تحقيق: حسن حمدي سليم
«لا تلمه، لا تنتقده، لا تعترض».. سلسلة من اللاءات فرضت نفسها على علاقة الوالدين بأبنائهما، وسط جدل متزايد حول أفضل الأساليب التربوية بين الصرامة وما يطلق عليه النهج الإيجابي الذي صار الحديث عنه رائجاً الآن، وبينما يرى البعض أن التربية التقليدية كانت سبباً في تأسيس شخصيات أكثر التزاماً وانضباطاً، يؤكد آخرون أن العصر الرقمي وما يشهده من انفتاح وتغير، يستدعي نمطاً جديداً يقوم على الحوار والاحتواء وإشراك الأبناء في صناعة قراراتهم.
«الخليج» طرحت السؤال حول أنماط التربية وما يتناسب مع الأجيال الجديدة بحثاً عن إجابة وافية لمعادلة باتت أكثر تعقيداً في ظل التحولات المتسارعة.
يجمع الخبراء على أن التحولات المجتمعية أفرزت أنماطاً متداخلة من التربية، باتت محكومة بمعطيات جديدة فرضتها طبيعة الحياة المعاصرة، من عمل المرأة وتعدد المسؤوليات، ودخول التقنيات الذكية كجزء من حياة الأبناء اليومية.
وتباينت الآراء بين من يطالب بالعودة إلى أساليب الماضي في التربية القائمة على الحزم، ومن يدعو إلى ما يعرف بالتربية الإيجابية التي تضع قواعد واضحة، لكنها في الوقت ذاته تراعي مشاعر الأبناء وتدعم ثقتهم بأنفسهم، فيما يحذر مختصون من أن غياب التوازن بين الحزم والاحتواء قد ينتج جيلاً هشّاً نفسياً، متردداً في قراراته، أو على النقيض متمرداً وعدوانياً.
أدوار متداخلة
يرفض د. سيف درويش، استشاري طب المجتمع والصحة العامة، اختزال الفارق بين الماضي والحاضر في تفاوت أنماط التربية، مؤكداً أن الاختلاف الأساسي يكمن في تغيّر طبيعة أدوار أفراد الأسرة وتداخلها، إذ تجاوزت مهمة المرأة التربية والإشراف اليومي على الأطفال وصارت شريكة الرجل في مسؤولية العمل وطلب الرزق، إضافة إلى دخول عنصر الخادمة والمربية ذات الدور غير المحدد إلى تكوين الأسر، ما أنتج نظاماً تربوياً يتسم بعدم وضوح الأدوار أدى إلى تراخي جميع الأطراف وتخبطها.
ويوضح ل «الخليج»، أن القيم المرتبطة بعملية التربية تتغير مع الزمان والمجتمع، مستشهداً بنمط الضرب الذي كان جزءاً من هذه العملية في الماضي بينما يتم استبداله اليوم بعقوبات معنوية مثل منع الطفل من استخدام الهاتف لفترة أو حرمانه من النزهة في نهاية الأسبوع، وهو ما أثبتت الدراسات الحديثة فعاليتها عن العقاب الجسدي الذي غالباً ما يؤدي في النهاية إلى تمرد الطفل عند مرحلة المراهقة وأن يكون عدوانياً مع الآخرين. ويؤكد أنه في الحالتين لا يمكن القول بأن في الماضي كان هناك نمط صارم والآن نمط متزن، وإنما الفكرة الأساسية هي كيفية تطبيق هذه الأنماط المختلفة، إذ يبقى ما يريده الآباء من اتباع أي نمط تربوي هو توصيل رسالة للطفل بحدود تصرفاته لتبين له أن هناك نتائج معينة لأي عمل يقوم به، وتعلمه مسؤولياته، مشيراً إلى أن تأثيرات الأنماط الصارمة تبقى مرتبطة بالزمن، إذ كانت شائعة وتقليدية في الماضي، بينما اليوم تعد سلوكاً غير مألوف وهو ما يزيد من وقعها على الأطفال.
الحاجة الملحة
يتفق الخبراء على أن الاتجاه نحو ما يُعرف بالتربية الإيجابية يتموضع حالياً في خانة الحاجة الملحة، لاسيما مع الانفتاح الثقافي الواسع أمام الأبناء، إلى جانب تغير أنماط الأسرة نفسها، محذرين في الوقت نفسه من عدم مراعاة الفروق الفردية بين أبناء الأسرة، واتباع نسق واحد مع جميع الأبناء.
وتقول مختصة الإرشاد الأسري والوعي المجتمعي، لطيفة الملا: إن التربية التقليدية جزء من الهوية الثقافية والاجتماعية التي حفظت تماسك الأسرة والمجتمع لسنوات، إذ كانت مدعومة بجذور عميقة من التعاليم الدينية والعادات والتقاليد، وهو ما أخرج أجيالاً تدرك دورها وحدودها وتقدر السلطة الأبوية، مشيرة إلى أن الانفتاح الرقمي غيّر هذه المعادلة بعرض ثقافات أخرى وسلوكيات مختلفة.
