سباق الفضاء مع الصين يُعزز بناء الهوائيات في القطب الشمالي

سباق الفضاء مع الصين يُعزز بناء الهوائيات في القطب الشمالي

يتجه مُشغّلو الأقمار الصناعية نحو الشمال. في ظلّ تنافس الولايات المتحدة والصين ودول أخرى في الفضاء، تُصبح الحاجة إلى روابط اتصال سريعة ومتكرّرة مع الأقمار الصناعية التي تدور قرب القطب الشمالي سلعةً مُلحّة.

لقد حوّل هذا ديدهورس في ولاية ألاسكا، إلى موقع متقدم غير متوقع في سباق الفضاء. يُعدّ هذا المجتمع الواقع على سهول توندرا نورث سلوب، على بُعد حوالي 1400 كيلومتر شمال أنكوريج براً، بوابة حقل نفط خليج برودهو. يوجد هناك كل شيء تقريباً لدعم استخراج الوقود الأحفوري. لكن لا يوجد مستشفى أو بنك أو مدرسة، لكن توجد مساكن جاهزة للعمال ومتجر عام يبيع بخاخات طاردة للدببة.

تملك ديدهورس أيضاً بنية تحتية للأقمار الصناعية، بما في ذلك كابلات الألياف الضوئية لنقل البيانات. قال كريستوفر ريتشينز، مؤسس شركة ”أر بي سي سيغنالز“ (RBC Signals)، التي تُشغّل ثمانية هوائيات في ديدهورس: “لا يُمكن وضع أطباق الأقمار الصناعية إلا في الأماكن التي تتوفر فيها الألياف الضوئية”. وإلا، ستُهدر البيانات، ولن تجد لها مكاناً تذهب إليه.

“القبة الذهبية”

قال مايكل بايرز، الأستاذ في جامعة بريتيش كولومبيا، الذي يجري أبحاثاً عن الفضاء الخارجي وعن سيادة القطب الشمالي أن الطلب يتزايد في جميع أنحاء القطب الشمالي، وأضاف: “سنشهد مزيداً من المحطات الأرضية، ومزيداً من الأطباق في المحطات الأرضية الحالية، ومزيداً من الكابلات لتحقيق التكرار الوقائي”.

كيف أشعلت “ستارلينك” نوعاً جديداً من سباق الفضاء؟

يُتيح تغير المناخ المنطقة بشكل أكبر للشحن البحري، ويعزز أهميتها الاستراتيجية. تخطط شركة شحن صينية لرحلات صيفية منتظمة عبر المحيط المتجمد الشمالي إلى أوروبا، كجزء من خطة “طريق الحرير القطبي”. كما زادت بكين بشكل كبير عدد أقمارها الصناعية القطبية، وفقًا لجوناثان ماكدويل، عالم الفيزياء الفلكية في مركز هارفرد وسميثسونيان للفيزياء الفلكية.

يُرجح أن يشمل نظام الدفاع الفضائي “القبة الذهبية” الذي اقترحه الرئيس دونالد ترمب أقماراً صناعية مُركّزة على المنطقة، وقد بدأت الولايات المتحدة فعلاً بتوزيع عقود دفاعية مربحة للعمل في الشمال.

ترمب: انضمام كندا إلى “القبة الذهبية” سيكلفها 61 مليار دولار

 في عام 2024، أعلنت شركة ”نورثروب غرومان“ عن تفعيل حمولات القطب الشمالي لقوة الفضاء الأميركية، ولديها صفقة تزيد قيمتها عن 4.1 مليار دولار لصنع قمرين صناعيين يدوران في مدار قطبي بحلول عام 2031. وفي يوليو، فازت شركة ”بوينغ“ بعقد قيمته 2.8 مليار دولار لقوة الفضاء الأميركية لإنتاج قمرين صناعيين مع خيار إنتاج قمرين صناعيين آخرين، كجزء من برنامج بقيمة 12 مليار دولار قالت قيادة أنظمة الفضاء إنه سيشمل “قدرات مُحسّنة في القطب الشمالي”.

قال ديفيد مارش، مؤسس شركة “سبيس فور إيرث” الاستشارية ومقرها واشنطن، وهو خبير سابق في شؤون القطب الشمالي في مركز ”وودرو ويلسون إنترناشيونال سنتر فور سكولارز“: “الميزة في المدار القطبي هي أنك تمر عبر كل بقعة من الكرة الأرضية… الأرض بأكملها تدور من تحتك وأنت تدور حولها.“

إذا أطلقت الصين أو روسيا صواريخ باليستية عابرة للقارات، “فإن كل ذلك سيحلق فوق القطب الشمالي”، كما قال بيير لوبلان، العقيد المتقاعد الذي شغل منصب قائد القوات المسلحة الكندية في القطب الشمالي. أضاف: “مهم جداً وجود كثير من أجهزة الاستشعار التي ستراقب تلك المنطقة، وأجهزة استشعار قادرة على تحميل المعلومات.”

