الشارقة: رضا السميحيين
تُعد المجموعة القصصية «الأشياء التي فقدناها في النيران»، للكاتبة الأرجنتينية ماريانا إنريكيس، واحدة من الأعمال المميزة في مسار القصة القصيرة المعاصرة، إذ تقدم مناخاً سردياً يجمع بين الشاعرية، والانغماس في واقع الطبقات المهمشة، ونجد في كل قصة من قصص هذه المجموعة توتر جمالي ما بين الروتين اليومي الرتيب، والرعب المستقر في تفاصيل هذه اليوميات، لتغدو حدود الواقع ملتبسة ومحيرة ويصبح الرعب متغلغلاً في طبقات المجتمع.
صدرت المجموعة القصصية عن «مجموعة كلمات»، بترجمة مارك جمال، فتنتقل إلينا عبر اثنتي عشرة قصة مشاهد العاصمة «بوينس آيرس» المعاصرة ومناطق أرجنتينية أخرى، حيث تتقاطع قسوة الواقع فيها مع عوالم الغرائبي واللامرئي، وتحمل النصوص في طياتها مزيجاً من التشويق والجمال المظلم، إذ يتحول الشارع والرصيف وزوايا المدينة الخفية، إلى مسرح للكشف عن جراح الطبقة المهمشة وأسئلتهم، ويمتزج عند المؤلفة السرد مع الأسطورة والذاكرة الجمعية، لتمنح كل العناصر في القصة مثل البيت والشارع دور البطولة في عالم يشع بالانتكاسات النفسية والأسئلة المعلقة.
سردية
تتسم قصص المجموعة بأنها غارقة في أجواء من الرعب والسوداوية، لكنها لا تبتعد عن الواقع الاجتماعي في الأرجنتين، حيث تظهر فيها بوضوح ملامح الظلم الاجتماعي، الفقر، العنف ضد النساء، والفساد، وتتناول إنريكيس هذه الثيمات من خلال حبكة قصيرة مكثفة تبتعد عن الميلودراما، موظفة مشاهد واقعية وأخرى ذات طابع غرائبي أو سحري لتعكس تفاصيل الحياة اليومية والأزمات الاجتماعية.
أشار العديد من النقاد إلى أن أكثر ما يميز أسلوب إنريكيس هو مزجها بين الواقعية القاسية وأجواء الرعب النفسي، ما يجعل القصص ذات بعد إنساني عميق، وتعالج ببراعة أثر الرعب الاجتماعي في الفرد، كما أن الكاتبة تركز في معظم القصص على الشخصية الأنثوية، لتقدم للقارئ رؤية نقدية واضحة حول الهشاشة والتمرد، وغالباً ما ترتبط فكرة «النار» في المجموعة ببطلاتها كرمز للثورة والاحتراق الداخلي والعنف الذي يلاحق المرأة، وهو ما يظهر بوضوح في القصة التي حملت عنوان المجموعة.
بعض النقاد ربما رأوا في أسلوبها الجاف نوعاً من القسوة أو التكرار في الثيمات والشخصيات، ما دفعهم لاعتبار القصص أحياناً متشابهة في الجو العام، مع تمجيد «الرعب الواقعي» على حساب التنوع السردي، لكن مع ذلك تبرز أصالة الكتاب في طرح القضايا الاجتماعية وعدم الاكتفاء بجماليات الرعب.
تجسد هذه المجموعة القصصية براعة الكاتبة في تقليب أوجه الحياة المختلفة، من دون أن تغرق في الامتداد الروائي الطويل، حيث تخطت الحدود بين السرد الواقعي والفانتازي والاجتماعي، فيستشعر القارئ للمجموعة أنه أمام انعكاس لتحولات الذات والجماعة لشخصيات الرواية من طبقات الأحياء الفقيرة، حيث منحتهم الكاتبة حيزاً خاصاً من التعبير، ومنحت القارئ فرصة اختبار حالات ثقافية ونفسية متنوعة، فيتجدد سؤال الشكل والمضمون مع كل قصة، في رؤية سردية متكاملة تحرك الأسئلة وتكسر اليقين حول العالم.
تفاصيل
مجموعة «الأشياء التي فقدناها في النيران» تحتوي على قصص قصيرة تأخذ القارئ عبر أبعاد متعددة من الحياة في الأرجنتين المعاصرة، من بين هذه القصص، نجد قصة فتاة مراهقة تدعى فلورنسيا تعود للقاء صديقتها روثيو، وتحاولان معاً إهانة مالكة نزل محلي بسبب ماضيه المظلم عندما كان في الشرطة خلال فترة الديكتاتورية، وأثناء اقتحامهما للنزل في الليل، تواجهان ظواهر غير متوقعة مرتبطة بالتاريخ القاسي ورعب الشخصية الذاتية الداخلية، ونجد قصة أخرى تركز على مارسيلا، الفتاة التي تبدأ في إيذاء نفسها علناً تحت تأثير أصوات غامضة، ما يبرز الجانب النفسي المكبوت لديها والمعاناة الداخلية، كما تسرد قصة أطفال يزورون منزلاً مهجوراً، حيث تتداخل المخاوف والغموض مع تجاربهم الطفولية لتكشف عن رعب خارج المنطق.
