ليست إعادة بناء اقتصاد فنزويلا أسهل من تغيير حكومتها

ليست إعادة بناء اقتصاد فنزويلا أسهل من تغيير حكومتها

تنتشر التكهنات حول فنزويلا هذه الأيام لدرجة أنه لم يعد مجدياً إضافة المزيد من التوقعات المشكوك فيها. لكن هناك أمراً واحداً واضحاً، وهو أنه إذا ما سقط نظام نيكولاس مادورو أخيراً – وهو أمر مستبعد جداً حتى في ظل الحشد العسكري الأميركي الحالي في جنوب الكاريبي – فستواجه البلاد واحدة من أكبر جهود إعادة الإعمار الاقتصادي في التاريخ الحديث.

ببساطة، لا يوجد مثيل معاصر لانهيار فنزويلا. حتى وقت قريب، كانت البلاد تتمتع بواحد من أعلى معدلات دخل الفرد في أميركا اللاتينية، وكانت لاعباً رئيسياً في أسواق النفط العالمية. لسنوات، كان اقتصادها يقارب حجم اقتصاد كولومبيا؛ في عام 2012، بلغ إنتاج الدولتين الأنديزيتين حوالي 370 مليار دولار. اليوم، يقل الناتج المحلي الإجمالي لفنزويلا عن خمس نظيره في كولومبيا بعد انكماشه بنسبة مذهلة بلغت 78% بالدولار، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي.

أدى سوء الإدارة الاقتصادية المفرط في ظل التجربة الاشتراكية لمادورو وسلفه هوغو تشافيز، التي أطلقت عنان تضخم جامح ودفعت حوالي ثمانية ملايين فنزويلي إلى الهجرة، إلى تدمير قطاع الأعمال والقاعدة الإنتاجية في البلاد.

هل تخوض واشنطن حرباً في أميركا اللاتينية؟ ثلاثة سيناريوهات

من العوامل الحاسمة الرئيسية عدد الفنزويليين الذين قد يعودون في ظل حكومة شرعية ذات آفاق اقتصادية أفضل. يحاجج أليخاندرو أريازا، الخبير الاقتصادي لدى ”باركليز“، أنه على الرغم من أن العمال الأكثر تأهيلا الذين غادروا في موجة الهجرة الأولى لا يُرجح أن يعودوا، وقال: “لقد أعادوا بناء حياتهم في الخارج“، إلا أن من غادروا حديثاً إلى دول مجاورة في ظل ظروف أشد قسوة قد تكون لديهم حوافز أقوى للعودة.

يتطلب عكس هذا الانهيار التاريخي مهارةً سياسيةً هائلةً، ودعماً مالياً دولياً ضخماً، وكثيراً من الصبر – وكل هذا بافتراض أن البلاد تحقق انتقالاً منظماً إلى حد ما.

في سيناريو أكثر اضطراباً، مع قيام الموالين للتشافيزية بتخريب التغيير، ستصبح إعادة بناء فنزويلا أصعب بكثير.

فيما يلي خمس أولويات سيتعين على أي حكومة جديدة في كاراكاس معالجتها لبدء مسار التعافي الطويل والمحفوف بالمخاطر.

1- إعادة بناء القدرات الإحصائية للدولة

إلى جانب المهمة العاجلة المتمثلة في توفير الغذاء والوقود والأدوية والأمن وغيرها من الاحتياجات الأساسية لعملية انتقالية متسرعة، تبدأ خطة التعافي الفعّالة بتوليد بيانات موثوقة – وهو أمر افتقدته فنزويلا لسنوات. كانت المؤشرات الرئيسية للتضخم والمالية العامة والجريمة غامضة أو معدومة؛ وسيحتاج صانعو السياسات الجدد إلى إعادة بناء النظام الإحصائي للبلاد من الصفر تقريبا، على الأرجح بمساعدة خبراء دوليين.

أميركا اللاتينية على أعتاب تحول شامل

لا أحد خارج النظام على علم بالدخل الحقيقي للحكومة أو مستويات الإنفاق أو ميزانيات البرامج. وعلى عكس الدول التي ينبع فيها الانهيار الاقتصادي عادة من تضخم الدولة، تواجه فنزويلا مشكلة معاكسة: يجب عليها إعادة بناء قدرات الدولة مع القضاء على المنظمات الإجرامية المتأصلة فيها حالياً.

2- استعادة الوصول إلى الائتمان الدولي

سيحتاج خليفة مادورو، أياً كان، إلى تطبيع العلاقات مع جهات الإقراض متعددة الأطراف، وهي خطوة حاسمة لتأمين التمويل اللازم لإنعاش الاقتصاد وتحقيق مكاسب مبكرة. يتطلب ذلك التزاماً سياسياً بالإصلاح، وشفافيةً، ووصولاً كاملاً للدائنين لتقييم الوضع المالي الحقيقي للبلاد.

