توصل باحثون بجامعة سيدني في أستراليا إلى أسباب فشل العلاج الكيميائي في القضاء على ورم “الأرومة الدبقية”، وهو أخطر سرطانات الدماغ، في اكتشاف علمي هو الأول من نوعه عالمياً.
ووربما تغير هذه النتيجة مسار الأبحاث، وطرق علاج هذا المرض الذي طالما استعصى على الطب الحديث.
وكشفت الدراسة التي نشرتها دورية Nature Communications، عن آلية خلوية غير متوقعة، تستخدمها مجموعة صغيرة من الخلايا السرطانية للبقاء على قيد الحياة، رغم الجراحة والعلاج الإشعاعي والكيميائي، وهو ما يفسر فشل مئات التجارب السريرية في تحسين معدلات البقاء على قيد الحياة خلال العقود الماضية.
وورم “الأرومة الدبقية” من أكثر أنواع السرطان عدوانية؛ إذ لا يتجاوز متوسط البقاء على قيد الحياة بعد التشخيص 15 شهراً فقط.
ورغم إجراء أكثر من 1250 تجربة سريرية خلال الـ 20 عاماً الماضية، إلا أن معظم المرضى يواجهون المصير نفسه المتمثل في عودة الورم بعد فترة قصيرة من العلاج.
ويمثل هذا التكرار شبه الحتمي أحد أكبر ألغاز علاج السرطان، ويعرف طبياً باسم “الخلايا المتبقية الضئيلة”، أي بقاء عدد ضئيل من الخلايا السرطانية المختبئة التي تنجو من العلاج، وتعيد تكوين الورم من جديد.
أظهرت الدراسة أن السبب الرئيسي وراء عودة الورم هي مجموعة نادرة من الخلايا، تعرف باسم “الخلايا المتحملة للعلاج” لا تموت مع بقية الورم عند التعرض للعلاج الكيميائي، بل تدخل في حالة شبيهة بالتخفي، تسمح لها بالبقاء ثم إعادة تنشيط المرض لاحقاً.
والمفاجأة التي وصفتها الدراسة بأنها “غير مسبوقة عالمياً” هي أن هذه الخلايا تعيد برمجة عملية الأيض لديها، مستعينة بجين لا علاقة له – ظاهرياً – بالسرطان على الإطلاق، بل بالخصوبة.
واكتشف الباحثون أن خلايا “الأرومة الدبقية” تستغل جيناً، يعرف باسم PRDM9، وهو جين يفترض أن يكون نشطاً فقط في الخلايا التناسلية، خلال المراحل المبكرة جداً من تكوين البويضات والحيوانات المنوية.
وقالت الباحثة الرئيسية في الدراسة، لينكا مونيوز، الباحثة في مركز تشارلز بيركنز بجامعة سيدني، إن هذا الاكتشاف يغير الفهم العلمي لمرض “الأرومة الدبقية”.
وأضافت أن الخلايا السرطانية “تختطف” هذا الجين، وتستخدمه كآلية بقاء، ما يسمح لها بالاختباء من تأثير العلاج الكيميائي.
وأوضحت النتائج أن PRDM9 يساعد الخلايا السرطانية على إنتاج كميات كبيرة من الكوليسترول، وهو عنصر حيوي لبناء أغشية الخلايا وحمايتها.
وخلال ضغط العلاج الكيميائي، يعمل هذا الكوليسترول كدرعٍ واقٍ، يمكّن الخلايا المتبقية من تحمل الضرر، ثم الانقسام مجدداً بعد انتهاء العلاج.
وبحسب الباحثين، فإن العلاج الكيميائي ينجح في القضاء على الغالبية العظمى من خلايا الورم، لكن هذه المجموعة الصغيرة من الخلايا “العنيدة”، والتي تظل كامنة، مستفيدة من هذا المسار الخفي للبقاء.
كسر حلقة العودة المتكررة
في تجارب مخبرية، وعلى نماذج حيوانية، نجح الباحثون في القضاء على هذه الخلايا المتحملة للعلاج من خلال تعطيل جين PRDM9، أو قطع إمدادات الكوليسترول عنها.
