كان الاستقلال في مجال الطاقة حلماً بعيد المنال في الولايات المتحدة على مرّ عقود، إلى أن غير ظهور نوع جديد من تقنيات إنتاج النفط في مطلع الألفية قواعد اللعبة. بفضل التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي، تفوقت الولايات المتحدة على عمالقة النفط مثل روسيا والسعودية لتصبح أكبر منتج للنفط في العالم، ولم تعد رهينة لتقلبات شركائها التجاريين.
اليوم، يسعى البيت الأبيض في عهد الرئيس دونالد ترمب لتحقيق حلم مشابه، هذه المرة مع العناصر الأرضية النادرة، تلك المعادن التي يصعب نطق أسمائها وتشكل أساس كثير من التقنيات الحديثة. لكن على عكس النفط والغاز الصخريين، مستبعد جداً أن تتمكن الولايات المتحدة من إيجاد حلول مبتكرة للخروج من هذا العجز الكبير في أي وقت قريب.
إن العناصر الأرضية النادرة عائلة من 17 عنصرا معدنياً، تستخدم في تشغيل كل شيء من الهواتف الذكية والكمبيوترات المحمولة إلى الطائرات المقاتلة والصواريخ، وتسيطر الصين عليها بشكل شبه حصري.
واشنطن تتجه لزيادة استثماراتها بشركات المعادن النادرة لمواجهة نفوذ الصين
تستخرج هذه الدولة الآسيوية 70% من الإمدادات العالمية وتعالج ما يقارب 90% منها، ما يمنحها نفوذاً اقتصادياً كبيراً على الولايات المتحدة (وعلى معظم الدول الأخرى).
فضّلت الولايات المتحدة على مرّ عقود نقل سلسلة توريد المعادن الأرضية النادرة إلى الصين. فاستخراج هذه المعادن وفصلها مكلف ويضر بالبيئة، وكان شراؤها من الخارج أرخص.
لكن صناع القرار اليوم حريصون على التراجع عن هذا القرار، خاصة مع إظهار بكين استعدادها لاستخدام المعادن كورقة ضغط. في وقت سابق من هذا العام، كشفت الصين عن قيود جديدة واسعة على صادراتها من المواد الحيوية، ما أثار حالة من الذعر لدى الولايات المتحدة وغيرها من المشترين.
هل تتوصل واشنطن وبكين إلى اتفاق يخفف المخاوف حيال الإمدادات؟
لقد خفف اتفاق هدنة تجارية محتملة، أبرمه الرئيس شي جين بينغ والرئيس ترمب في سيول أواخر أكتوبر، المخاوف مؤقتاً حيال سيطرة الصين على الإمدادات، لكن الجانبين لم يتوصلا بعد إلى تفاصيل الاتفاق، بما في ذلك آلية عمل تراخيص التصدير المقترحة.
قال مارك سميث، الرئيس التنفيذي لشركة ”نيوكورب ديفيلوبمنتس“ (NioCorp Developments)، التي تطمح لبناء منجم للمعادن الأرضية النادرة في نبراسكا: “إن السوق العالمية التي طمحنا جميعاً إلى بنائها على مدى العقود الماضية تنهار الآن، ونحن نتجه نحو نموذج اقتصادي إقليمي”. أضاف سميث أنه على الرغم من أن ”نيوكورب“ تحاور إدارة ترمب للحصول على التمويل، إلا أن الشركة لم تعلن عن أي توقعات بشأن موعد بدء الإنتاج التجاري.
الصين ما تزال صاحبة اليد العليا في مجال المعادن الأساسية
لطالما شكلت التكاليف الباهظة وتأخر إجراءات الترخيص تحدياً كبيراً أمام بناء مناجم أميركية جديدة، كتلك التي يتصورها سميث. في الولايات المتحدة، يبلغ متوسط الفترة الزمنية بين اكتشاف رواسب معدنية وبدء الإنتاج 29 عاماً، وهي أطول فترة في العالم بعد زامبيا.
