الرسم بريشة القلب في مهرجان الفنون الإسلامية

الرسم بريشة القلب في مهرجان الفنون الإسلامية

لعل من أبرز الملاحظات في كثير من الأعمال المشاركة في مهرجان الفنون الإسلامية، في نسخته الحالية هو ذلك التركيز من قبل الفنانين على صناعة هالة لونية زاهية تسرب إلى النفس الشعور بالدهشة والجمال والرضا، إضافة إلى توظيف مبتكر للضوء من أجل مقاربة فكرة النور، حيث إن العديد من تلك المشاركات عبارة عن هالات نورانية تشعرك بالمدد وتحليق الأرواح في سماوات مفتوحة.
الفنانة الإماراتية الكبيرة فاطمة لوتاه، شاركت بلوحات وتكوينات بعنوان «سراج»، وهو الثيمة التي رفعها المهرجان هذا العام، وتميزت أعمالها بالبقع الضوئية والتشكيلات اللونية الخلابة التي تخطف الأبصار وتجعل الناظر في فسحة روحية عامرة بالتأمل في عظمة الخالق عز وجل، فالفنانة لم تكتف بالتنسيق المتقن للألوان المختلفة من الدرجات الصارخة؛ بل وكذلك في ما يتعلق بإسقاط الإضاءة عليها، بحيث تعزز الشعور بالدهشة والبراعة في إنجاز التكوينات واللوحات.
الأعمال والتكوينات التي شاركت بها لوتاه في المهرجان تعبر عن أسلوبيتها الإبداعية التي صارت تنتهجها مؤخراً، حيث باتت تفضّل حالياً التركيز على الفنّ التجريدي والأعمال التركيبية وهي مجالات فنية معاصرة محتشدة بالرؤى والأفكار التي تبرز الأبعاد الجمالية والإبداعية بصورة مبتكرة، وباشتغالات تعتمد على روح الفلسفة من حيث طرح الفكرة العميقة في قلب العمل الفني والابتعاد قدر الإمكان عن المباشرة.
*تأويل
غير أن الفنانة لا تفصح عن ماهية تلك التكوينات واللوحات التي قدمتها؛ بل تصنع للمشاهد مساحة للتأويل والتفسير والتأمل من أجل أن يغوص في تفاصيل العمل ويكتشف ما وراءه بطريقته الخاصة، ولا شك أن المشاهد سيتوقف طويلاً عند هذه الأعمال ليفسرها بحسب خبرته وتجربته الروحية والمعرفية ويحيلها إلى عوالم روحية وجمالية؛ بل وإيمانية في المقام الأول؛ إذ تبدو بعض تلك التكوينات أمام المشاهد وكأنها وردة تفتحت بغتة لتعلن عن ألوانها وضياءها، وما تحمله تلك الأبعاد الجمالية من معان روحية سامية مستوحاة من القيم والأخلاق الإسلامية.
الصدقية هي العنوان العريض لأعمال لوتاه، فهي نابعة من القلب وتود أن تخاطب قلوب جمهور المتلقين وتشركهم في تجربة روحية فريدة فما على المشاهد إلا أن يتابع تلك الومضات والإشراقات التي يصدرها العمل الفني، ويرصد حركة الضوء واللون وما تحمل من تعبيرات، ليجد نفسه قد نجح في الكشف عن المعاني الكامنة في قلب كل قطعة فنية ودلالات تلك الحوارية العميقة بين العتمة والضياء.
*كشف العتمة
يبدو أن الفنانة، على الرغم من أنها قصدت أن تعطي مساحة تأويلية للمشاهد في عملية قراءة اللوحة، فإنها لم تتركه يركن للحيرة أمام تلك المشاهد النورانية البديعة؛ بل منحته بعض الإشارات من خلال كلمات حول اللوحات والتكوينات جاء فيها: «هي أعمال بلا بداية ولا نهاية، كسماء لا تحدها حدود، ينظر إليها طفل وكل ما يتمناه من هذه الآفاق الواسعة نجمة. هي أعمال يرسمها الفنّان بقلبه، وتخرج من بين يديه كسراج يضيء العتمة. أعمال تحمل من رقصة الدرويش حكمة. إنها خطوط تحاكي نبضات القلب، وأسطح بلون الشمس، دافئة تغمر المكان بالضياء، وأحجار صامدة كذاكرة المكان الراسخة في الأذهان».
