الخطة الأميركية الروسية تعري مواطن ضعف الاتحاد الأوروبي

الخطة الأميركية الروسية تعري مواطن ضعف الاتحاد الأوروبي

في أواخر صيف عام 1939، وقع وزير خارجية الاتحاد السوفييتي فياتشيسلاف مولوتوف ونظيره الألماني يواكيم فون ريبنتروب معاهدة عدم الاعتداء سيئة السمعة التي قسمت أوروبا الشرقية بين بلديهما، ومهدت الطريق لأدولف هتلر ليغزو بولندا بعد أيام قليلة.

تنبع صدمة أوروبا من خطة أميركية روسية أحدث بكثير لأوكرانيا، فعلى الرغم من الاختلافات الواضحة بين الوثيقتين، هناك تشابه جوهري واحد: قوتان عسكريتان رئيسيتان تتواطآن مجدداً لتقسيم القارة بما يخدم منفعتهما المشتركة.

كان ينبغي أن يكون هذا واضحاً منذ زمن طويل. منذ فبراير على الأقل أقول إن إدارة ترمب لم تكن مهتمة بالتفاوض على اتفاق سلام لأوكرانيا بقدر ما كانت مهتمة بإعادة ترتيب العلاقات الأميركية الروسية على حساب كييف وداعميها الأوروبيين. وقد جعل نشر الاقتراح الأميركي الروسي المكون من 28 نقطة تجاهل هذا مستحيلاً.

ما هي مضامين الخطة الأميركية الروسية لإحلال السلام في أوكرانيا؟

مع ذلك، بعد أن بدا قادة أوروبا أخيراً مدركين أنهم وحيدون في الشأن الأوكراني، يُطرح سؤالٌ لا يقل عمقاً: هل الاتحاد الأوروبي قادرٌ أصلاً على أن يصبح لاعباً جيوسياسياً قادراً على الصمود في وجه روسيا والصين وحليفته الاسمية الولايات المتحدة؟ الإجابة الصادقة هي “لا”.

يتطلب ذلك استخداماً مكثفاً للقوة الصلبة، وهو أمرٌ ليس من صميم عمل الاتحاد. صُمم المشروع الأوروبي لضمان عدم خوض أعضائه حرباً بعضهم ضد بعض مجدداً، كما فعلوا في صراعين كارثيين، ولقرون قبل ذلك.

هل تصلح وصفة الأمس لأعراض اليوم؟

إنها مهمةٌ أتقنها الاتحاد الأوروبي لدرجة أنه فاز بجائزة نوبل للسلام عام 2012. لكن عندما يتعلق الأمر بالدفاع ضد التهديدات الخارجية، فإن الطريق إلى الاتحاد الأوروبي اليوم مليءٌ ببقايا مشاريع الأمن المشترك الفاشلة، التي تعود إلى اتحاد أوروبا الغربية عام 1954، إن لم يكن قبل ذلك.

سرعان ما أُسندت هذه المهمة إلى حلف شمال الأطلسي -أي الولايات المتحدة- وظلت هناك. كانت الأدوات التي اختارها مؤسسو الاتحاد الأوروبي لاتحادهم الاقتصادي والسياسي قانونية وبيروقراطية بلا خجل، وهي نقيض ما هو مطلوب لإبراز القوة. 

حرب روسيا وأوروبا إذا اندلعت ستكلف العالم 1.5 تريليون دولار في سنة

لذلك، عندما اجتمع مجلس وزراء الجماعة الاقتصادية الأوروبية آنذاك في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962، لم يدرج حتى هذا التهديد الوشيك بكارثة نووية على جدول الأعمال. بدلاً من ذلك، تناول المسؤولون المجتمعون قضايا الميزانية مثل “الاستثناءات من المادة 17 من اللائحة 19 المتعلقة بالتجارة الداخلية للحبوب”.

لقد قطع الاتحاد شوطاً طويلاً منذ ذلك الحين، إذ وسع عضويته ونطاق عمله. لكن كما أخبرني كيران كلاوس باتيل، رئيس قسم التاريخ الحديث في جامعة لودفيغ ماكسيميليان الألمانية، فإن مطالبة الاتحاد الأوروبي بإظهار قوته الفعلية أشبه بـ”إخبار نجم كرة قدم محترف بأنه سيلعب الرجبي من الآن فصاعداً”. تخيلوا فقط ليونيل ميسي وهو يحاول إيقاف المهاجم النيوزيلندي تاميتي ويليامز، الذي يبلغ وزنه 144 كيلوغراماً.