كثيرا ما يتذمر العاملون في قطاع التعدين من صعوبة جذب المستثمرين لعدم قدرتهم على تقدير المدة اللازمة لبناء المشاريع بدقة، لكونها تخضع لموافقات الولايات والحكومة الاتحادية، فضلاً عن كم هائل من الدعاوى القضائية من معارضي البيئة والجهات المعارضة المحلية.
منجم وحيد في الولايات المتحدة
حتى لو سرّع ترمب هذه العملية – وهو أمر أبدى استعداده لفعله – تبقى الحقيقة الجيولوجية البسيطة أن كثير من العناصر الأرضية النادرة الثقيلة التي تغذي عالمنا عالي التقنية، مثل الديسبروسيوم والتيربيوم، ليست وفيرة في الصخور الأميركية. (تملك الولايات المتحدة كميات أكبر من الأنواع الأخف وزناً، التي عادة ما تكون أكثر وفرة وأقل تكلفة).
في الواقع، لا يوجد سوى منجم واحد للعناصر الأرضية النادرة يعمل في الولايات المتحدة، وقد توقف حديثاً عن إرسال بعض مواده إلى الخارج استعدادا لتوسيع منشأة المعالجة الخاصة به. كان هذا المنجم الأميركي، الواقع في صحراء موهافي بكاليفورنيا، ركيزة أساسية في أميركا خلال حقبة الحرب الباردة، حيث كان ينتج معادن مثل اليوروبيوم الذي استخدم في إنتاج اللون الأحمر لأولى أجهزة التلفزيون الملونة.
توماس بلاك: كسر هيمنة الصين على المعادن النادرة ضرورة أميركية
أغلق المنجم في العقد الأول من الألفية الثانية عندما أصبحت تكلفة التعدين في الولايات المتحدة باهظةً جداً بالنسبة للمنتجين، ثم أعيد افتتاحه بعد فترة وجيزة من استحواذ شركة “إم بي ماتيريالز” (MP Materials) عليه عام 2017.
يحرص ترمب على نجاح هذا المشروع. في يوليو، تلقت “إم بي ماتيريالز” استثمارا غير مسبوق من وزارة الدفاع الأميركية، التي اشترت حصة بقيمة 400 مليون دولار في الشركة لدعم توسع عملياتها بشكل كبير.
تعمل “إم بي ماتيريالز” على توسيع منشأة الفصل المجاورة للمنجم، التي تحوّل الخام غير المعالج إلى منتج مكرّر، وتخطط لزيادة إنتاجها من مغناطيسات العناصر الأرضية النادرة للإلكترونيات والمركبات الكهربائية والمعدات الطبية.
مع ذلك، ما تزال عمليات “إم بي ماتيريالز” صغيرةً نسبياً مقارنة بعمليات الصين. من المتوقع أن تنتج شركة ”إم بي ماتيريالز“ 1000 طن من مغناطيسات نيوديميوم-حديد-بورون بحلول نهاية العام، وهو ما يمثل أقل من 1% مما أنتجته الصين في عام 2018، وفقا لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
أمام إرادة الله تعجز الإرادات
حتى لو زادت ”إم بي“ إنتاجها إلى عشرة أضعاف هذا المستوى خلال العقد المقبل، فإنها ستظل تمثل 7% فقط من إنتاج الصين. على الرغم من أهمية المعادن التي ينتجها المنجم، بما في ذلك النيوديميوم والبراسيوديميوم، في صناعة المغناطيس الدائم، إلا أنه يفتقر إلى المعادن الثقيلة التي ما تزال الصين تهيمن عليها.
قالت غريسلين باسكران، مديرة برنامج أمن المعادن الحيوية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي يعنى بالأبحاث ومقره في واشنطن: “لم يمنحنا الله هذه الرواسب، لذا فنحن نعتمد بشكل كبير على دول أخرى”.
