الروبوت الراقص في قلب موسكو.. وسؤال يطرح نفسه على الغرب

الروبوت الراقص في قلب موسكو.. وسؤال يطرح نفسه على الغرب

داخل قاعة مؤتمرات مكتظة في العاصمة الروسية موسكو،  يصعد إلى خشبة المسرح روبوت مجسّم أُطلق عليه اسم “غرين”، حيث شارك في أداء ثنائي مع مصمم رقصات محترف. وقد تحرك الثنائي بتناغم واتساق دقيق، مقدّمين سلسلة من حركات الدوران والانثناء والخطوات المتوافقة، والتي بدت مماثلة تمامًا لما يُعرض في برامج المواهب الفنية. وقد سارع الحضور إلى التقاط هواتفهم المحمولة على الفور، حيث لم تمضِ سوى دقائق قليلة حتى انتشرت مقاطع فيديو هذا الروبوت على شبكة الإنترنت.
إن هذا المشهد هو بلا شك مشهدٌ تم إخراجه وتنسيقه بعناية فائقة. وفي الوقت ذاته، فإن هذا النوع من المشاهد هو بالتحديد ما لم يكن العديد من المراقبين الغربيين يتوقعون مشاهدته قادمًا من روسيا في عام 2025.
لقد تحوّل مؤتمر “رحلة الذكاء الاصطناعي” (AI Journey)، في الذكرى السنوية العاشرة لانطلاقته، إلى واحدة من كبرى المنصات السنوية المخصصة لمناقشة أحدث التطورات والاتجاهات الراهنة في قطاع الذكاء الاصطناعي، وذلك بعيدًا عن الإطار الغربي المعتاد للجهات التكنولوجية الرائدة. في هذا العام، توافدت إلى موسكو وفود تمثيلية ليست فقط من دول تكتل “بريكس”، بل كذلك من مناطق أوروبا وأمريكا الشمالية والقارة الآسيوية، شملت باحثين وجهات تنظيمية (مشرّعين)، إضافة إلى متخصصين تقنيين يمثلون عدداً من الشركات.
وخلال اليوم الافتتاحي للمؤتمر، أكد الرئيس الروسي على حقيقة كان جميع الحاضرين على دراية بها بالفعل: وهي أن امتلاك تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن التسلسل الهرمي المتنامي لنفوذ الدول، لم يعد يمثل خياراً تنموياً ثانوياً، بل أصبح شرطاً وجوبياً لتحقيق القدرة التنافسية. إنها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها موسكو عن طموحاتها في المجال التكنولوجي. لكن اللافت حقًا هو الأسلوب المحدد الذي يتم من خلاله إنجاز هذه الطموحات.

