اتفاق المعادن الأميركي السعودي يفتح فصلاً جديداً في الشراكة

اتفاق المعادن الأميركي السعودي يفتح فصلاً جديداً في الشراكة

في أول زيارة له إلى واشنطن منذ عام 2018، عاد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى العاصمة الأميركية حاملاً أجندة ثقيلة تمتد من الدفاع إلى الطاقة والذكاء الاصطناعي. غير أن العنوان الأبرز في الزيارة كان هذه المرة “المعادن الحرجة”، بعد إعلان إطار استراتيجي جديد للتعاون بين الولايات المتحدة والسعودية في اليورانيوم والمعادن النادرة وتمويل مصفاة جديدة لعناصر الأرض النادرة في المملكة، في خطوة يصفها خبراء في واشنطن بأنها إعادة هندسة لسلاسل الإمداد العالمية بعيداً عن الصين.

وبموجب “الإطار الاستراتيجي للتعاون في المعادن”، يتفق الجانبان على تعزيز الاستثمارات المتبادلة في سلاسل إمداد اليورانيوم والمعادن الأساسية والمغناطيسات الدائمة، على أن يشكّل هذا الإطار “حجر الزاوية” في الشراكة الاستراتيجية الأوسع بين البلدين، وفق تحليل صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن.

كما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) – التي أعلن الرئيس دونالد ترمب تغيير اسمها إلى “وزارة الحرب” في خطوة لا تزال بانتظار موافقة الكونجرس – أنها ستموّل بالكامل حصة أميركية تبلغ 49% في مشروع مصفاة جديدة لعناصر الأرض النادرة تتشارك فيها مع شركة “إم بي ماتيريالز” (MP Materials) الأميركية وعملاق التعدين السعودي “معادن”.

وتتماهى هذه الخطوة مع مسار أوسع كشفته مصادر أميركية وسعودية، إذ حصلت واشنطن خلال الزيارة على تعهدات استثمارية سعودية تصل إلى تريليون دولار في قطاعات تمتد من الطاقة النووية إلى الصناعات الدفاعية، فيما يشكّل قطاع المعادن الحرجة أحد أعمدة هذه الحزمة الاستثمارية.

ثروات نادرة في قلب الصحراء

تقدّر وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية أن مكمن “جبل صايد”، الواقع على بُعد نحو 350 كيلومتراً شمال شرقي جدة، يضم رابع أكبر احتياطي من عناصر الأرض النادرة في العالم من حيث القيمة. وتشير الأرقام التي استند إليها تقرير (CSIS) إلى نحو 552 ألف طن من العناصر النادرة الثقيلة مثل الديسبروسيوم والتيربيوم، إضافة إلى 355 ألف طن من العناصر النادرة الخفيفة مثل النيوديميوم والبراسيوديميوم.

كما تُظهر خريطة جيولوجية منشورة من شركة “معادن” أن مكامن أخرى في مناطق جغرافية مختلفة – من “جبل تولة” و”غرية” في الشمال إلى “أم البرك” في الجنوب – يمكن أن تعزز هذه الاحتياطيات مع استمرار أعمال الاستكشاف.

هذه الأرقام تكتسب أهمية مضاعفة من منظور واشنطن؛ فالولايات المتحدة تنتج في الأساس العناصر النادرة الخفيفة وتعتمد إلى حد كبير على الواردات لتأمين العناصر النادرة الثقيلة المستخدمة في أحدث منظوماتها العسكرية، من مقاتلات “إف-35” وغواصات “فرجينيا” و”كولومبيا” إلى صواريخ “توماهوك” والرادارات والذخائر الموجهة بدقة، فضلاً عن تقنيات مدنية مثل أشباه الموصلات للسيارات وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي.

ومع تشديد بكين القيود على صادرات هذه العناصر خلال العام الماضي، ارتفعت المخاوف في واشنطن من تحوّل الاعتماد على الصين إلى نقطة ضغط استراتيجي في أي أزمة مقبلة.

