مهرجان الفنون الإسلامية… جماليات تنير دروب القلب

مهرجان الفنون الإسلامية… جماليات تنير دروب القلب

عمل مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية على مدار دوراته المتعاقبة على ترسيخ فكرة الفن والإبداع الإسلامي، ورفع الذائقة البصرية لدى الجمهور على المستويات العربية والإسلامية والعالمية بحيث تكون هناك ثقافة بالإبداعات والجماليات المستوحاة من التراث والحضارة والتاريخ الإسلامي والعربي، فقد عرف تاريخنا العديد من الفنون مثل الخط والنحت والمنمقات والتذهيب والزخرفة والزركشة وغير ذلك من إبداعات أبرزت ثراء الحضارة والتراث وتنوعه، وظهر العديد من الفنانين الذين ارتبطوا بهذه الفنون وعبروا عنها، وكذلك هناك الكثير من العواصم والمدن العربية والإسلامية التي اشتهرت بتلك الممارسات الفنية والإبداعية.

أضحت الشارقة اليوم بمهرجانها هذا واحدة من أهم المنصات التي تناقش حراك الفنون وتدفعه إلى الأمام، حتى بات هناك العديد من الفنانين العالميين ينتجون فنوناً إسلامية، حيث عانقت تلك الإبداعات العالم أجمع وصار لها حضورها الكبير والمتوهج، حيث يلعب «الفنون الإسلامية»، دوراً مهما في هذا الألق والتوهج، بصورة لم تعد فيها هذه الإبداعات مثار إعجاب واهتمام العرب والمسلمين فقط بل العالم أجمع.

والملاحظ في تجربة المهرجان ذلك الانفتاح على التيارات والمذاهب والمدارس في حركة الفن العالمي، بحيث صارت الفنون الإسلامية، مع خصوصيتها، مستصحبة للإرث والإبداع العالمي، حيث دخل التشكيل بقوة في مشهد هذه الإبداعات التي يقدمها المهرجان واللوحة الحروفية، كما قام بتوظيف التطور التقني والرقمي الذي أفرزته ثورة التكنولوجيا، بحيث صار يستخدم تقنية الفيديو والرقمنة في إنتاج أعمال فنية، إضافة إلى ارتباط الفنون الإسلامية بحركة الفن المعاصر بحيث صارت الأعمال تعبر عن أبعاد فكرية إلى جانب جوهرها الروحي والجمالي.

وبفضل هذا الاهتمام الكبير بالمهرجان، أضحى اليوم من المراكز الفنية العالمية الكبرى التي تشد إليها الرحال من أقاصي الدنيا، حيث بات منصة تشكل ملتقى للتفاكر والنقاشات وصناعة المبادرات الجديدة، إضافة إلى دوره الرئيسي في الحفاظ على الهوية والتعريف بالحضارة والثقافة الإسلامية والعربية، حيث إن المهرجان قد أصبح من المنصات التي تلعب دوراً مهماً في إبراز الجماليات والفنون المرتبطة بالمجتمعات الإسلامية منذ عصور قديمة.

تطور

يلحظ المتابع لدورات المهرجان المختلفة ذلك التطور الكبير من كونه تظاهرة سنوية إلى حدث ثقافي دولي متخصص يركز على الفن الإسلامي الأصيل والمعاصر، يهدف إلى تعزيز الحوار الفني بين الشعوب.

يبرز المهرجان عبر دوراته المتعددة منجزات الفن الإسلامي الجمالية والحضارية، ويكتشف تطورات الفن الإسلامي في العصر الحديث، ويعمل كذلك على استعادة الممارسات الفنية التقليدية وإحيائها مرة أخرى بسبل مختلفة، إضافة إلى البحث المتواصل عن أفاق جديدة للوحة والتكوين والتجهيز الفني برافعة الفكر، بحيث صار المهرجان يطرح قضايا إبداعية معقدة مثل ما وراء اللوحة، أي من حيث معانيها الخفية خارج مشهد العمل، وذلك يشير إلى تواصل المهرجان مع روح الحداثة الفنية.

حوارية

من الأشياء اللافتة في دورات المهرجان المتعاقبة تلك الحوارية الشاهقة بين الأعمال والممارسات الفنية المعاصرة والإبداعات المرتبطة بالتيار الأصيل، وهذه الثنائية ظلت متواصلة في كثير من الدورات السابقة، والشاهد أن جميع المشاركات والأعمال المنتجة في المهرجان تعبر عن مشروع واحد وهو إبراز الفنون الإسلامية والحفاظ عليها والتأكيد على دورها في خريطة الفعل الإبداعي والجمالي العالمي، وذلك ما تحقق بالفعل عبر الدورات المتعاقبة، بحيث صار جمهور الفن حول العالم يعرف ماهية وقيمة المنتج العربي والإسلامي الذي يعبر عن الروح والقيم الأصيلة.