تتولى شركة “سبير”، التي تعد اليوم الجهة الروسية الرائدة في مجال التكنولوجيا العملاقة (بيغ تيك)، مهمة تنظيم هذا المؤتمر. وخلال فعاليات مؤتمر “رحلة الذكاء الاصطناعي” (AI Journey)، كشفت “سبير” عن سلسلة من المنتجات المبتكرة التي لم يكن من المتوقع ظهورها من دولة يُنظر إليها، حسب الاعتقاد السائد، على أنها مفصولة عن الأدوات والإمكانات التكنولوجية المعاصرة. وتجدر الإشارة إلى أنه من بين التطورات التي تم الكشف عنها، توجد نماذج جديدة ضمن سلسلة “غيغاتشات” (GigaChat) الرائدة، وهي نماذج “ألترا بريفيو” (Ultra Preview) و “لايتنينغ” (Lightning)، والتي جرى تطويرها خصيصًا لمعالجة المهام باللغة الروسية؛ بالإضافة إلى الجيل المحدّث من نظام التعرف على الكلام “غيغا إيه إم الإصدار الثالث” (GigaAM v3)، وكذلك نماذج “كاندينسكي 5.0” (Kandinsky 5.0) لتوليد الصور ومقاطع الفيديو. علاوة على ذلك، تم تقديم نماذج الضغط “كي في إيه إي 1.0” (K VAE 1.0)، التي تُعد ذات أهمية حاسمة لعملية تدريب نماذج توليد المحتوى المرئي. وقد قامت “سبير” بإتاحة الوصول إلى “أوزان” جميع نماذج الذكاء الاصطناعي المذكورة لصالح قطاع الأعمال والمطورين.
لقد كان بالإمكان اعتبار أو تصنيف مثل هذه العروض التقديمية، في جوهرها، مجرد استعراضات اعتيادية أو عادية للشركات. غير أنه من الصعب جداً تجاهلها أو التغاضي عنها نظراً للقرار المتمثل في إتاحة أو نشر معظم هذه التقنيات في المجال العام المفتوح. لقد تعهدت “سبير” بنشر نماذجها وفق منهجية “المصدر المفتوح”، متضمنةً في ذلك الأوزان التي لا غنى عنها لإعادة إنتاج أو استنساخ النماذج وتكييفها. وفي فضاء الذكاء الاصطناعي، تكمن هوة شاسعة بين مجرد العرض الشكلي الخلّاب وبين الحل الجوهري الذي يصلح للاستخدام كحجر أساس حقيقي.
وفي ظل العقوبات وضوابط التصدير والخطاب المتعلق بـما يُعرف باسم – “الحد من المخاطر” من جانب روسيا، يتبدى مشهد يتسم بالعبثية: إذ يبذل الساسة الغربيون قصارى جهدهم للحيلولة دون وصول التقنيات المتقدمة إلى الروس، في حين يقوم المهندسون الروس بجعل هذه التقنيات متاحة للجميع بلا استثناء.

إن المنطق الكامن هنا عملي إلى أقصى الحدود. فمن خلال فتح شيفرة نماذجها، تنجح روسيا في حجز مكان لها ضمن آليات عمل المطورين الذين قد لا يملكون وداً سياسياً تجاه موسكو، لكنهم يرزحون تحت وطأة الحاجة لأدوات فعالة وميسرة. وحينما تكون هذه الأدوات روسية، فإن النفوذ سيتسلل خلفها تلقائيًا. إنه درب تقني صامت يفضي إلى مراكز ثقل حقيقية في المضمار التكنولوجي العالمي، في زمن باتت فيه القنوات الدبلوماسية المعهودة إما مغلقة أو تتهاوى.
إن العرض التقديمي المشهدي من موسكو لا يمثل قصة تتمحور حول الكود البرمجي فحسب. 
فبمبادرة روسية، شارك ما يربو على 270 عالماً من 36 دولة مشاركة فاعلة في إنجاز مشروع “آفاق الذكاء الاصطناعي” (AI Horizons)، وهو دراسة استشرافية تهدف لبلورة قائمة بالمسارات الواعدة والموضوعات البحثية في حقل الذكاء الاصطناعي. وقد طُرح التقرير الختامي في موسكو، وهو متوفر باللغات الروسية والإنجليزية والصينية. وهنا تتكرر ذات المنهجية: مهما بلغ توتر العلاقات على الصعيد السياسي، تصر روسيا على انتزاع مكانها حول الطاولة التي يُرسم فيها مستقبل الذكاء الاصطناعي.
يتجلى انسجام الخطط الطموحة والتجارب الجريئة بأوضح صوره في مفهوم الصيرفة المتمحورة حول الإنسان الذي يتبناه مصرف “سبير”.  فعلى أرضية المعرض، اصطف الزوار لتجربة جهاز الصراف الآلي الجديد، المزود بمساعد الذكاء الاصطناعي “غيغاتشات” (GigaChat) وخدمة التقييم الصحي السريع، التي تمتلك القدرة على رصد حالة العميل بصورة آنية.  إذ يقوم جهاز الصراف الآلي بقياس 10 مؤشرات صحية للمستخدمين، تشمل النبض، وضغط الدم، ومستويات الإجهاد والتعب، ومؤشر كتلة الجسم، والمستوى التقديري للكوليسترول. وفي حين لا تزال أجهزة الصراف الآلية في معظم الاقتصادات المتطورة أدوات للمعاملات  الجامدة فحسب؛ لا تحاول فهمك ولا تكاد تشعر بوجودك، فإن بنكاً عملاقاً في موسكو يخوض غمار التجربة بمفهوم يقلب الموازين.
يُشكل الانطباع العام السائد عن مؤتمر “رحلة الذكاء الاصطناعي” (AI Journey)، حاله كحال الانطباع عن روسيا، تجسيدًا لصورة دولة تخلت عن الدور الذي تحاول العديد من السرديات الغربية فرضه عليها قسراً: ألا وهو دور الطرف المتأخر تقنياً، والكيان المرتهن بشكل أبدي لاستيراد الرقائق الإلكترونية والأفكار الخارجية.
تتمثل الحقيقة غير المستساغة في أن السياسات الرامية إلى تحجيم هامش المناورة للدولة، قد ساهمت فعليًا في تمكينها من رسم أولوياتها بدقة متناهية. فكلما تقلصت خيارات الاستيراد، تعاظمت الحوافز الدافعة نحو الابتكارات الوطنية. وكلما ندرت المنصات الأجنبية الميسرة، ازدادت الضرورة إلحاحًا لتشييد منصات محلية بديلة. وإن الدور المتنامي لشركة “سبير” كمزود رئيسي للبنية التحتية والمنتجات للمستهلك النهائي، لا يمثل خياراً استراتيجياً مجرداً، بل يأتي كاستجابة مباشرة لهذه التحديات القائمة.