مصفاة مشتركة لكسر احتكار الصين

في هذا السياق يأتي الإعلان عن مشروع المصفاة الجديدة في السعودية. فبحسب “معادن” و”إم بي ماتيريالز”، سيعتمد المشروع على مزيج من الخامات المحلية والواردات من دول حليفة، مع توجيه الإنتاج إلى سلاسل الإمداد الدفاعية والصناعية في الولايات المتحدة والسعودية ودول أخرى صديقة.

وتملك “معادن” 67% من أسهمها “صندوق الاستثمارات العامة”، ما يمنح الحكومة السعودية قدرة مباشرة على توجيه الاستثمار بما ينسجم مع “رؤية 2030”. أما من الجانب الأميركي، فستموّل وزارة الحرب كامل الحصة الأميركية البالغة 49%، فيما تحتفظ “معادن” بنسبة لا تقل عن 51% من المشروع، وفق ما أكدته مصادر مطلعة لوكالة “رويترز”.

هذا الترتيب يمنح الرياض موقعاً محورياً في سوق معالجة عناصر الأرض النادرة، إذ سيوفر واحدة من أوائل المنشآت خارج شرق آسيا القادرة على إنتاج أكاسيد نادرة خفيفة وثقيلة على حد سواء على نطاق تجاري. كما يُتوقع أن يفتح الباب أمام استثمارات مشتركة لاحقة في صناعة المغناطيسات الدائمة داخل المملكة، وهي الحلقة العليا في سلسلة القيمة المستخدمة في المحركات الكهربائية وتوربينات الرياح والمعدّات العسكرية المتطورة.

“رؤية 2030”: التعدين ركيزة ثالثة للاقتصاد

يمثّل قطاع التعدين أحد أعمدة استراتيجية التنويع الاقتصادي في “رؤية 2030”. فخلال السنوات القليلة الماضية، قفز عدد رخص الاستكشاف في المملكة من 224 رخصة عام 2015 إلى أكثر من 800 رخصة في 2023، بينما ارتفعت التقديرات الرسمية لقيمة الموارد المعدنية غير المستغلة من نحو 1.3 تريليون دولار إلى 2.5 تريليون دولار بحلول 2024، وفق بيانات حكومية نقلتها وسائل إعلام دولية.

ومن أجل تسريع جذب الاستثمارات، أقرّت الرياض نظام الاستثمار التعديني الجديد عام 2021، الذي حدّد سقفاً زمنياً لا يتجاوز 180 يوماً للحصول على رخصة تعدين، مقارنة بفترات تمتد بين 7 و10 سنوات في الولايات المتحدة. كما تستند المملكة إلى ميزة تنافسية أخرى تتمثل في انخفاض تكلفة الطاقة؛ إذ سجّل مشروع “الغط” لطاقة الرياح أدنى تكلفة مستوية للكهرباء من طاقة الرياح في العالم عند 1.6 سنت لكل كيلوواط/ساعة، تليه محطة “وعد الشمال” بنحو 1.7 سنت، فيما تحوز مشاريع الطاقة الشمسية السعودية أرقاماً قياسية مشابهة.

هذه العوامل مجتمعة تجعل من المملكة مرشّحاً طبيعياً لتطوير مركز إقليمي لمعالجة المعادن الحرجة لا يخدم احتياجاتها الداخلية فحسب، بل يستقبل أيضاً الخامات القادمة من دول إفريقية مثل مالاوي وناميبيا وجنوب إفريقيا وأوغندا، التي شهدت طفرة في الاستثمارات في عناصر الأرض النادرة خلال العام الماضي. وبهذا، تضع الرياض نفسها حلقة وصل أساسية بين موارد الجنوب العالمي وطلب الصناعات المتقدمة في الغرب وآسيا.

التقاطع مع الملف النووي

لا يتوقف البُعد الاستراتيجي لاتفاق المعادن عند حدود العناصر النادرة. فالولايات المتحدة والسعودية أعلنتا بالتوازي إكمال المفاوضات حول تعاون في الطاقة النووية السلمية، يمهّد لاتفاق من نوع “123” يضبط أطر التعاون التجاري والتقني، ويلتزم بمعايير عدم الانتشار النووي.

