«البراق وليلى العفيفة» لسلطان.. ملحمة الفروسية والعفة

«البراق وليلى العفيفة» لسلطان.. ملحمة الفروسية والعفة

الشارقة – رضا السميحيين

استهل العرض المسرحي «البراق وليلى العفيفة»، لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، من تقديم فرقة مسرح الشارقة الوطني أولى ليالي الدورة التاسعة من مهرجان الشارقة الصحراوي، أمس الأول الجمعة في صحراء الكهيف/ الشارقة، ليتبدى لنا وبوضوح أن الرهان على المسرح في فضاء الصحراء، هو تجربة ثقافية تأسست على تراكم معرفي وفني متين. وجاء العرض الذي قوبل بحفاوة كبيرة من الجمهور والفنانين المسرحيين الإماراتيين والعرب، ليؤكد على هذا المسار، مقدماً تجربة مسرحية ملحمية تجمع بين التاريخ والشعر والفرجة البصرية، في عمل يواصل فيه صاحب السمو حاكم الشارقة، وعبر نصوصه المسرحية إعادة قراءة التاريخ العربي ليسلط الضوء على مخزونه الأخلاقي والإنساني الكبير.

تنتمي المسرحية إلى سلسلة الأعمال التي كتبها سموه خصيصاً للمسرح الصحراوي، بعد «علياء وعصام» (2015)، و«داعش والغبراء» (2016)، و«الرداء المخضب بالدماء» (2024)، وهي تستلهم القصة التراثية من التاريخ العربي، قصة البراق بن روحان مع ليلى العفيفة، ملحمة العشق والفروسية، التي تجمع بين الوفاء للعهد وحفظ العرض، بطلتها ليلى بنت لكيز ربيعية النسب، بالغة الجمال والعقل، محط خطاب العرب، لكنها تميل في سرها إلى ابن عمها الفارس البراق، من غير أن تخرج على طاعة أبيها أو عرف قومها.

يتقدم لخطبتها ملك فارس فيرد طلبه لأن والدها يعدها لابن أحد ملوك اليمن، ويتم تجهيز قافلة لتذهب ليلى لليمن طوعاً لرغبة والدها، وعندما يعلم بذلك ابن عمها البراق بن روحان، يشتد وجده بها، ويعرض عليها أن تهرب معه، فتأبى صوناً لسمعة أبيها وحفاظاً على شرفها، ويغادر البراق قومه مهموماً قبل أن تعصف الأحداث بهما معاً، وخلال الرحلة تتعرض القافلة لهجوم من قطاع طرق، وتقع ليلى أسيرة وتساق إلى ملك فارس، وتتصاعد الأحداث عند حضور أحد الرعاة حاملاً رسالة من ليلى من محبسها في قصر ملك فارس تقول:

ليت للبراق عينا فترى

ما ألاقي من بلاء وعنا

يا كليباً يا عقيلاً إخوتي

يا جنيداً ساعدوني بالبكا

عذبت أختكم يا ويلكم

بعذاب النكر صبحاً ومساً

سينوغرافيا ذكية

جاء النص ليعيد تشكيل الحكاية بلغة مسرحية مشحونة بالشعر والدلالة، تجعل من ليلى رمزاً للطهر المهدد، ومن البراق تجسيداً للفعل الأخلاقي الذي ينهض لمواجهة الظلم، بلغة جاءت فصيحة، ذات إيقاع شعري يتناسب مع الفضاء المفتوح للصحراء، ومع طبيعة العرض الذي يعتمد على المشاهد الكبرى أكثر من التفاصيل الدقيقة، ويحمل في طياته خطاباً قيمياً واضحاً عن الشرف، والوفاء، ومن هنا، يكتسب العمل بعداً معاصراً، إذ يلامس أسئلة راهنة حول معنى البطولة، وحول دور الجماعة في حماية قيمها حين تتعرض للانتهاك.

المخرج محمد العامري شكلت رؤيته المتكاملة ركيزة أساسية في نجاح العرض، إذ تعامل مع النص بصرياً وسمعياً، واستطاع أن يوظف الفضاء الصحراوي توظيفاً درامياً ذكياً، جاعلاً منه عنصراً مشاركاً في صناعة المعنى، وجاءت السينوغرافيا مناسبة تماماً لجو النص، وتم توظيفها بدقة وحرفية لخدمة المشاهد، سواء في بناء الخيام وتوزيع الإضاءة، أو في مشاهد الترحال، أو في لحظات المواجهة، وجاء توزيع الحركة في الفضاء الواسع مدروساً بعناية، ما حافظ على وضوح الرؤية لدى الجمهور، ومنع تشتت الانتباه رغم كثافة العناصر.

