دبي – مرفت عبدالحميد وجميلة إسماعيل
بين ناطحات السحاب ومراكز البيانات، وبين قاعات المؤتمرات وحاضنات الأعمال، تتشكل في دبي ملامح نموذج عربي جديد لمدينة تستثمر في اقتصاد المعرفة، وتعتبره طريقاً للاستدامة والتنافسية في عالم سريع التحول، ففي الوقت الذي ما زالت فيه كثير من المدن العربية تبحث عن موطئ قدم لها على خريطة اقتصاد المستقبل، تمضي دبي بخطى متسارعة لتكرس مكانتها كـ«مختبر حي» لاقتصاد المعرفة، حيث تتحول الأفكار إلى مشروعات، والبيانات إلى قرارات، والمبادرات إلى منظومة متكاملة تعيد تعريف دور المدينة في القرن الحادي والعشرين.
من «قمة المعرفة» إلى «متحف المستقبل»، ومن واحات الابتكار إلى المناطق الحرة المتخصصة في التكنولوجيا والإعلام والاقتصاد الرقمي، ترسم دبي نموذجاً لمدينة تستثمر في العقول قبل البنى التحتية، وتحول المعرفة إلى ثروة وطنية مستدامة ومحرك أساسي للنمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل.
لم يكن رهان دبي على اقتصاد المعرفة خطوة عابرة أو شعاراً إعلامياً، بقدر ما هو مسار استراتيجي ارتبط برؤية القيادة لمستقبل الإمارة والإمارات عموماً، حيث تشكل المعرفة والابتكار والاقتصاد الرقمي ركائز رئيسية في «مئوية الإمارات» واستراتيجياتها للتحول نحو نموذج تنموي مستدام.
ومن خلال حزمة من السياسات والمبادرات، بدأت الإمارة مبكراً في بناء بيئة تشريعية وتحتية رقمية تستوعب هذا التحول، وتستقطب الشركات العالمية والناشئة والمواهب من مختلف دول العالم. ويؤكد مسؤولون وأكاديميون أن دبي قررت منذ سنوات الاستثمار في الإنسان قبل البنيان، وجعلت المعرفة ركناً أساسياً في اقتصادها، من خلال بناء منظومة متكاملة تحول الأفكار إلى شركات، والبحث العلمي إلى قيمة اقتصادية ملموسة، عبر تكامل أدوار الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية.
وتترجم هذه الرؤية على أرض الواقع من خلال شبكة واسعة من المناطق المتخصصة مثل مدينة دبي للإنترنت ومدينة دبي للإعلام وواحة دبي للسيليكون ومركز دبي المالي العالمي، إلى جانب الحاضنات والمسرعات التي تستهدف دعم الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي والابتكار الاجتماعي.
رؤية القيادة
ويعتبر جمال بن حويرب، المدير التنفيذي لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة أن التجربة المعرفية في دبي تقوم على رؤية واضحة للقيادة، تجعل الاستثمار في الإنسان والمعرفة والتكنولوجيا أولوية قصوى في خطط التنمية. ويشير إلى أن المبادرات الحكومية في التعليم والابتكار والتحول الرقمي وصناعة المحتوى المعرفي أصبحت مرجعاً يحتذى به في المنطقة.
كما دعا الدول العربية إلى الاستفادة من نموذج دبي عبر تبني سياسات وطنية واضحة لبناء مجتمعات المعرفة، وتعزيز الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية، والاستثمار في البحوث والبيانات المفتوحة والمهارات الرقمية، بما يسهم في تعزيز التنافسية وقدرة الدول على مواجهة تحديات المستقبل. ويؤكد بن حويرب أن ما يميّز تجربة دبي ليس حجم المبادرات فقط، بل تكاملها واستمراريتها، حيث تعمل المنظومة المعرفية ضمن إطار استراتيجي يشمل نشر المعرفة وإنتاجها وقياسها من خلال تقارير ومؤشرات عالمية تصدرها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، ما يتيح لصناع القرار تقييم مستوى الجاهزية المعرفية وصياغة سياسات أكثر فاعلية.
وتأتي قمة المعرفة 2025 في هذا السياق، إذ تجمع خبراء وصناع سياسات ورواد فكر من مختلف دول العالم لبحث تحولات اقتصاد المعرفة، ودور التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل أسواق العمل والمهارات، وتعزيز مكانة دبي منصة إقليمية لتوليد الأفكار والحلول.
ويشير بن حويرب إلى أن أسباب تراجع مؤشرات المعرفة في بعض الدول العربية تتعلق أساساً بعدم تحديث البيانات والإحصاءات بشكل دوري، ما يؤثر سلباً على جودة التخطيط وصناعة القرار. ويؤكد أن الدول العربية لا تنقصها الطاقات البشرية أو المراكز البحثية المرموقة، لكنها تحتاج إلى تعظيم الاستفادة من هذه الطاقات عبر بيئة تشريعية وتقنية داعمة، وتحديث منتظم للبيانات، وربط مخرجات البحث العلمي بصناعة القرار واستشراف المستقبل.