لم يجر صندوق النقد الدولي مشاورات المادة الرابعة – وهي مراجعة سنوية نمطية – منذ عام 2004، لذا فإن إعداد تقييم جديد سيكون موسعاً. لكن يُرجح أن ينهي انتقال سياسي يعيد الشرعية الديمقراطية النزاع المؤسسي الذي منع كاراكاس منذ عام 2019 من سحب مليارات الدولارات من احتياطيات صندوق النقد الدولي الجديدة.

باستخدام هذه الموارد، يمكن لفنزويلا تسوية متأخراتها مع بنوك التنمية الإقليمية. إن سداد ما يقارب ملياري دولار من ديونها لبنك التنمية للبلدان الأميركية سيعيد الوصول إلى تمويل جديد للبنية التحتية والبرامج الاجتماعية العاجلة.

3- إعادة تشغيل صناعة النفط

إن أسرع طريقة لإنعاش الاقتصاد هي من خلال إعادة تشغيل سريعة لقطاع النفط الفنزويلي الذي كان قويا في السابق. نظرا للوضع المتردي لشركة النفط الوطنية ”بتروليوس دي فنزويلا“، التي تعاني من نقص رأس المال والخبرة والتقنية – سيتطلب هذا منح شركات الطاقة والمستثمرين من القطاع الخاص إمكانية وصول كبيرة لتطوير احتياطيات البلاد الهائلة من النفط والغاز الطبيعي.

انهيار سندات شركة النفط الفنزويلية بعد حكم قضائي

هذا يعني تقديم حوافز مع تجنب إجراء إصلاح شامل للإطار القانوني للصناعة، والذي سيستغرق وقتاً طويلاً وسيثير انقسامات سياسية. وكما يشير الخبير الاقتصادي أورلاندو أوتشوا، المقيم في كاراكاس، فإن أسرع وأكثر الطرق فعالية لزيادة الإنتاج – وتوليد الإيرادات الضريبية والتدفقات النقدية اللازمة لاستدامة العمليات – هي تعزيز وإضفاء الطابع الرسمي على التدابير المؤيدة للأعمال بحكم الواقع التي اعتمدها مادورو في محاولة أخيرة لإنعاش النشاط.

قال أوتشوا: “يمكن لإصلاح محدود لقانون الهيدروكربونات أن يقنن ما يحدث بالفعل في الممارسة العملية، ما يسمح للشركات الأجنبية بإدارة عمليات النفط والسماح لشركات الخدمات بتشغيل الحقول مقابل براميل النفط الخام… يجب أن نسمح للشركات الخاصة بتصدير نفطها الخاص مع تحويل (بتروليوس دي فنزويلا) إلى شركة قابضة جديدة لإدارة بعض أصول الدولة بما في ذلك جميع الشراكات مع المشغلين من القطاع الخاص.“

كما يحاجج أوتشوا بأنه على فنزويلا السعي إلى ترتيب جيوسياسي ومالي لحماية أصولها وصادراتها النفطية مؤقتاً من أي احتمال أن يصادرها الدائنون، على غرار الحماية التي حظي بها العراق بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعد الغزو الأميركي عام 2003.

سياسة الولايات المتحدة تجاه فنزويلا ما تزال تسخن وتفتر

تنتج فنزويلا الآن ما يقارب مليون برميل يومياً، وهو أعلى مستوى منذ فرض العقوبات في عهد إدارة دونالد ترمب الأولى؛ ويُمكن زيادة الإنتاج تدريجياً بمجرد بدء المرحلة الانتقالية، لا سيما مع بعض التحسينات التي تعتبر سهلة المنال. لكن هذا ما يزال جزءاً صغيراً من أكثر من ثلاثة ملايين برميل يومياً كانت البلاد تنتجها في أواخر التسعينيات.

سيتطلب الوصول إلى هذه الأرقام مجدداً استقراراً سياسياً، وقواعد قانونية واضحة، واستثمارات واسعة، وحلا للنزاعات العالقة بين الشركات التي ما تزال تعيق الصناعة. ليس ممكناً تحقيق ذلك على المدى القصير أو المتوسط ​​- ولكنه ليس مستحيلاً أيضاً. وكما كتب زميلي خافيير بلاس حديثاً: “الجيولوجيا موجودة – كل ما هو مطلوب لاستخراج ثروة البلاد النفطية هو رأس المال والوقت والجهد”.

٤- إعادة هيكلة ديونها الضخمة

لعل التحدي الأصعب يتمثل في إعادة هيكلة ما يقارب 160 مليار دولار من الالتزامات القائمة، بما في ذلك التزامات حاملي السندات من القطاع الخاص وقرارات التحكيم وديون الشركات والقروض الآتية من الصين. 

