لماذا لم تتمكن أوروبا من استخدام أصول روسيا المجمدة حتى الآن؟

لماذا لم تتمكن أوروبا من استخدام أصول روسيا المجمدة حتى الآن؟

منذ أن شنّت روسيا حربها ضد أوكرانيا في فبراير 2022، اشتعلت حرب مالية على جبهة أخرى بين موسكو وبروكسل، مع تجميد أوروبا لأصول البنك المركزي الروسي اعتراضاً على الغزو.

ومع دخول الأزمة عامها الرابع، لم يتمكن الاتحاد الأوروبي، الذي يجتمع اليوم، من استخدام الأصول المجمدة، ما حوّل الأموال الروسية -المُقدّرة بأكثر من 300 مليار يورو- إلى لغم يهدد بالانفجار في وجه النظام المالي للقارة العجوز، إن تم التصرف فيها دون غطاء قانوني مُحكم. 

بحسب المفوضية الأوروبية، تجاوز تمويل أوروبا لأوكرانيا 187 مليار يورو منذ بدء الحرب وحتى أغسطس الماضي، في حين تجاوزت فوائد أصول روسيا المجمّدة في بلجيكا وحدها 3 مليارات دولار منذ وقت تجميدها وحتى الربع الثالث من 2025.

أميركا لا ترحب باستخدام “الكنز”

حتى الآن يبقى “الكنز” الروسي مجمّداً تحت وطأة المخاوف القانونية والسياسية، في مفارقة مكلفة إذ يموّل الاتحاد الأوروبي بشكل غير مباشر الحرب من جيوب دافعي الضرائب، بينما تُدار أموال موسكو في خزائن بلجيكية تُحقق أرباحاً لا تُستثمر.

ما الحكاية؟ في بداية الحرب، بحث الاتحاد إمكانية استخدام الأصول المجمّدة لدعم أوكرانيا مالياً وعسكرياً، ثم بعد اعتراضات من دول أعضاء انتقل الحديث عن عدم المساس بالأصول، وإنما استخدام العائدات كضمان لقرض يقدم لكييف.

اقرأ المزيد: أكثر خيارات أوروبا كلفةً هو تأخير مساندة أوكرانيا مالياً

لكن الأمر اقتصر على ذلك وسط اعتراض دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا لأسباب تتعلق بالحفاظ على مبدأ الحصانة السيادية ومخاطر التداعيات القانونية والمالية على النظام الأوروبي. كما برزت المجر بين أعلى الأصوات رفضاً لاستخدام الأصول الروسية المجمّدة، مستندةً إلى خطاب سياسي مباشر يشكك في جدوى دعم أوكرانيا نفسه، إلى جانب اعتراضاتها القانونية المعلنة.

ووصل الأمر إلى حد وصف رئيس وزرائها فيكتور أوربان، الشهر الماضي، استمرار الدعم المالي الأوروبي لأوكرانيا بأنه “جنون محض” إذ لا يرى فرصة لها في كسب الحرب أمام روسيا، معتبراً أن هذا النهج يضر بالاتحاد الأوروبي اقتصادياً ومالياً.

اقرأ أيضاً: ترمب: روسيا صاحبة اليد العليا في الحرب ضد أوكرانيا

للولايات المتحدة رأي أقرب للمجر، وإن كان أقل صدامية مع كييف. لا تؤيد أميركا تقديم أي قرض يدعم أوكرانيا في تمويل الحرب، بل تريد ربط التمويل باتفاقية سلام بحيث تستخدم الأموال في إعادة الإعمار.

بلجيكا في موقف لا تُحسد عليه

أما بلجيكا، باعتبارها حاضنة أكبر الأصول الروسية القابعة في خزائن شركة إيداع الأوراق المالية “يوروكلير” (تُقدّر بـ185 مليون يورو)، فهي في موقف لا تحسد عليه إذ تواجه تهديدات موسكو من ناحية وضغوط الدول الأوروبية من ناحية أخرى.

لتهدئة مخاوف بلجيكا، اقترح الاتحاد الأوروبي إبرام “عقد ديون مصمم خصيصاً” مع “يوروكلير”، بسعر فائدة 0%، لضمان قدرتها على الوفاء بأي مطالبات روسية محتملة في المستقبل. 

اقرأ أيضاً: بلجيكا تحبط خطة الاتحاد الأوروبي لاستغلال أصول روسيا المجمدة

لكن بروكسل لديها هاجس بأن تُترك وحدها لدفع أي تعويضات في حال فازت موسكو بأي دعاوى مستقبلية لاستعادة الأصول كافية. ووصف رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر مقترح الاتحاد الأوروبي لاستخدام فوائد الأصول الروسية بأنه “مجازفة كبيرة” تتطلب تقاسماً صارماً للمخاطر بين الدول الأعضاء، محذّراً من تعقيدات قانونية، وداعياً إلى البحث عن مصادر بديلة لتمويل أوكرانيا.

