بعد عام طغت عليه ضغوط السيولة وتباطؤ الأداء مقارنة بباقي دول الخليج، تدخل السوق السعودية عام 2026 مرحلة جديدة، مدفوعة بتحسن في العوامل الهيكلية للاقتصاد، واتساع دور القطاعات غير النفطية، بالإضافة إلى التطورات التي تشهدها القطاعات المرتبطة بـ”رؤية السعودية 2030″.
في جلسة الثلاثاء، تراجعت الأسهم السعودية بنحو 1% لتسجل أدنى مستوى منذ 24 أكتوبر 2023 عند 10381 نقطة، متأثرة بضغوط كافة الأسهم القيادية، وبشكل أساسي “أرامكو” و”معادن” و”أكوار باور”.
قاد قطاع المواد الأساسية التراجع في السوق، في وقتٍ سجل 19 من أصل 21 قطاعاً خسائر، وانخفضت أسهم 237 شركة من أصل 266. وبحسب بيانات “تداول”، تراجع مؤشر “تاسي” 14% منذ بداية العام، ويتجه لتسجيل أسوأ أداء سنوي منذ ما لا يقل عن 10 أعوام.
ويجمع كلّ من هشام أبو جامع كبير المستشارين في “نايف الراجحي الاستثمارية” ومحمد مكني أستاذ الاقتصاد في “جامعة الإمام محمد بن سعود”، على أن ما شهدته السوق خلال العام الماضي لم يكن انعكاساً لضعف اقتصادي عام، بقدر ما كان نتيجة اختلالات مؤقتة في السيولة وسلوك الاستثمار، في وقت يتوقع أبو جامع نمواً ملحوظاً لبعض القطاعات في العام المقبل.
فجوة السيولة.. أثر متراكم لا خلل هيكلي
انطلق أبو جامع في مقابلته مع “الشرق” من أن ضعف السيولة كان السمة الأبرز للسوق السعودية خلال السنة، خصوصاً مع نمو القروض في القطاع المصرفي بوتيرة أعلى بكثير من نمو الودائع.
وأضاف أن قيمة القروض في القطاع المصرفي بلغت نحو 400 مليار ريال في آخر 12 شهراً، مقابل نمو أقل في الودائع بنحو 200 مليار ريال، ما أدى إلى اتساع الفجوة التمويلية التي بدأت منذ مايو 2022.
ويشير إلى أن هذه الفجوة لا تعكس ضعفاً في القطاع المصرفي، بل تعكس قوة الطلب على الائتمان الناتج عن النشاط الاقتصادي. إلا أن تسارع وتيرة الإقراض مقارنة بنمو الودائع دفع البنوك إلى التوجه نحو أسواق الدين لتأمين مصادر تمويل إضافية، مثل إصدارات سوق رأس المال.
وخلال العام الجاري كثفت البنوك إصداراتها من أدوات الدين لتبلغ 15.39 مليار دولار، وفق إحصاء “الشرق”.
ولفت أبو جامع إلى أن القطاع المصرفي مرشح لنمو ملحوظ إذا استطاع تنمية ودائعه، ما ينعكس إيجاباً على قدرته على الإقراض، خصوصاً مع وجود قطاعات ضخمة مرشحة لنمو كبير، وتحتاج تمويلاً ضخماً مثل السوق العقارية.
وفي هذا السياق، توقع كبير المستشارين في “نايف الراجحي الاستثمارية” أن تسجل السوق العقارية نمواً قوياً في العام المقبل، خصوصاً مع بدء تطبيق رسوم الأراضي البيضاء الخميس المقبل.
في أبريل الماضي، قررت السعودية فرض رسوم مرنة تصل إلى 10% سنوياً على الأراضي البيضاء، بعد أن كانت تكتفي بنسبة ثابتة لا تتجاوز 2.5%.
كما دخلت العقارات الشاغرة لأول مرة تحت مظلة الرسوم العقارية، في محاولة لكسر الجمود وتحرير المعروض السكني، ضمن واحدة من أكبر موجة إصلاح تنظيمي يشهدها القطاع منذ انطلاق “رؤية 2030”.
اقرأ أيضاً: السعودية تفرض رسوماً على العقارات الشاغرة وترفعها حتى 10% على الأراضي البيضاء
هذا النمو لن يبقى محصوراً في هذه السوق، إذ أشار إلى أن “تطوير هذه الأراضي سيحتاج إلى قروض إضافية، كما سيحتاج إلى الإسمنت والحديد وعدة أمور أخرى”، ما سينعكس إيجاباً على الشركات العاملة في هذه القطاعات.
انطلاقاً من هذا التحليل، توقع أبو جامع أن تنمو قطاعات البنوك والإسمنت والشركات العقارية التي تمتلك رخص تطوير خلال السنة المقبلة، نظراً لوجود طلب عالٍ.
سوق لم تعكس نتائج الشركات
رغم الضغوط التي مرّت بها السوق، يؤكد أبو جامع أن العديد من الشركات القيادية حققت أرباحاً ربعية تاريخية، لا سيما في قطاعات البنوك والتجزئة والاتصالات، إضافة إلى “أرامكو”.
غير أن هذه النتائج لم تنعكس بشكل كامل على أداء السوق، ما “قد ينعكس إيجاباً في العام المقبل”، ويمكن السوق من تحقيق “ارتفاع بناء على عدة معطيات مثل تقييم الشركات الرئيسية المنخفض”.
اقرأ أيضاً: أسوأ عام للأسهم السعودية خلال عقد يثير قلق المستثمرين
كما يلفت إلى أن التركيز ظل محصوراً في عدد محدود من الأسهم القيادية، بينما يُتوقع خلال 2026 أن يتوسع نطاق الاهتمام ليشمل شركات وقطاعات أخرى، مدعوماً بإدراجات جديدة قادرة على جذب المستثمرين المحليين والأجانب.
سوق الدين.. محرك رئيسي في المرحلة المقبلة
يشير أبو جامع إلى أن أحد أبرز التحولات في 2026 يتمثل في تنامي دور سوق الدين، حيث بدأت شركات غير مصرفية بالدخول بقوة إلى هذا السوق عبر إصدارات محلية ودولية، بل إن بعض هذه الشركات استطاعت الاقتراض بتكلفة أقل من البنوك نفسها.
كما اتجهت شركات كبرى، من بينها “أرامكو”، إلى تنويع مصادر تمويلها عبر أسواق خارجية، بما في ذلك أسواق آسيوية، ما يعكس مرونة أعلى في إدارة التمويل وتراجع الاعتماد على مصدر واحد.
اقرأ أيضاً: شح السيولة وتمويل المشاريع الكبرى يدفعان البنوك السعودية لتغيير استراتيجيتها
ويرى أن سوق الدين المحلية والدولية مرشحة لأن تكون من أكثر الأسواق نشاطاً خلال السنوات الخمس المقبلة، مدفوعة باستمرار الطلب على التمويل.
في المقابل، يرى أن قطاع البتروكيماويات قد يحتاج إلى فترة أطول لاستعادة زخمه، نظراً لارتباطه المباشر بحركة التجارة العالمية.
اقتصاد أكثر توازناً في 2026
من جانبه، يؤكد مكني في مقابلة مع “الشرق”، أن الاقتصاد السعودي يدخل 2026 وهو في وضع أكثر توازناً، بعدما أثبتت القطاعات غير النفطية قدرتها على تعويض التراجع في النشاط النفطي.
ويشير إلى أن مساهمة القطاعات غير النفطية بلغت نحو 56%، في دلالة واضحة على التحول الهيكلي في الاقتصاد، لافتاً إلى أن معدلات التضخم بقيت ضمن نطاق مريح بين 1.9% و2%، وهو ما يدعم استمرار النشاط الاقتصادي.
اقرأ أيضاً: الصادرات النفطية تحافظ على زخم الفائض التجاري السعودي خلال أكتوبر
كما حققت سوق العمل تقدماً ملحوظاً، مع تراجع البطالة إلى ما دون 7%، وهو مستوى يسبق مستهدفات “رؤية 2030″، ويعكس حيوية الاقتصاد المحلي.
استثمارات وإنفاق يدعمان المرحلة المقبلة
يوضح مكني أن الاستثمارات الأجنبية واصلت تدفقها، ليصل رصيدها التراكمي إلى نحو 977 مليار ريال، مع تسجيل ما لا يقل عن 25 مليار ريال في كل ربع، ما يعكس ثقة متزايدة في الاقتصاد السعودي.
اقرأ أيضاً: “Six Flags” القدية باكورة مشاريع الترفيه العملاقة في السعودية
كما أن موازنة 2026 خصصت نحو 12% للإنفاق الرأسمالي، في إشارة إلى استمرار تنفيذ المشاريع الكبرى، لا سيما المرتبطة باستضافة “إكسبو”، إلى جانب تعاظم دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي.
ويضيف أن بيئة أسواق الدين أصبحت أكثر جاذبية، مدعومة بتصنيفات ائتمانية إيجابية، وبنسبة دين إلى ناتج محلي تبلغ نحو 31%، وهي نسبة تمنح الاقتصاد مرونة مالية كبيرة.
المصدر : الشرق بلومبرج