ولعل هذه القصص لا تقتصر على الرعب باعتباره الثيمة الأساسية للمجموعة، وإنما في جوهرها جاءت لتحكي عن مشاهد حياتية واقعية مملوءة بالعنف، الفقر، والتحولات الاجتماعية المضطربة، مع نسج عناصر من السحر والأساطير الشعبية، لخلق أجواء مشبعة بالإثارة والتوتر النفسي، وتظهر المجموعة القصصية اهتماماً خاصاً بشخصيات نسائية تعاني العنف والاضطهاد، فالنار في المجموعة ترمز في العديد من القصص إلى قوة التمرد أمام الخوف والقهر، كما تعكس الحكايات معاناة المجتمع الأرجنتيني وتأثيرات تاريخه المؤلم على الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية.
يتشكل فضاء الحكاية عند مارينا إنريكيس من مشاهد مكثفة وحوارات مقتصدة، لكنها مشحونة بالإيحاء والقلق، اللغة عندها تحمل وقعاً مظلماً، جنباً إلى جنب مع طاقة سردية تستند إلى التلميح أكثر من التصريح، وتكثيف العنف اليومي دون الوقوع في الاستعراض أو الميلودراما، تطرح في كل قصة بحس تساؤلي أسئلتها حول مكان المرأة، وملامح السلطة الأبوية، والذاكرة الجماعية الجريحة، وهو ما يظهر في البناء الحواري لشخصياتها.
أسلوب
تتجلى جمالية نصوص الكاتبة في الخيط الخفي المستمر بين الواقعي والغرائبي، حتى أكثر العناصر غرابة كالأشباح والممارسات الطقوسية، تبدو في حكاياتها مجرد امتدادات للمعاناة اليومية والبؤس الاجتماعي، ولا تعوِّل الكاتبة كثيراً على الحبكات الصادمة أو النهايات الفجائية، بقدر ما تترك جملة أخيرة مفتوحة على الخوف والتعاطف في آن، هذا الانفتاح الفني على الاحتمال والحيرة يجعل نصها مميزاً ومقروءاً ضمن تقليد جديد لأدب الرعب النسوي والاجتماعي في أمريكا اللاتينية.
تجعل الكاتبة الرعب بحد ذاته وسيلة للاحتجاج والتحليل، حيث يصبح مشهد الشارع وصرخات الأطفال المفجوعين علامات على احتضار الحلم بمجتمع جديد، وعلى انتقال الرعب من الأسطورة إلى الواقع، كما تسرد الأزمات الإنسانية بنبرة أدبية جميلة ويبرز اهتمامها الشديد بإثارة سؤال الطبقة المقهورة: إلى أي مدى يمكن للمعاناة أن تصنع الحكاية؟، وهل يتحول الضعف مع الزمن إلى قوة جديدة؟ فتبني الكاتبة نصوصها في مشهدية ثقافية منسوجة بموروث محلي، وبتجربة نسوية تساءل سلطة المجتمع، وتعيد تخيل أماكن الخلل الاجتماعي، في سرد فلسفي نقدي تعري فيه هشاشة الإنسان، وحاجته المستميتة إلى النجاة حتى في أكثر البيئات قتامة، وهكذا تتداخل قصص الكاتبة في جدل دائم بين الانكشاف والاختباء، ليظهر العنف بوصفه خبرة وحقيقة جماعية لا مفر منها.
إضاءة
مارينا إنريكيس هي كاتبة أرجنتينية معاصرة معروفة بتركيزها على أدب الرعب الاجتماعي الذي يدمج بين الواقع المرير والغرائبي، تنبع أعمالها من تجربة الأحياء الشعبية الضائعة في بوينس آيرس، حيث تستكشف الجوانب النفسية والاجتماعية للعنف، الفقر، والذاكرة الجماعية في سياق سياسي وثقافي معقد، تستخدم في نصوصها لغة جمالية سردية تجمع بين المفارقة والشاعرية السوداء، لتبرز معاناة طبقات المجتمع الفقيرة، خاصة النساء، وتعتبر إنريكيس من أبرز كتاب الأدب اللاتيني الجديد الذي يعيد تعريف الرعب كأداة نقد وتقويم اجتماعي إنساني.
اقتباسات
«في هذا المكان، كل ما يموت هو ممنوع لمسه، لأنه لا يزال يحمل شيئاً من ذاتنا، يرد إلينا من خلال نظرته الفارغة»
«الأشباح الوحيدة في هذا المكان هي تلك التي جلبتها معك»
«كانت تحب الرعب لأنه النوع الوحيد الصادق، الرعب هو الحقيقة».
«نحن مصنوعون من القصص، هي التي تبنينا وتخلق معظم عالمنا».
«البيت يصبح شخصية بحد ذاته، شاهداً صامتاً على دراما الطفولة التي تتكشف مخزناً للخوف الخفي والجراح الماضية».
دار روايات
المصدر : صحيفة الخليج