الأزياء لعبت دوراً جمالياً ودلالياً في آن واحد، فجاءت منسجمة مع الحقبة التاريخية التي يستحضرها العمل، ومع طبيعة الشخصيات الاجتماعية والنفسية، لتشكل جزءاً من السرد البصري، تعكس المكانة، والانتماء، والحالة الشعورية لكل شخصية. هذا الانسجام بين النص، والزي، والفضاء، أسهم في خلق عالم مسرحي متكامل، يشعر فيه المتفرج بصدق التجربة وواقعيتها.

فرجة شاملة

ولعل أحد أكثر العناصر التي أضفت على العرض قوة وتأثيراً، هو استخدام الخيول والجمال وكلاب «السلوقي»، وجاء حضورها موظفاً درامياً، مضيفاً واقعية عالية أدخلت المشاهدين إلى قلب الفرجة، حركة الخيول في مشاهد القتال، ووجود الجمال في لحظات الترحال، منحت العرض بعداً ملحمياً رائعاً، وجعلت المسرح الصحراوي يتجاوز حدود الخشبة التقليدية إلى فضاء الفرجة الشاملة. اشتمل العرض أيضاً على لوحات استعراضية جاءت على شكل فواصل تعبر عن فصول المسرحية، دون أن تفصلها عن سياقها الدرامي، اتسمت بالتكثيف والدلالة، وأسهمت في ضبط الإيقاع العام للعرض، كما منحت الجمهور لحظات تأمل بصري تتناغم مع الموسيقى، وقد وظفت الموسيقى والمؤثرات الصوتية بدقة لافتة، فرافقت تطور الحدث، وعززت منسوب التوتر في لحظات الخطر، ومنحت مشاهد الانتصار طابعها الاحتفالي.

ومن الجوانب التقنية اللافتة في العرض، إدخال مشاهد سينمائية ضمن البناء المسرحي، ولا سيما تلك التي تظهر فيها ليلى العفيفة وهي تنشد قصيدتها مستنجدة لإنقاذها من مختطفيها، وأضفى هذا التداخل بين المسرح والسينما بعداً تعبيرياً جديداً، وفتح أفقاً بصرياً مختلفاً، دون أن يخل بتماسك العرض، كما جاء مشهد هجوم البراق وجيشه على القصر، وتحرير ليلى مشهداً، هو ذروة، جمع بين الحركة الجماعية، والمؤثرات البصرية، والإيقاع الموسيقي، ليقدم لحظة مسرحية مؤثرة ومشحونة بالانفعال.

شارك في العرض المسرحي أكثر من 150 فناناً، يتقدمهم نخبة من نجوم المسرح الإماراتي والعربي من بينهم: أحمد الجسمي، باسم ياخور، إبراهيم سالم، أحمد العمري، عبدالله مسعود، محمد جمعة، محمد يوسف، عزة زعزوع، أحمد ناصر، نبيل المازمي، محمد بن يعروف، أحمد يوسف، محمد الغانم، سيد منظور، عبدالله الشعساني، شريف عمر، راشد المعيني، عبدالله عقيل، سارة السعدي، وكان لافتاً ذلك الأداء المتقن والحرفي الذي وصل حد التقمص، مما أعطى العرض زخماً جماعياً مع انضباط إخراجي، أسهم في توحيد الأداء، وجعل الشخصيات تتحرك ضمن رؤية واحدة متجانسة.

تشكل مسرحية «البراق وليلى العفيفة» تجربة مسرحية متكاملة، وبياناً فنياً يؤكد قدرة المسرح العربي على استعادة تاريخه برؤية معاصرة، وعلى توظيف المكان، والإنسان، والتقنية، لصناعة فرجة ذات بعد فكري وجمالي، تحتفي بالقيم الإنسانية الكبرى، لتخاطب الوجدان في قلب الصحراء، حيث يولد المعنى من اتساع الأفق وصدق الرؤية.

المصدر : صحيفة الخليج