لا يوجد حصر للتكلفة الفعلية التي قد تقع على أوروبا حال استخدام الأصول، إلا أن بوادر هذه المخاطر بدأت تتجلّى مع خطوة وكالة “فيتش” البارحة الأربعاء بوضع “يوروكلير” تحت “نظرة سلبية”، محذّرةً من تداعيات قانونية وتشغيلية قد تُضعف تصنيفها الائتماني، في حال اضطُرت لتحمّل تعويضات مستقبلية لموسكو، بحسب ما نقلت “رويترز”.

روسيا تتحرك على جبهة القضاء

وسط هذا الخلاف حول التصرف في الأصول المجمدة، لم تقف روسيا موقف المتفرج. وبعد سنوات من الاكتفاء باستخدام لغة الوعيد والتهديد، اتخذت أول تحرك لها الشهر الجاري -مقتديةً بتحركات رجال أعمالها لاسترداد أصولهم- إذ رفع بنك روسيا المركزي دعوى قضائية أمام محكمة التحكيم في موسكو ضد تجميد الأصول باعتبارها “إجراءات غير قانونية” من قبل “يوروكلير” جعلت من “المستحيل على البنك التصرف في أمواله وأوراقه المالية”، وفق بيان للمركزي نهاية الأسبوع الماضي.

تجدر الإشارة إلى أنه لم يتمكّن أي رجل أعمال روسي حتى الآن من استرداد أصوله المجمّدة، رغم صدور بعض الأحكام القضائية لصالحهم. ففي عام 2024، كسب بيوتر آفين وميخائيل فريدمان حكماً من محكمة الاتحاد الأوروبي، التي اعتبرت أن مساهمتهما في الحرب غير مباشرة ولا تبرر فرض العقوبات عليهما. 

اقرأ أيضاً: حرب روسيا وأوروبا إذا اندلعت ستكلف العالم 1.5 تريليون دولار في سنة

لكن هذا الحكم لا يعني تلقائياً الإفراج عن أصولهما، إذ يمكن استئناف قرارات رفع العقوبات، كما أن تنفيذها، بما في ذلك فك تجميد الأصول، قد يتطلب قرارات إدارية وسياسية إضافية.

أوروبا تلجأ لبند طارئ لتجاوز الإجماع

في  سابقة بطريقة التعامل مع الأصول المجمدة، استخدمت المفوضية الأوروبية ما يُعرف بـ”البند الطارئ” (المادة 122 من معاهدات الاتحاد الأوروبي) لإقرار تجميد نحو 210 مليارات يورو من الأصول الروسية إلى أجل غير مسمّى الأسبوع الماضي، وذلك عبر التصويت بالأغلبية المؤهّلة بدلاً من الإجماع الكامل. 

اقرأ المزيد: الاتحاد الأوروبي يمدد تجميد الأصول الروسية دعماً لأوكرانيا

جاء اللجوء إلى هذا المسار الاستثنائي لتجاوز اعتراضات دول مثل المجر وسلوفاكيا، اللتين عارضتا في السابق تمديد التجميد بموجب نظام العقوبات التقليدي، الذي يتطلّب إجماعاً. 

ويفتح هذا التعديل القانوني الباب أمام قادة الاتحاد الأوروبي خلال قمة اليوم وغداً لاتخاذ قرارات أكثر حسماً بشأن استخدام فوائد الأصول الروسية لدعم أوكرانيا، دون الخوف من تعطيل منفرد من أي دولة.

يُمكن اختزال رأي المعسكرين -المتحمس لاستخدام الأصول الروسية والمتوجس- من كلمات أقوى سيدتين أوروبيتين، الأولى رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، بقولها: “هناك أمر واضح جداً جداً، علينا اتخاذ القرار بتمويل أوكرانيا للسنتين المقبلتين.. لا يمكن لأوروبا أن تتحمل ترك الآخرين يحددون رؤيتها للعالم”.

تقابلها تصريحات جورجا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، والصديقة المقرّبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، بإعلانها البارحة أن “استخدام الأصول الروسية المجمّدة لا يزال معقداً من الناحية القانونية. إيطاليا تعتبر أن المبدأ القائل إن على روسيا أن تتحمل في المقام الأول تكلفة إعادة إعمار الأمة التي هاجمتها (أوكرانيا) مبدأ مقدس، لكن يجب تحقيقه على أساس قانوني متين”.

يبقى لنرى هل سترفع القمة اللعنة عن الكنز الروسي مع نزع فتيل اللغم، أم أن التعقيدات القانونية والسياسية ستبقي الأصول عبئاً ثقيلاً تحت أقدام الأوروبيين بما يشعل معركة مالية وقانونية لا تُحمد عقباها مع موسكو؟

المصدر : الشرق بلومبرج