ما الذي يجعل النرويج موقعاً متميزاً؟

إن أرخبيل سفالبارد النرويجي موقع مثالي لمتابعة المدار، وهو أقرب مستوطنة كبيرة إلى القطب الشمالي، ويتصل عبر كابل بحري بالبر الرئيسي للنرويج، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو). تضم الجزر ”سفالسات“ (Svalsat)، أكبر محطة أرضية للأقمار الصناعية القطبية في العالم.

لكن معاهدة عام 1920 التي تعترف بسيادة أوسلو عليه تحظر استخدام سفالبارد “لأغراض حربية”. هذا يعني أنه “لا يمكن تنزيل البيانات للاستخدام العسكري”، كما بيّن أولي كوكفيك، مدير ”سفالسات“.

تضيف نقاط ضعف الكابلات البحرية تعقيداً آخر. فقد تعرّضت وصلة ”سبيس نورواي“ (Space Norway) بين سفالبارد والبر الرئيسي لانقطاع في التيار الكهربائي عام 2022، واستهدف مُخرّبون كابلات بيانات تحت الماء في بحر البلطيق.

تُغذّي هذه العيوب الطلب على البدائل. قال فريدريك شيدر، كبير مسؤولي تطوير الأعمال في شركة ”أركتيك سبيس تكنولوجيز“ (Arctic Space Technologies)، التي تدير منشأة في مدينة بيتيو السويدية، حيث قامت الشركة بتركيب أول هوائي لها في عام 2022، إن “هناك مخاطر في التواجد على جزيرة نائية، خاصةً إذا كانت هناك غواصات وسفن تقوم بكل ما تقوم به”. تمتلك الشركة الناشئة الآن 35 هوائياً هناك، وتخطط للتوسع إلى 40 هوائياً العام المقبل، لخدمة عملاء حكوميين وشركات مثل ”فياسات“ (Viasat) و“يوتلسات كوميونيكشنز“ (Eutelsat Communications).

افتتحت ”يوتلسات“، التي تدير شبكة تنافس ”ستارلينك“ (Starlink) التابعة لإيلون ماسك، العام الماضي محطة أرضية في يلونايف، عاصمة الأقاليم الشمالية الغربية الكندية، بالتعاون مع شركة ”سويديش سبيس“ (Swedish Space) وشريكها المحلي ”نورثويستل“ (Northwestel).

ما الذي يجعل بلدة كندية شمالية تبرز على الخارطة؟

ومن المراكز الأخرى للأنشطة الكندية مدينة إينوفيك، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 3300 نسمة. تضم البلدة الواقعة في الأقاليم الشمالية الغربية محطات أرضية تملكها كندا، وأخرى تملكها شركة ”كونغسبيرغ“ لخدمات الأقمار الصناعية النرويجية. ومن بين مستخدميها حكومات فرنسا وألمانيا والسويد.

هذا العام، أضافت منشأة محطة الأقمار الصناعية في إنوفيك خمسة أطباق إضافية، وقدّر رئيس البلدية بيتر كلاركسون أن العدد الإجمالي وصل إلى 13 طبقاً. قال: “كندا تركّب طبقاً آخر لأن طبقها بلغ أقصى استيعابه. ثم قام السويديون بتركيب طبق آخر. الأمر نفسه: إنهم يحصلون على قاعدة عملاء أوسع”.

أعلنت شركة ”سي-كور“ (C-Core)، مشغلة محطة أرضية أخرى في إنوفيك، في أكتوبر عن خطط توسعة في ظل سعي حكومة رئيس الوزراء مارك كارني إلى تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة. قال ديزموند باور، نائب رئيس قسم الاستشعار عن بُعد، إن شركة ”سي-كور“، ومقرها سانت جونز في منطقة نيوفاوندلاند ولابرادور، “ستخدم البعثات الكندية لصالح الكنديين”.

تعتيم الشمس.. صناعة جديدة مرعبة

في هذه الأثناء، استحوذت شركة صغيرة لخدمات الإنترنت مقرها إنوفيك، تُدعى “نيو نورث نتووركس“ (New North Networks)، يديرها رجل الأعمال المحلي توم زوبكو، على أرض في المدينة لإنشاء محطة أرضية أخرى. قال: “الأقمار الصناعية الصينية تحلق فوقنا كل ساعة تقريباً. والأقمار الصناعية الروسية تفعل الشيء نفسه”.