البنتاغون يبحث شراء وتخزين معادن حيوية بقيمة مليار دولار
تحاول شركات أميركية أخرى، حريصة على تجنب مشاكل تراخيص التعدين الجديدة، اتباع تكتيك آخر لزيادة الإمدادات المحلية: استخلاص المعادن الأرضية النادرة من مخلفات المناجم القائمة. حصلت شركة “فينيكس تيلينغز” (Phoenix Tailings)، وهي شركة في نيو إنغلاند، على استثمارات من شركتي “بي إم دبليو” (BMW) و”ياماها موتور” (Yamaha Motor) لاستخراج النيوديميوم والديسبروسيوم ومواد حيوية أخرى من أكوام الخام المهملة، المعروفة باسم “المخلفات”، المتبقية في مواقع التعدين السابقة في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
يمثل مصنعها الجديد في نيو هامبشاير، الذي افتتح في أكتوبر، إحدى أولى المحاولات الأميركية لإنتاج المعادن الأرضية النادرة على نطاق تجاري دون الاعتماد على معالجات خارجية. يقول مصنع ”فينيكس تايلينغز“ إن العمل يسير بسلاسة حتى الآن، لكنه، على غرار مصنع إنتاج المغناطيسات التابع لشركة ”إم بي“، لا ينتج سوى كمية ضئيلة من المواد مقارنة بالصين.
قطاعات التعدين والطاقة والذكاء الاصطناعي تتصدر ملفات الشراكة السعودية الأميركية
ثمّة شركات أخرى تسعى جاهدة للابتكار والتخلص نهائيا من الاعتماد على العناصر الأرضية النادرة. استثمرت شركتا ”جنرال موتورز“ و“ستيلانتس“ في شركة في مينيسوتا تهدف إلى تسويق مغناطيسات نتريد الحديد، هي ”نيرون ماغنيتكس“ (Niron Magnetics).
انبثقت فكرة الشركة عام 2010، عندما خفّضت الصين فجأة صادراتها من المعادن الأرضية النادرة وسط نزاع إقليمي مع اليابان. كانت تلك هي المرة الأولى التي يبدو فيها أن الصين تستخدم إمداداتها من المعادن كسلاح جيوسياسي. قال جوناثان راونتري، الرئيس التنفيذي لشركة ”نيرون“: “ارتفعت أسعار العناصر الأرضية النادرة بشدة في جميع أنحاء العالم، وكان ذلك بمثابة الشرارة التي دفعتنا إلى اتخاذ هذا القرار. أدركنا حينها حاجتنا إلى بديل”.
هل تستغني شركات السيارات الكهربائية عن المعادن النادرة؟
إن طريق الاستبدال ليس سهلاً؛ فالتقنية الجديدة تحتاج إلى سنوات للحصول على الاعتماد قبل أن يسمح باستخدامها في المحركات والمكونات الصناعية الأخرى. (تخطط شركة ”نيرون“ لافتتاح أول منشأة تجارية لها في أوائل عام 2027، وفقا لموقعها الإلكتروني).
مع ذلك، ما تزال أي تقنيات جديدة بعيدة عن التوسع. فقد صرّحت شركة ”تسلا“ في عام 2023 أنها تهدف إلى الاستغناء تماماً عن مغناطيسات العناصر الأرضية النادرة عند كشفها عن الجيل القادم من سياراتها الكهربائية، لكن بعد عامين، ما تزال هذه المعادن مستخدمة بكثرة في سيارات الشركة. وتعمل سيارات ”بي إم دبليو“ الكهربائية بمحرك خاص مصنوع دون استخدام هذه المعادن، لكن ما تزال كميات صغيرة من مواد العناصر الأرضية النادرة تستخدم في مكونات أخرى مثل المقاعد الكهربائية والنوافذ الكهربائية.
يشير عدد كبير من الصفقات الأخيرة إلى أن إدارة ترمب بدأت تدرك أن الولايات المتحدة قد تحتاج إلى مساعدة إذا أرادت حقاً التحرر من النفوذ الصيني. فقد أعلن البنتاغون في نوفمبر أنه سيساعد في تمويل موقع لمعالجة العناصر الأرضية النادرة في المملكة العربية السعودية، وفي أكتوبر، التقى ترمب برئيس الوزراء الأسترالي للإعلان عن تمويل مشترك بقيمة مليار دولار لمشاريع التعدين والمعالجة على مدى الأشهر الستة المقبلة.
قال باسكران، من برنامج أمن المعادن الحيوية: “واضح أننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بمفردنا. الطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي الاعتماد على حلفائنا”.
المصدر : الشرق بلومبرج