وعند دمج هذه الاستراتيجية مع العلاج الكيميائي التقليدي، تحسنت معدلات البقاء على قيد الحياة بشكل ملحوظ في الفئران، مقارنة بالعلاج الكيميائي وحده.
وطور الباحثون دواءً كيميائياً جديداً قادراً على اختراق الدماغ، أطلقوا عليه اسم WJA88، وجرى استخدامه بالتوازي مع دواء خافض للكوليسترول سبق اختباره على البشر.
وأظهرت هذه التركيبة قدرة على تقليص حجم الأورام، وإطالة عمر الحيوانات دون آثار جانبية كبيرة.
وفي خطوة تعكس جدية النتائج، بدأ الباحثون في محاولة تطوير مثبطات تستهدف جين PRDM9، تمهيداً لاختبارها في نماذج حيوانية أكثر تقدماً.
وأوضح فريق الدراسة أن الطريق إلى التجارب السريرية على البشر لا يزال طويلاً، وربما يستغرق عدة سنوات، على حسب نجاح دراسات السلامة، والفاعلية قبل السريرية، ومع ذلك، فإن الاكتشاف يضع هدفاً علاجياً جديداً وواضحاً، لم يكن مطروحاً من قبل.
ويشكل ورم الأرومة الدبقية نحو نصف أورام الدماغ، ويتسبب في وفاة ما يصل إلى 200 ألف شخص سنوياً حول العالم، من بينهم نحو ألف شخص في أستراليا وحدها. وحتى اليوم، يعد تكرار الورم بعد العلاج أمراً شبه حتمي.
قالت الباحثة الرئيسية إن هذا الاكتشاف يمنح المرضى وأسرهم أملاً جديداً، في مجال طالما افتقر إلى اختراقات حقيقية، مشيرة إلى أن استهداف الخلايا النادرة المسؤولة عن الانتكاس “ربما يكون المفتاح لتغيير مستقبل علاج هذا السرطان القاتل”.
وأفادت الدراسة بأن جين PRDM9 لا يكون نشطاً في معظم أنسجة الجسم الطبيعية، ما يجعله هدفاً علاجياً انتقائياً بدرجة عالية، ووفق الباحثين، فإن هذا الأمر قد يقلل من الآثار الجانبية، مقارنة بالعلاجات التي تهاجم الخلايا سريعة الانقسام بشكل عام.
وقال الباحث المشارك في الدراسة، جورج جون، إن القضاء على “آخر الخلايا السرطانية الصامدة” ربما يمنع عودة الورم بالكامل، وهو ما وصفه بأنه “تغيير جذري” في مفهوم علاج الأرومة الدبقية.
ولا تقتصر أهمية الاكتشاف على سرطان الدماغ فقط؛ فهذه هي المرة الأولى التي يربط فيها جين PRDM9 بالسرطان، ما يفتح الباب أمام التساؤل بشأن دوره المحتمل في أنواع أخرى من الأورام العنيدة.
وأشار الباحثون إلى خطط مستقبلية لاختبار هذه الآلية في سرطانات أخرى يصعب علاجها، من بينها سرطان المبيض، في محاولة لمعرفة ما إذا كانت “الخلايا المتحملة” للعلاج تستخدم الحيلة البيولوجية نفسها.
ويرى الخبراء أن الدراسة تسلط الضوء على ضرورة تغيير النظرة التقليدية إلى السرطان، والتركيز ليس فقط على الكتلة الرئيسية للورم، بل على الخلايا النادرة التي تنجو من العلاج، وتؤسس للانتكاس.
ودعت الباحثة الرئيسية إلى توسيع نطاق الأبحاث ليشمل ما يحدث بعد انتهاء العلاج، وليس فقط أثناء التعرض للأدوية، معتبرة أن هذه المرحلة قد تحمل مفاتيح منع عودة المرض.
ورغم أن التطبيق السريري لا يزال بعيداً، إلا أن الاكتشاف يعد خطوة أساسية نحو فهم أعمق لأحد أكثر السرطانات فتكاً، ويمنح العلماء مساراً جديداً قد يقود، للمرة الأولى منذ عقود، إلى كسر حلقة العلاج ثم الانتكاس، التي تطارد مرضى الأرومة الدبقية حول العالم.
المصدر : الشرق