وتؤكد ل «الخليج»، أن التربية عملية متغيرة تتفاعل مع قيم المجتمع ومتغيراته وليست قالباً جامداً، وأن التربية الإيجابية تعمل في المقام الأول على تطوير شخصية الطفل وتعزيز العلاقة بينه وبين والديه، كما تمنحه القدرة على الحوار والتعبير عن آرائه بثقة، إضافة إلى تعزيز قدرته على التفكير النقدي ما يمكنه من التفاعل بوعي مع الانفتاح الرقمي والثقافات الأخرى.
الهشاشة النفسية
ترى آية محمود، أخصائية نفسية واستشاري تحفيزي معتمد، أن النتيجة النهائية لنمط التربية الصارم القائم على القسوة والشدة التي قد تصل إلى العنف، هي إصابة الطفل بالهشاشة النفسية والتردد، مع عدم قدرته على اتخاذ القرارات رغم تقدمه في العمر، لتعوده الدائم أن يُفرض عليه القرار وأن يخبره الآخرون بما يجب أن يفعله.
وتوضح أن مصطلح التربية الإيجابية في حد ذاته يحتاج إلى إعادة صياغة بعدما نالت منه السخرية وتاهت مفاهيمه الأساسية، إذ لا تعني إطلاق الحرية الكاملة للطفل وإنما وضع القواعد والالتزام بها بحزم مع مراعاة مشاعر الأطفال والحرص على منحهم جرعات من الحنان والدفء والحوار الأسري لخلق بيئة سوية وداعمة للأبناء تنتج أشخاصاً قادرة على مواجهة تحديات الحياة وصنع مستقبل أفضل لأنفسهم.
عملية الحوار
يشدد د. سيف درويش، على ضرورة إشراك الأبناء في عملية الحوار داخل الأسرة واتخاذ القرارات لاسيما فيما يخص الطفل نفسه، مشيراً إلى أنه كلما أشركت الأسرة الطفل في اتخاذ قراراته كان مسؤولاً عنها، وأن الخطأ الأكبر الذي يرتكبه الآباء هو محاولة تجنيب الأبناء الأخطاء التي وقعوا فيها وهم صغار، فلا أحد يتعلم من أخطاء غيره لكن الأفضل يتعلم من أخطائه ليدرك أنه لا يجب تكرار هذا السلوك.
ويتساءل: «كيف نتوقع أن نتخذ للطفل كل قراراته ثم نطالبه بتحمل تبعيات هذه القرارات؟ وأنه من المفترض أن يختار طريقة العقوبة التي يحصل عليها إذا أخطأ، لأن ذلك يُشعره بمسؤوليته عن قراراته ويجعله أكثر حرصاً ألا يكرر الخطأ».
ويحذر من الخلط بين مصطلحي المساواة والعدالة خلال عملية التربية، وعدم مراعاة الاختلافات الفردية بين الأبناء، مشيراً إلى ضرورة وجود نظام خاص لكل طفل بالعائلة وفقاً لقدراته الإدراكية والمعرفية والنفسية، مع الحرص على عدم إشعار أحد الأبناء بالظلم وأن هناك من هو بمأمن من العقوبة وآخر يعاقب على كل شيء.
أسلوب خاص
تتفق آية محمود، مع د. سيف درويش بقولها: لكل طفل أسلوب خاص في التعامل نتيجة لاختلاف أنماط شخصياتهم، ويجب أن تعي الأم كل هذه الأنماط لتعرف كيفية التعامل مع كل واحد من أبنائها، حتى تتمكن من توجيه سلوكه للأفضل.
وتقول، إنه على الوالدين مراقبة الاختلافات بين الأبناء وتحديد نقاط القوة والضعف واهتمامات كل طفل، وملاحظة كيف يتعامل ويتكيف كل منهم مع المواقف المختلفة، ليحددوا الأسلوب المثالي للتعامل مع كل طفل من دون الإخلال بالقيم والانضباط، مشيرة إلى أنه من الممكن أن يخبر الآباء الأبناء بأن جميعهم محبوبون وكل واحد فيهم مختلف بطريقة جميلة.
إجمالاً، يؤكد الخبراء أن لكل مرحلة عمرية تحديات خاصة وأدواراً مختلفة للوالدين تبدأ منذ ولادة الطفل، حيث يرتكز دورهما على تلبية احتياجات الطفل الأساسية من التغذية واللعب والشعور بالأمان، ثم تنتقل مهمتهما إلى تعليمه مسؤولياته وكيفية تحديد أهدافه وإشراكه في عميلة اتخاذ القرارات ونقاشه في تفاصيل العالم الجديد الذي يتعرف عليه، وصولاً إلى المرحلة الأصعب وهي المراهقة التي يكون فيها الابن حساساً تجاه قيمته، ويكون وجهة نظر خاصة به تجاه المواقف والأمور المختلفة بما في ذلك تعامل والديه معه. ويرون أن الحل المثالي لتجنب انفجار نفسي يصيب الأطفال يكمن في التعامل مع الأبناء منذ الصغر بديمقراطية والاستماع إلى آرائهم ومشاركتهم في اتخاذ القرار، ودعمهم نفسياً في جميع مراحلهم العمرية.
المصدر : صحيفة الخليج