وبحسب تحليل (CSIS)، تتميز العديد من مكامن العناصر النادرة في المملكة، وعلى رأسها “جبل صايد”، بتجاورها مع احتياطيات مهمة من اليورانيوم تُقدّر بنحو 31 ألف طن، ما يتيح للسعودية على المدى الطويل دخول سلسلة الوقود النووي وتزويد محطات الطاقة محلياً وربما في الأسواق الدولية.

هذا التطور يكتسب أهمية خاصة لواشنطن بعدما وقّع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في مايو 2024 “قانون حظر واردات اليورانيوم الروسي”، الذي يمنع استيراد اليورانيوم منخفض التخصيب من روسيا حتى نهاية عام 2040 مع إمكان منح إعفاءات محدودة حتى 2027 في حال عدم توافر بدائل تجارية.

ويستهدف القانون تقليص اعتماد الولايات المتحدة على الوقود النووي الروسي، الذي كان يغطّي ما يقرب من 30% من وارداتها قبل الحرب في أوكرانيا.

ومع أن تفاصيل الاتفاق النووي المدني مع الرياض لم تُرسل بعد إلى الكونجرس في إطار “اتفاقية 123″، فإن المؤشرات الأولى تدل على تفضيل سعودي واضح للتكنولوجيا الأميركية في بناء المفاعلات وتشغيلها، مقابل قبول بضوابط صارمة على التخصيب وإعادة المعالجة. ويرى مسؤولون في وزارة الطاقة الأميركية أن بإمكان الطرفين الوصول إلى صيغة “تربح فيها واشنطن والرياض معاً” من خلال ربط التعاون النووي بتطوير سلاسل الإمداد للوقود والمعادن الحرجة في المملكة.

من “النفط مقابل الأمن” إلى “المعادن مقابل المستقبل”

منذ اللقاء التاريخي بين الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز على متن البارجة “يو إس إس كوينسي” عام 1945، تشكّل التحالف الأميركي – السعودي على قاعدة غير مكتوبة قوامها النفط مقابل الحماية. وعلى مدى عقود، لعبت شركات النفط الأميركية دوراً محورياً في تطوير الصناعة النفطية السعودية، فيما حافظت الرياض على موقعها كأكبر مورّد منفرد للنفط إلى الأسواق العالمية ومصدر توازن في “أوبك+”.

اليوم، من دون أن يفقد النفط مركزية دوره، تدفع التحولات التكنولوجية والجيوسياسية البلدين إلى إعادة تعريف معادلة الشراكة. فالمعادن الحرجة – من عناصر الأرض النادرة إلى النيكل والليثيوم والنحاس – باتت تشكّل “نفط العصر الرقمي”، إذ تعتمد عليها الصناعات الدفاعية المتقدمة، والتحول إلى الطاقة النظيفة، والثورة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة.

وفي هذا السياق، تبدو الرياض وواشنطن بصدد بناء مسار “من المنجم إلى المغناطيس” يربط بين الموارد السعودية ورأس المال والتقنية الأميركية، مع مشاركة متوقعة لدول حليفة في أوروبا وآسيا.

مع ذلك، تبقى أمام هذا المسار تحديات عدة، من بينها ضرورة تسريع الموافقات التنظيمية في الولايات المتحدة على استخدام المواد القادمة من الخارج، وضمان التزام مشاريع التعدين في المملكة بالمعايير البيئية والاجتماعية الدولية، إضافة إلى إدارة حساسية المنافسة مع الصين التي لا تزال تسيطر على القسم الأكبر من طاقة معالجة العناصر النادرة في العالم. لكن المؤكد أن اتفاق المعادن الجديد يكرّس انتقال العلاقة الأميركية – السعودية من شراكة متمحورة حول النفط وسوق الطاقة فقط إلى شراكة أوسع تُبنى على المعادن الاستراتيجية والتكنولوجيا المتقدمة وسلاسل الإمداد العالمية للمستقبل.

المصدر : الشرق