لقد دفعت توقعات تغيير النظام أسعار السندات الفنزويلية إلى الارتفاع؛ إذ تخلفت إدارة مادورو عن السداد عام 2017 عندما أدى انهيار إنتاج النفط والانهيار الاقتصادي إلى استحالة سداد المدفوعات.

رسوم ترمب الثانوية تعصف بعملة فنزويلا وسط حصار عوائد النفط

يتصاعد الجدل في أوساط المعارضة حول ما إذا كان ينبغي الاعتراف بالديون المُصدرة في عهد تشافيز ومادورو. لكن محاولة رفضها ستؤدي على الأرجح إلى نتائج عكسية: فالأسس القانونية لذلك ضعيفة، ومن شأن هذه الخطوة أن تقوض مصداقية الحكومة الجديدة.

بدلاً من ذلك، ينبغي على حاملي السندات أن يستعدوا لخسائر فادحة في واحدة من أكثر عمليات إعادة التفاوض تعقيداً في العالم. أدى تخلف الأرجنتين التاريخي عن السداد في أوائل العقد الأول من القرن إلى تخفيضات في قيمة ديونها بنسب تراوحت بين 71% و75%؛ وحتى لو اعتبروا ذلك قاسياً جداً، فإنه ما يزال مرجعاً مفيداً لما قد يواجهه دائنو فنزويلا. هذا التخفيض يمكن تعويض هذا التراجع جزئياً بتوقعات اقتصادية مزدهرة في ظل إدارة جديدة.

قال لي أريازا من باركليز: “لا شك في إمكانات اقتصاد فنزويلا وقدرته على التعافي. لن يكون الأمر سهلا، لكن الجانب السياسي ما يزال هو الجزء الأصعب”.

أما بالنسبة لاتفاقيات النفط مقابل القروض الصينية المتعثرة، فستحتاج كاراكاس إلى مفاوضات سياسية تمكّن بكين من استرداد جزء من استثماراتها من خلال زيادة إنتاج النفط الخام بدلا من السداد النقدي المباشر.

5- تشجيع الاستثمارات في القطاعات غير النفطية

إذا حققت الحكومة الفنزويلية المقبلة تقدما على الجبهات الأربع السابقة – وأشعلت شرارة التغيير في التوقعات الذي عادة ما يحدثه تغيير النظام – فقد يحقق الاقتصاد انتعاشاً أولياً قوياً، وربما نمواً بنسب أرقامها من خانتين لبضع سنوات. لكن هذا الزخم سيواجه عقبات بسرعة. لم تستثمر فنزويلا في الكهرباء أو شبكات المياه أو الطرق أو التعليم أو البنية التحتية الأساسية منذ سنوات، وهي جميعها ضرورية للحفاظ على زيادات ملموسة في الإنتاج.

لهذا، يجب أن تكون الأولوية الخامسة هي جذب رأس المال الخاص وخصخصة مئات الأصول – لا سيما في البنية التحتية الرئيسية – لإحياء كثير من الصناعات خارج قطاع النفط التي هُجرت أو دُمرت أو أُممت في عهد التشافيزية.

لا يمكن لفنزويلا استعادة ازدهارها الدائم دون تنويع اقتصادها والاستفادة من الفرص الهائلة التي ما تزال البلاد تتيحها – من التعدين والزراعة إلى السياحة. أما الآن فسيكون قد حان وقت التخلص من نعت الدولة بأنها نفطية الذي لازمها على مرّ عقود عندما يحتاج النظام بأكمله إلى إعادة بناء من الصفر.

في عرض تقديمي حديث، جادلت زعيمة المعارضة الحائزة على جائزة نوبل للسلام ماريا كورينا ماتشادو بأن انفتاح فنزويلا يوفر للمستثمرين فرصا استثمارية استثنائية بقيمة 1.7 تريليون دولار لتسريع النمو الاقتصادي. قالت: “ستكون فنزويلا بمثابة جبهة عالمية جديدة للابتكار وتكوين الثروات، وندعوكم للمشاركة فيها”.

إن مبالغة ماتشادو مفهومة، إذ أن صفتها كسياسية تروج للأمل وتدفع نحو عودة ديمقراطية، عليها أن تقدم للمستثمرين قصةً مقنعةً. رغم إلهامها، إلا أن جذب الاستثمارات لن يكون سهلاً بعد سنوات طويلة من نقص التمويل المزمن والإهمال وهجرة الأدمغة.

إن الاستهانة بما سيأتي بعد مادورو سيكون خطأً فادحاً، إذ ستستغرق إعادة البناء عقوداً عبر حكومات متعددة، وليس أشهراً أو سنوات. دعونا نأمل أن يبدأ النهوض بالاقتصاد قريباً.

المصدر : الشرق بلومبرج