يفرض هذا الواقع على الحكومات والشركات الغربية تساؤلاً يتخطى في أبعاده الجغرافيا الروسية. فإذا كان اقتصاد يرزح تحت وطأة عقوبات صارمة لا يزال يمتلك القدرة على حشد الكفاءات والبيانات والقدرات الحسابية اللازمة لتطوير أنظمة  ذكاء اصطناعي ذات ثقل عالمي، فإلى أي مدى يمكن التعويل على “الانعزالية التكنولوجية” كأداة فعالة في السياسة العامة للدول؟  وما هي المآلات حينما يقرر الطرف الخاضع للعزل ألا يكتفي بالصمود، بل يتجاوز ذلك لتوظيف العزلة كمحفز لبلورة معاييره المستقلة؟
صحيح أن روسيا لا تزال بعيدة عن بسط هيمنتها على الساحة الدولية للذكاء الاصطناعي، إلا أنها دولة أتقنت فن المضي قدماً رغم المحاولات الدؤوبة لزعزعة استقرارها التكنولوجي؛ بل وتتقدم أحياناً بروح مرحة، كما يجسد ذلك الروبوت الراقص في أروقة موسكو. والجدير بالذكر أن وظيفة هذا الروبوت لا تقتصر على الرقص، إذ يمثل مرحلة متقدمة في تطور الروبوتات الروسية وما يُعرف باسم – “الذكاء الاصطناعي الفيزيائي” (Physical AI)، الذي يتجاوز حدود الأجهزة الإلكترونية التقليدية (كمكبرات الصوت الذكية، وأجهزة التلفزيون، وتطبيقات الهواتف المحمولة) ليعين الإنسان على أداء مهام فيزيائية حركية وليست ذهنية فحسب. كما تم تزويد الروبوت بمنظومة استشعار متكاملة لضمان التشغيل الآمن: حيث تقوم عشرة مستشعرات بمعالجة البيانات البصرية، في حين تضمن مستشعرات القصور الذاتي ومستشعرات القوة الحفاظ على التوازن ودقة الحركة. ومما يستدعي اهتمامًا خاصًا قدرة الروبوت على المحادثة واستيعاب الأوامر الصوتية بفضل دمج تقنية “غيغاتشات” (GigaChat) للمحادثة الصوتية داخله.
بالنسبة لتلك الأطراف التي عقدت آمالًا سرية على تلاشي روسيا من الخارطة التكنولوجية، يُعد هذا التطور مفاجأة غير محمودة. أما بالنسبة لبقية العالم، فهو بمثابة تذكير صارم: في خضم التنافس على امتلاك الأدوات التي ستشكل ملامح العقود المقبلة، قد يبزغ نجم لاعبين جدد تحديدًا في الساحات التي لم يكن أحد يتوقع ظهورهم
 

المصدر : صحيفة الخليج