في أقصى الشرق، زاد النشاط المداري من أهمية بيتوفيك، وهي قاعدة تابعة لقوة الفضاء الأميركية في غرينلاند تُستخدم لمراقبة الأقمار الصناعية. زار نائب الرئيس جيه دي فانس الجزيرة في مارس، وقال إن الدنمارك “لم تستثمر بشكل كافٍ في البنية الأمنية” للجزيرة، التي قال ترمب إن الولايات المتحدة بحاجة إلى الاستحواذ عليها.

خطر الهجوم على الكابلات البحرية

مثل سفالبارد، تعتمد غرينلاند على كابلات بحرية معرضة للهجوم – وهي ليست تابعة للولايات المتحدة. قالت إليزابيث بوكانان، الزميلة البارزة في المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية في كانبيرا، التي أشارت إلى نمو البنية التحتية خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن: ”ينبغي أن يكون لديك بصمة قوية وحديثة على الأراضي الأميركية (في القطب الشمالي)”.

أحد المواقع الأميركية هو محطة ”كلير سبيس فورس ستيشن“ (Clear Space Force Station)، التي تقع على بُعد حوالي 120 كيلومتر جنوب غرب فيربانكس. في يونيو، عملت قوة الفضاء مع وكالة الدفاع الصاروخي الأميركية والقيادة الشمالية الأميركية لاختبار نظام من ”كلير“ لتتبع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.

تتوقع شركة ”أر بي سي سيغنالز“ (RBC Signals) المزيد من العملاء، وترغب في التوسع في ديدهورس، وقال مؤسسها ريتشينز إنها تضم ​​أيضاً منشأة تابعة لشركة ”أمازون دوت كوم“ وهي جزء من شبكة محطة ”إيه دبليو إس“ (AWS) الأرضية. وقد رفض متحدث باسم ”أمازون“ التعليق على موقع منشأتها في ألاسكا.

الشركات تتسابق إلى الفضاء.. لكن من يسنّ القوانين هناك؟

من بين عملاء ”أر بي سي سيغنالز“ مختبر أبحاث القوات الجوية ووكالة تطوير الفضاء، وفقاً لرئيسها التنفيذي رون فيث. في ديدهورس، بدأت الشركة بهوائي واحد، موجود الآن على سطح الفندق الوحيد في المنطقة، وأحدث هوائي هو بقطر 3.9 متر بدأ الخدمة العام الماضي.

قال فيث إنه في أقصى الشمال “يمكن التواصل مع القمر الصناعي أكثر من 14 مرة يومياً، بينما إذا كنت في خط عرض متوسط، فقد لا تتواصل مع هذا القمر الصناعي إلا أربع مرات يومياً”. يُشكّل البناء تحدياته. وللحفاظ على محيطها من الثلوج والرياح، تُحاط الهوائيات الشراعية بقباب مُثبّتة على سقائف مُدفّأة. تُشبه هذه الهياكل بالونات الهواء الساخن، وهي مثبتة بالأرض بواسطة رواسي فولاذية على عمق 15 متراً وذلك تحسباً لذوبان التربة الصقيعية.

الدببة من المخاطر التي تضطر الشركات للتعامل معها

أثناء البناء عام 2018، وصل الموظفون في صباح أحد الأيام ليجدوا دباً رمادياً يخرج من مبنى غير مُكتمل. أضافت الشركة منذ ذلك الحين باباً (مُقفلاً)، بالإضافة إلى سياج شبكي وأسلاك شائكة لردع المُتسللين.

أحد العوامل التي قد تُقلّل من أهمية محطات القطب الشمالي هو ظهور وصلات بين الأقمار الصناعية لنقل البيانات في الفضاء قبل إرسالها إلى جهاز إرسال أرضي. قال باور من شركة ”سي-كور“: “فجأة، ربما لم يعد وجود محطات أرضية بعيدة جغرافياً أمراً بالغ الأهمية” طالما أن هناك عدداً كافياً من الأقمار الصناعية لنقل البيانات فيما بينها.

حتى مع هذه التطورات، يُرجح أن يُبقي مشغلو الأقمار الصناعية نقاط مراقبة في منطقة الشمال الأقصى، وفقاً لمارش، الاستشاري الذي أسس مشروع “الفضاء من أجل الأرض”. أضاف: “حتى مع هذه الاتصالات الليزرية عالية التقنية والفعالة جداً بين الأقمار الصناعية، ما يزال النطاق الترددي محدوداً. الأفضل استخدام طبق قديم كبير وكابل ألياف ضوئية جيد، بلا قلق بشأن كمية البيانات المرسلة”.

المصدر : الشرق بلومبرج