من يملك قرارات الاتحاد الأوروبي في شأن السياسة الخارجية؟

يبدأ باتيل كتابه ”تاريخ مشروع أوروبا” الصادر عام 2020 بحكاية عن أزمة الصواريخ الكوبية، ويصعب ألا نلمس صدى لها الآن. تولت رئيسة الوزراء الإستونية السابقة كايا كالاس منصب الممثلة السامية الأوروبية للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية العام الماضي، لتجد نفسها تقلص عدد موظفيها الدبلوماسيين بسبب نقص السيولة.

قد يكون هذا اللقب من نصيبها، لكن السياسة الخارجية تستحوذ عليها بغيرة الدول الأعضاء، وما تزال جميع القرارات الجوهرية تتطلب إجماعاً في لجنة من 27 عضواً.

الاتحاد الأوروبي يؤجل اتخاذ قرار بشأن استخدام أصول روسيا المجمدة

النتيجة غالباً ما تكون ارتباكاً وشللاً، وهذا أحد أسباب بقاء قرار استخدام الأصول الروسية المجمدة للدفاع عن أوكرانيا، على الرغم من وضوحه وضرورته منذ عودة ترمب إلى منصبه، دون حل.

ثم هناك مسألة ضمان حصول أوروبا على الموارد اللازمة للتنافس في ساحات المعارك المستقبلية. خذ على سبيل المثال المعادن النادرة. كل طائرة من ملايين الطائرات المسيرة التي ستحتاجها أوروبا لخوض أو ردع الحرب القادمة بكفاءة، ستتضمن بطارية ومغناطيساً دائماً لمحركها الخالي من الفُرش، ونظام تحكم، وأجهزة استشعار. يتطلب إنتاج هذه الأجزاء مكونات أرضية نادرة مثل النيوديميوم (للمغناطيس)، والتي تُعتبر سلسلة توريدها -كما توضح دراسة جديدة من المعهد الملكي للخدمات المتحدة في المملكة المتحدة- غير آمنة.

مصدر المعادن النادرة الرئيسي حليف الخصم

تنتج الصين، حليفة روسيا، أكثر من ثلثي جميع العناصر الأرضية النادرة، وقد اختبرت بالفعل قدرتها على استخدام هذه الهيمنة كسلاح قبل عام من خلال فرض عقوبات على شركة ”سكايديو“ (Skydio)، أكبر شركة أميركية لتصنيع الطائرات المسيرة، ما أدى إلى قطع إمداداتها من البطاريات.

بدأت إدارة ترمب في معالجة هذا التهديد؛ لكن أوروبا لم تفعل ذلك بنفس القدر. يُعدّ الوصول إلى رواسب العناصر الأرضية النادرة الروسية جزءاً من جاذبية الولايات المتحدة لمنح بوتين ما يريده في أوكرانيا.

في أكتوبر، اشترت الحكومة الأميركية أيضاً حصة بقيمة 400 مليون دولار، أي 15%، في شركة ”إم بي ماتيريالز“ (MP Materials)، التي تعدّن وتعالج النيوديميوم في كاليفورنيا وتكساس. على الرغم من أن بعض دول الاتحاد الأوروبي تمتلك رواسب من المعادن الأرضية النادرة القابلة للتعدين، إلا أنها ما تزال تفتقر إلى مناجم.

المملكة المتحدة تخطط لإنتاج 10% من احتياجاتها من المعادن الحيوية

صحيحٌ أن أورسولا فون دير لاين، التي بدأت ولايتها الأولى كرئيسة للمفوضية الأوروبية بتعهد أن تجعل الاتحاد الأوروبي “جيوسياسياً”، استثمرت 14.5 مليون يورو (16.8 مليون دولار) في مصنع لإنتاج مغناطيسات دائمة. وقد عرضت واحدة منها في قمة مجموعة السبع في كندا في يونيو، لعرض المشروع كمثال على سلسلة التوريد الاستراتيجية القريبة من الساحل- لكنها لم تذكر الدفاع قط.