ومع كل دورة جديدة، في سياق التطور، فإن المهرجان يكتسب جمهوراً جديداً، إذ إن الإبداعات البصرية هي من الفنون الصعبة التي تحتاج إلى ثقافة وذائقة، وظل المهرجان من خلال نسخه المتعاقبة يقوم بمهمة الوعي والتثقيف، فاللوحة أو التكوين يحتاج إلى قراءة وتفكيك وتفسير وتأويل كذلك، وذلك أمر لا يتأتى إلا عبر الذائقة واكتساب الخبرات والمعارف، وهو أمر يجد المتلقي أنه بحاجة إليه بصورة متواصلة لأن هناك تطوراً في الاتجاهات الفنية الحديثة التي باتت الفنون الإسلامية تقتحمها بقوة، ومن أجل ذلك فإن المهرجان عمل على اختراق النخبوية المرتبطة بجمهور الفن من خلال توزعه في أنحاء الشارقة المختلفة، حيث باتت الأعمال مع الأنشطة الفكرية تتجول في متحف الشارقة للفنون وبيت الحكمة ومدرج خورفكان وساحة الخط، ومجمع الشارقة للبحوث والتكنولوجيا والابتكار، ومركز الزاهية، ومركز التصاميم في جزيرة العلم، وجامعة الشارقة، وجمعية التشكيليين، وغير ذلك، من أجل الوصول لأكبر قدر من الجمهور بحيث يتشكل رصيد جماهيري للفنون الإسلامية.

ثيمات

ولعل من أبرز الملاحظات المتعلقة بالنشاط الفكري والجمالي للمهرجان، هي تلك الثيمات والشعارات التي يطرحها في كل مرة، بحيث باتت محوراً إبداعياً تنتج الأعمال على ضوئه ويتمثلها الفنانون المشاركون من مختلف أنحاء العالم في لوحاتهم وتكويناتهم، فالمهرجان يوفر البعد والمقترح الفكري، بينما يكون دور المبدع هو التحليق في سماوات الشعار الروحي والجمالي المطروح ومقاربته فنياً، ووراء كل ثيمة تقف فكرة وفلسفة خاصة وعتبة تقود إلى جوهر مشاركات الدورة المعينة، ولعل من أشهر تلك الشعارات ثيمة «تدرجات» والتي وجدت فيها إدارة المهرجان الكلمة المفتاحية التي تكاد تكون لازمة دائمة لكل ما يحدث في عالمنا الخارجي والداخلي على حدّ سواء، فليس من حالة مكتملة من دون تداخل العديد من العناصر التي تشكّل بنيتها الأساسية، والتي تحققت بالتدريج عبر تنامي مكوناتها المختلفة.

بنيان

وخلال الدورات السابقة كذلك طرح شعار «بنيان» وهي كلمة تحيل في التراث الفني الإسلامي على «العمارة» الإسلامية التي شكلت أحد ميادين الإبداع الفني، وتفتق من خلالها خيال الفنان المسلم فأبدع أشكالاً فنية غاية في الجمال، وحملها بأيقوناته ورموزه الخاصة التي تحيل على دلالات مرتبطة برؤيته للكون، الذي يتكون من ملايين من عناصر الفسيفساء، ومن المقرنصات والأسطوانات والأقواس والحروف المكررة بلا نهاية، والتي يؤلف كل عنصر فيها مهما صغر وحدة، مستقلة بذاتها، في الوقت الذي يؤلف فيه أيضاً تكراراً يصنع وحدة كلية تشير إلى صانع واحد، أبدع هذا الجمال غير المتناهي، في تعدده وتكراره وتماثله الجميل. وكذلك من الشعارات المهمة التي طرحها المهرجان في نسخة سابقة «أفق»، وهو شعار أريد له أن يعكس جماليات التأمل واستكشاف أسرار الإبداع، ما يفتح آفاقاً جديدة للفنان والمتلقي، فكلمة أفق تعبر عن المشهد الروحاني والجمالي، وكيف للفنان أن يفتح أفقاً للمتلقي من خلال عمله الفني، فأساس «الأفق» هو الخيال وهو لبنة كل عمل فني أو مشروع إبداعي، حيث يبدأ بخيال ثم تتطور الفكرة وتصبح واقعاً، وكل المعارض الفنية هي أساسها خيال، وهناك أيضاً شعار «أثر»، والذي يعبر عن الثراء بالنسبة للفنانين، إذ يمكن أن يصوغوا رؤاهم الفنية حوله من عدة جوانب كالأثر المتعلق بالنصوص أو أثر الفنون الإسلامية كما يراها المبدع، وغيرها من الجوانب، ف«الأثر» هو موضوع واسع، فكل فعل لا بد أن يترك أثره مهما كان ضئيلاً.

وخلال الدورة الحالية ال26، تم اختيار شعار «سراج»، الذي يركز على دلالات السِراج ورمزياته الفنية الواسعة، حيث إن السِراج يحيل إلى الضياء، ويُنادي الأفكار، ومثلما يستدعي الصور من دون حدود، فإنه يُنجز صناعة الضوء بتمهلٍ، فالسِراج ليس مادة وحسب، إنما هو جوهر أيضاً، إذ لا يتوقف عند وظيفة الإضاءة، بل، يتجاوزها ليصبح مدخلاً إلى أعماق النفس البشرية.

المصدر : صحيفة الخليج