*رحلة
أما الفنان الأمريكي الإيراني نيما نابافي فهو يأخذ الناظرين في رحلة عامرة بالألوان والأضواء الزاهية المبهجة، حيث تميزت مشاركته في المهرجان بالتألق الضوئي اللافت من خلال تجهيزات حملت عنوان: «الفضاء الداخلي»، تنهض برافعة التشكيلات الهندسية الدقيقة بصورة تميل نحو التجريد، حيث تعكس الأعمال شبكات من الهالات الضوئية البراقة وفق عملية معقدة وبحسابات رياضية شديدة الدقة.
التجهيزات التي قدمها نابافي تؤكد عمق الحس والمشاعر الفنية والإيمانية لدى الفنان الذي عبر عما يجيش في دواخله من إشراقات روحية بواسطة هذه القطع الفنية التي تجعل القارئ في حالة من الدهشة والتفكير في كنه ما يراه ودلالاته الغامضة، ويكرس الفنان اهتمامه بالتجريد الهندسي وعلاقته بالعالم الطبيعي، و نتج عن هذا المزيج الغريب والبديع «الواقع والهندسة»، حالة جمالية وإبداعية متألقة.
تتجلى في لوحات الفنان ورسوماته وتكويناته طبقات كثيفة تأخذ هيئة شبكات متخيلة، منظمة في تناغم مدروس. ويستمد نابافي جانباً كبيراً من إلهامه من تجربة جدّه، الذي عمل في مجال الهندسة طوال خمسة عقود في إيران، وكان غارقاً في تأملات عميقة حول الشبكات الأساسية التي تتفرع منها فسيفساء لا نهائية من الهندسة؛ ذات الحمولة الروحية والدلالة الإيمانية، ولم يكن ذلك العمل مجرّد ممارسة مهنية بالنسبة للجد؛ بل أقرب إلى مسعى روحي ورياضي، يصفه حفيده نابافي بمحاولة دؤوبة لفك شيفرة من شيفرات الطبيعة. وكان الجد يردد دائماً: «الكون كله يكمن في هذه الشبكات»، التي تبرز وكأنها تحمل أسرار العالم والوجود.
في عام 2016، وبعد مرور عامين على وفاة جده، انتبه الفنان نابافي فجأة إلى إرثه العميق؛ إذ استيقظ فيه فضول حاد تجاه عالم الشبكات الهندسية التي شغلت الرجل طوال حياته، يقول نابافي إنه بدأ يرسم شبكاته الخاصة مسترشداً بذكرياته عنه؛ أي جده وبأحاديثهما القديمة حول إيقاع التكوينات الخطية، من دون أن يدرك حينها أنه كان يسير في الطريق ذاته الذي طرقه جده قبل نصف قرن، ليكتشف بنفسه سرّ ذلك الشغف الذي أسره وجذبه إلى ذلك العمق البعيد.
ويعتمد الفنان نابافي في تجربته على مزيج من الأدوات التقليدية والوسائل التكنولوجية الحديثة، ويرسم شبكاته باستخدام رموز رقمية متكرّرة وآلاف الخطوط و«البكسلات» التي يبني من خلالها عالماً معقداً من أبسط الأشكال. هذا النهج الرياضي يستند إلى تخطيط دقيق وحسابات محكمة، ومنهجيات ابتكرها بنفسه، ليصوغ عبرها أبعاداً حيوية شديدة الدقة.
*سكينة وتأمل
يؤكد نابافي أن العمل ببطء ووحدة يغمره في حالة من السكينة التأملية، ويمنحه متعة روحية لا تضاهيها لذة. وغالباً ما يبتكر أعماله في شكل سلاسل مترابطة، تتألف من قطع منفصلة تتكامل فيما بينها، ضمن تدرّجات لونية لا نهائية وأنماط تولّد بعضها بعضاً أما غاية ممارسته الفنية، كما يصفها، فهي استدعاء الانسجام وتجسيد الجمال الأصلي الكامن في أعماق البنية الخفية لواقعنا المشترك، حيث إن الراحة النفسية والفسحة الروحية هي الغاية النهائية في أعمال الفنان الذي ينعزل عن العالم ويصنع لنفسه مساحة خاصة من أجل أن ينجز لوحاته وتكويناته الرائعة.

المصدر : صحيفة الخليج

وسوم: