هل ينبغي أن تكون الهجرة من الدول الغنية والمتقدمة، لا إليها، مصدر القلق الحقيقي في عام 2026؟
أصبح من السهل أن نضيع في تتبّع الأدلة المتناثرة حول شباب في سن العمل، محبطين من بيئة أعمالهم، يختارون مغادرة المملكة المتحدة أو فرنسا للاستقرار في الإمارات العربية المتحدة أو سويسرا، حيث الضرائب أكثر استقراراً، أو بتعبير أدق، أقل تكلفة.
أحدث هؤلاء هو ألان هاورد، الشريك المؤسس لشركة “بريفان هاورد أسيت مانجمنت” (Brevan Howard Asset Management)، والذي أصبح الآن من سكان سويسرا.
ومع اشتداد المنافسة على الكفاءات، حذّر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون مؤخراً من موجة خروج متزايدة للبريطانيين الموهوبين نحو دبي وأبوظبي.
مغادرة العقول الشابة
كاميرون محق في قلقه، وليس فقط بسبب الأسماء الكبيرة التي وصلت مؤخراً إلى الإمارات مثل نيكولاي ستورونسكي، الرئيس التنفيذي لشركة “ريفولوت” (Revolut). فرغم أن الأثرياء لطالما كانوا سريعي الحركة، إلا أن هذه الظاهرة تتجاوز أولئك الذين يسعون فقط وراء ملاذات ضريبية مثل موناكو.
بحسب تقديرات مكتب الإحصاءات الوطني البريطاني، غادر صافي 110 آلاف بريطاني تتراوح أعمارهم بين 16 و34 عاماً البلاد خلال عامٍ واحد حتى مارس الماضي. من غير الواضح إلى أين ذهبوا بالضبط، لكن طلبات الانتقال تشير إلى جاذبية متزايدة للشرق الأوسط.
اقرأ أيضاً: “دبي المالي” يحتضن أكثر من 100 صندوق تحوط مع صعود الإمارة كمركز عالمي
العوامل الدافعة مثل تدهور المالية العامة وضعف سوق الوظائف الإدارية توسّع من تأثير العوامل الجاذبة مثل الضرائب المنخفضة أو المعدومة. شركات مصرفية وصناديق تحوط مثل “مان غروب” (Man Group) و”أوك هيل أدفايزرز” (Oak Hill Advisors)، التي كانت مرتبطة سابقاً بالمراكز المالية الكبرى، بدأت تنقل أعمالها إلى الإمارات، حيث يُعاد توظيف ما يقارب 1.1 تريليون دولار من الثروات السيادية.
مؤشرات سوق العقار تعكس حركة الثروة
أسعار العقارات الفاخرة تعكس هي الأخرى موجة الهجرة الكبرى نحو الإمارات وغيرها من الملاذات الضريبية مثل ميلانو. فقد سجّل مؤشر “نايت فرانك” للعقارات الفاخرة في المدن الكبرى ارتفاعاً بنسبة 140% في دبي، و78% في ميامي، و38% في ميلانو خلال السنوات الخمس الماضية.
في المقابل، تراجعت لندن وباريس مع تشديد السياسات المالية واعتماد موازنات تُفضل كبار السن، ما يجعل من دبي وسويسرا وجهات أكثر جاذبية للمهنيين والأُسر الثرية، كما يكرر مستشارو الثروة القول.
اقرأ أيضاً: عائلة الغرير تدخل سباق العقارات الفاخرة في دبي
تفقد ألمانيا سنوياً نحو 210 آلاف عامل ماهر تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عاماً. ومع العلم أن أعلى 10% من أصحاب الدخول في فرنسا والمملكة المتحدة يُسهمون بما بين 60% إلى 75% من إجمالي إيرادات ضريبة الدخل، فإن خروجهم ستكون له عواقب تراكمية ملموسة.
الشرق الأوسط ينافس على الكفاءات العالمية
“المنافسة ستكون شرسة”، حسبما رأى أرتورو بريز، أستاذ المالية في كلية “آي إم دي” السويسرية للأعمال. فالشرق الأوسط يستثمر بكثافة في البنية التحتية ويركّز على جودة الحياة لجذب المواهب في عالم يزداد رقمية، ما يمنحه ميزة نسبية، رغم أن المراكز المالية الكبرى لا تزال تحتفظ بأفضلية من حيث جودة التعليم والفرص الوظيفية.
اقرأ أيضاً: “KKR” للاستثمارات البديلة تكثف رهانها على الشرق الأوسط
فما الذي يمكن لحكومات كير ستارمر أو إيمانويل ماكرون فعله؟ التنافس مع ملاذات ضريبية أمرٌ صعب ومكلف، وبالتأكيد لا يُعدُّ ورقة انتخابية رابحة. يبدو أن فرنسا لم تعد ترحب بالمصرفيين القادمين من لندن، بحسب ما يتناقله مديرو صناديق التحوط من لقاءاتهم الخاصة مع المرشحين الرئاسيين الفرنسيين.
قد يرى بعض “الساخطين” أن الحل هو انتظار “تصحيح” يعيد أسعار العقارات في مدن مثل دبي إلى أرض الواقع. يشكّل القطاع العقاري 8% من الناتج المحلي الإجمالي للإمارة التي يتسم اقتصادها بالانفتاح والتعرُّض للتطورات الجيوسياسية والاقتصادية. لكن هذا الرهان لا يبدو استراتيجياً، خاصةً أن الانتقال إلى دبي لم يعد حكراً على المتاجرين بالعقارات، إذ تجاوز عدد صناديق التحوط المسجلة في مركز دبي المالي 100 صندوق. كما أن الإمارات تنال إشادة متزايدة على تحسين الرقابة على تدفق الأموال المشبوهة، التي تظل مصدر تهديد.
مزيج من الحوافز والقيود
الاستراتيجية الأفضل تكمن في مزيج بين الحوافز والقيود. على المدن الأوروبية القديمة أن تُعيد تقييم كلفتها وعوائدها، وتُعزز من نقاط قوتها. فبالرغم من أن ترتيب دبي في مؤشر “سافيلز” السنوي لمراكز التكنولوجيا قفز من المرتبة 43 إلى 20، إلا أنها لا تزال خلف باريس (15) ولندن (3)، اللتين تستفيدان من جامعات مرموقة وخريجين أكفاء وتوفر رأس المال الاستثماري، مع بقاء أميركا في الصدارة.
تكامل أسواق رأس المال الأوروبية سيكون حيوياً لإبقاء الشركات الناشئة ضمن القارة بدلًا من هجرتها إلى بيئات أكثر دعماً للنمو. كما يمكن تعديل السياسات الضريبية والإنفاق الاجتماعي لتصبّ في مصلحة الشباب، بدلًا من تكريس الامتيازات لكبار السن. وربما يكون من الضروري التفكير في ضرائب خروج، رغم عدم شعبيتها، إذا ساءت الأمور أكثر.
الهجرة المتزايدة من المملكة المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة ليست وهماً، ويجب أن تكون السياسات لمواجهتها بنفس الجدية والواقعية.
المصدر : الشرق بلومبرج