ومن جهته يرى الدكتور يسري الجمل، وزير التربية والتعليم المصري الأسبق وأستاذ هندسة الحاسبات، أن تجربة دبي تحمل دروساً يمكن الاستفادة منها إذا تم تكييفها مع السياقات المحلية، مؤكداً أن ما ينقص كثيراً من المدن العربية ليس الموارد بل وضوح الرؤية والإرادة السياسية، إلى جانب البيئة التشريعية والتنظيمية القادرة على تحفيز الابتكار وربط الجامعات بالسوق وجذب الاستثمارات النوعية.
دور إقليمي
ويضيف الدكتور هاني تركي، كبير المستشارين التقنيين ومدير مشروع المعرفة في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن نجاح دبي في بناء مدينة للمعرفة يرتبط بقدرتها على لعب دور إقليمي من خلال شراكات ونقل خبرات وبرامج تعاون مع دول عربية عديدة، ما يمهد لبناء منظومة عربية أوسع تصبح فيها المنطقة شريكاً فاعلاً في إنتاج المعرفة والتكنولوجيا، لا مجرد مستهلك لها. ويشير إلى أن خصوصية نموذج دبي تكمن في التعامل مع المعرفة كأصل اقتصادي واستثماري، تُقاس عوائده في الناتج المحلي وفرص العمل ونوعية الخدمات، بدعم من بيئة تشريعية مرنة ومناطق حرة متخصصة وقدرة على استقطاب المواهب ورؤوس الأموال.
وتوضح الدكتورة إيناس حمد، المسؤول الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة للمتطوعين، أن قمة المعرفة تمثل منصة عالمية للحوار حول مستقبل المعرفة، تعمل كـ«غرفة عمليات» لمناقشة الاتجاهات المستقبلية وصياغة المبادرات والشراكات لدعم اقتصاد المعرفة في دبي والمنطقة.
كما يشير الدكتور عيسى البستكي رئيس جامعة دبي إلى أن دبي رسخت موقعها في الاقتصاد المعرفي العالمي، عبر طرح أسئلة صعبة من خلال النقاشات والحوارات التي تديرها في القمم والمؤتمرات التي تستضيفها، حول دور البيانات والذكاء الاصطناعي، والحوكمة، والتعليم، وريادة الأعمال، ثم محاولة تحويل هذه النقاشات إلى برامج عمل وتعاون بين المؤسسات المحلية والدولية.
مثال عملي
ويقدم رائد الأعمال الإماراتي عزيز جميل مثالاً عملياً على بيئة دبي الداعمة، حيث تمكن من إطلاق مشروعه في الحلول الرقمية لخدمة المجتمع وأصحاب الهمم، مستفيداً من البنية التحتية، والتشريعات، والمنصات الاستثمارية، وعلاقات الشبكات الدولية التي ساعدت في تسريع نمو المشروع وفتح أسواق جديدة.
ويؤكد الخبراء أن دبي أصبحت منصة إقليمية لتأسيس وتوسيع الشركات الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية وتحليل البيانات، مع التركيز على خلق وظائف نوعية عالية المهارة. كما يشددون على أهمية «البنية التحتية البشرية» المتمثلة في التعليم والمهارات والبحث العلمي، والتي تشكل أساس استمرار اقتصاد المعرفة.
ويشير الدكتور عبدالله الشامسي، مدير الجامعة البريطانية بدبي إلى الجهود المبذولة لربط مخرجات التعليم باحتياجات الاقتصاد المعرفي، سواء عبر برامج تخصصية أو شراكات بحثية مع القطاع الخاص، فيما يؤكد الدكتور شريف موسى عميد كلية الهندسة بالجامعة الكندية بدبي، ضرورة شمولية التحول ليشمل الشباب والنساء والفئات الأقل حظاً، من خلال برامج تمكين وتدريب.
وتوضح الدكتورة منى آل علي، أستاذ مساعد في أكاديمية ربدان أن مؤشرات المعرفة تُقاس بالبيانات الموثوقة والابتكار والتعليم والتحول الرقمي، وأن الفجوات في إدارة البيانات ما زالت تحدياً أمام بعض الدول. وتشير الدكتورة مرفت أمين، أكاديمية في جامعة الإمارات، إلى أن دبي أصبحت منصة عالمية لإنتاج وتوطين المعرفة في المنطقة، فيما يرى الدكتور سيف النيادي، أستاذ مساعد في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، أن المنصات التعليمية في الإمارة تدفع عجلة الابتكار، وتعزز الاقتصاد المستدام وتخلق فرصاً استثمارية وقصص نجاح عالمية.
وتلفت الدكتورة رانية عبدالله، مدير برنامج الاتصال والإعلام في جامعة العين بأبوظبي، إلى أن أبرز التحديات في المنطقة تكمن في أساليب التعليم التقليدية وضعف التفكير النقدي، ما يعيق مواكبة التحولات العلمية المتسارعة.
المصدر : البيان