ربما يعود ذلك إلى أن شركة ”نيو بيرفورمانس ماتيريالز“ (Neo Performance Materials) الكندية، التي افتتحت المنشأة في سبتمبر، لا تنتج مغناطيساً واحداً لصناعة الدفاع.

بل سيلبي إنتاج المصنع الإنتاج الأوروبي المتزايد من السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح. يُعدّ هذا خياراً تجارياً لشركة ”نيو“، لكنه قد يكون أيضاً خياراً حكيماً نظراً لموقع المصنع الجديد في نارفا، وهي مدينة تقع على الحدود الإستونية الروسية، وقد وصفها بوتين سابقاً بأنها أرض روسية أصيلة “أعاد بطرس الأكبر جمعها” عام 1704، تماما كما تعيد روسيا جمع الأراضي في أوكرانيا.

هل ضيع ترمب أوروبا أم ضيعت نفسها؟

إن عدم استعداد الاتحاد الأوروبي لعالم مليء بالرجبي الجيوسياسي لا يملك حلاً مؤسسياً واضحاً. في الوقت نفسه، ليس أمام أوروبا خيار سوى أن تُقدم على قفزة إن لم ترغب في أن تصبح فقمة بين حيتان قاتلة تتقاذفها وتمزقها كما لو كان ذلك رياضةً.

يكمن الحل في جعل أوروبا -وليس الاتحاد الأوروبي- المحرك للدبلوماسية واستعراض القوة الصلبة. يجب أن تُدار سياسة القوة الصلبة الخارجية خارج الاتحاد الأوروبي، وداخل حلف الناتو عندما يكون ذلك ممكناً، ومن خلال تحالفات مصممة خصيصاً عندما لا يكون ذلك ممكناً.

هل الحل تكتلات خارج الاتحاد الأوروبي؟

وقد بدأ هذا إلى حد ما، إذ تقود المملكة المتحدة قوة استطلاعية مشتركة من 10 دول شمالية بلا دور للاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، بينما توحد مجموعة أخرى تُسمى بثمانية الشمال الأوروبي والبلطيق. وقد نظمت المملكة المتحدة وفرنسا حديثاً تحالفاً للراغبين في حفظ السلام في أوكرانيا.

قال لي نيكلاس هيلويغ، الباحث الرئيسي في المعهد الفنلندي للشؤون الدولية ومقره هلسنكي: “الأمر فوضوي، لكنني لست متأكداً من هذا أمر سيئ”. قد يكون هذا أيضاً السبيل الوحيد أمام أوروبا لتتحرك بفعالية، لأن عدةً من اللاعبين الجيوسياسيين المهمين في المنطقة -ومنهم أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أي النرويج والمملكة المتحدة وتركيا- ليسوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي.

افتقاد أوروبا للقيادة يعيق التصدي لتهديدات ترمب

كما يُقال كثيراً، تعود أوروبا إلى التاريخ بعد بضعة عقود وجيزة من فترة راحة تفترض المثل العليا، لذا فإن مهمتها الأولى هي إعادة التسلح. لكن أوروبا لم تتحد تماماً ضد التهديدات الخارجية إلا عندما تُعتبر مشتركة وشديدة، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة والإمبراطورية العثمانية في أواخر القرن السابع عشر.

هذا يجعل المهمة الثانية لأوروبا التعامل مع روسيا البوتينية كتهديد من هذا النوع، والاتحاد حول استراتيجية مشتركة لتفعل ذلك. سيشمل ذلك دحر أي عقبات تضعها دول مثل بلجيكا (بشأن تلك الأصول المجمدة) أو المجر (بشأن مقاومة التوسع الروسي من الأساس)، والالتفاف على آليات الاتحاد الأوروبي لحل النزاعات الداخلية.

إن إيجاد طريقة للقيام بكلا الأمرين -الحفاظ على السلام داخلياً، وفي الوقت نفسه إظهار القوة في الخارج- ربما يكون التحدي الأكثر أهمية الذي يواجهه زعماء أوروبا منذ استجابوا لاتفاقية “السلام” المشؤومة بين روسيا وألمانيا في عام 1939.

المصدر : الشرق بلومبرج