصفه أحد أبرز المحركات الهيكلية لإعادة تشكيل صناعة الكتاب العربية وفق معايير الإنتاج المعرفي الحديث. أسهم المعرض في تأسيس منظومة دعم متكاملة للناشرين والكتّاب العرب، تجمع بين التحفيز والتطوير المهني والانفتاح العالمي.

فمن خلال مؤتمر الناشرين الذي يسبق المعرض سنوياً، تُفتح آفاق التعاون والشراكة عبر جلسات متخصصة وبرامج مطابقة الأعمال التي تتيح تبادل الحقوق وتوقيع اتفاقيات الترجمة مع كبريات دور النشر العالمية. ومن خلال مؤتمر المكتبات، يتم بحث أفضل الممارسات وأحدث الآليات للحفاظ على الكتاب وإبقاؤه متاحاً للجمهور بدون عوائق.

وأيضاً هناك جوائز المعرض التي تحتفي بالناشرين والمترجمين ووكلاء الحقوق المتميزين، دعماً للابتكار والاحتراف في هذه الصناعة. ويمتد هذا الجهد إلى دعم المواهب الشابة من الكتّاب العرب، ما جعل من المعرض حاضنةً لصناعة النشر العربي الحديث، وفضاءً ينتج المعرفة بقدر ما يعرضها، ويمنح الناشر العربي مكانته الطبيعية في مشهد النشر العالمي.

أثر

* كيف تقيسون الأثر الثقافي للمعرض على المدى البعيد، خصوصاً في ما يتعلق بتعزيز الحوار بين الثقافات وتمكين المعرفة في المجتمعات؟

– على صعيد الأثر الثقافي، تحول المعرض من منصة لعرض المعرفة، إلى منصة تنتج المعرفة، وهذا يتجلى بما يرسخه المعرض من قيم التعدد والتنوع واحترام الاختلاف في الإطار الإنساني النبيل. أيضاً رسخ المعرض مكانة متميزة للثقافة في قلب مشاريع التنمية، ونجح في ترجمة رؤية صاحب السموّ حاكم الشارقة في هذا السياق بأن تكون المعرفة أساس كل بناء وكل مسيرة، وأن تكون دوماً في قلب مشاريع الحوار والتعاون بين شعوب العالم.

هناك أيضاً آثار أخرى مباشرة للمعرض، ويمكن رصدها من خلال ثلاثة أبعاد مترابطة: الاجتماعي، والاقتصادي، والقيمي، تشكّل مجتمعة ملامح التحوّل الذي أحدثه في وعي الأفراد والمجتمعات. فعلى المستوى الاجتماعي، أسهم المعرض في ترسيخ ثقافة القراءة بوصفها سلوكاً يومياً يعزز الترابط الأسري والوعي المجتمعي، وفتح المجال أمام ملايين الزوار للتفاعل مع المعرفة في بيئة تشجع على الحوار والانفتاح والتبادل الثقافي. لقد تحوّل المعرض إلى مساحة لقاء إنساني تجمع مختلف الثقافات تحت سقفٍ واحد، وتبني جسوراً بين الشعوب عبر الكتاب والكلمة والفكرة.

أما على المستوى الاقتصادي، فقد أوجد المعرض بنية متكاملة لصناعة النشر والمعرفة في العالم العربي، وفعّل سوقاً حقيقية للكتاب والحقوق والترجمة، ما جعل منه رافداً للاقتصاد الإبداعي في دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة.

وفي بعده القيمي، رسّخ المعرض الإيمان بدور الثقافة في ترسيخ الهوية الإنسانية المشتركة، وفي تحويل القراءة من فعل فردي إلى مشروع جماعي للارتقاء بالفكر والذائقة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية. وهذا الأثر يظهر جلياً في الذاكرة الشعبية التي بات المعرض جزءاً أصيلاً منها، فانتظار الناس له كل عام، وإقبال العائلات والطلاب والزائرين من مختلف الدول، وتحول الزيارات إلى طقسٍ ثقافي متجذّر في وجدان المجتمع، كلها دلائل على أن المعرض تجربة وجدانية تُبنى فيها الذكريات، وتنمو حولها علاقة دافئة بين الإنسان والمعرفة، وبين الثقافة والحياة اليومية.

امتداد

* تواصل الشارقة مشروعها الثقافي بقيادة صاحب السموّ حاكم الشارقة، وأصبحنا نسمع كثيراً عن نتائج هذا المشروع في قلب مراكز الثقافة العالمية، ما هي الأهمية والنتائج من وجهة نظركم؟

يمكن القول إن تجليات مشروع الشارقة الثقافي بقيادة صاحب السموّ حاكم الشارقة عالمياً، تشكّل أحد أهم التحولات في الحضور الثقافي العربي خارج حدوده الجغرافية، إذ بات المشروع الثقافي يتجلى في مبادرات مؤسسية راسخة داخل مراكز الثقافة والمعرفة في العالم. وهذه المبادرات لم تعد مجرد جسور رمزية للتواصل الثقافي، بل أصبحت مؤسسات أكاديمية ومراكز بحثية تحفظ الذاكرة وتعيد بناء الحوار الحضاري على أسس علمية وإنسانية وعلى أسس العدالة والتكافؤ بعيداً عن هيمنة ثقافة على أخرى.

بعد معهد الثقافة العربية في ميلانو افتتح صاحب السموّ حاكم الشارقة مركز الدراسات العربية في جامعة كويمبرا في البرتغال، ليشكل خطوة متقدمة في هذا المشروع الحضاري، ويؤسس لمسارٍ بحثي وأكاديمي جديد في تاريخ العلاقات العربية الأوروبية، وفي فرادة الثقافة العربية وتموضعاتها ومساهماتها التاريخية في الحضارة الإنسانية ونهضتها العلمية، وذلك من خلال دراسة الأثر العربي والإسلامي في اللغة والأدب والتاريخ البرتغالي والأوروبي، وتوثيق مسارات التبادل العلمي والثقافي التي أسهمت في النهضة الأوروبية.

إعادة بناء الوعي

تجسد المشاريع الثقافية العربية للشارقة في أوروبا، رؤية صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، التي ترى في الثقافة مدخلاً للإصلاح الإنساني والحضاري. فالثقافة في فكر سموّه قوة أخلاقية تصنع التوازن بين الأمم وتعيد بناء الوعي الإنساني على أسس من العدالة الواعية التي تدرك أهمية الاختلاف والتنوع وتحترم الفرادة في كل مجتمع وثقافته.

المصدر : صحيفة الخليج