21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد رحيله

هي الحكاية نفسها لا تغيب عن واجهة الأحداث الثقافية في شتى الأزمنة والأمكنة إلا لتعود من جديد مالئة الدنيا وشاغلة الناس، حكاية تدور حول سؤال يعود هو نفسه حتى ولو تغير أبطال الحكاية وتبدلت ظروفها، وهو سؤال فحواه معرفة من الذي يحق له أن يقرر كيف ينبغي التعامل مع الإرث الفكري للمبدعين الكبار بعد أن تنتهي آجالهم، ويخرجون من دائرة الحياة في عالمنا المادي إلى دائرة الخلود مثل الأساطير وحكايات الجن والنصوص أو الصور التي لا تتكرر.

الواقع أننا لسنا نبتغي هنا الدخول في الشؤون القانونية المتعلقة بالأمر، فثمة مجلدات ومجلدات ومساجلات ونزاعات لا تنتهي حول الملكية المادية، ويقيناً أن هذا هو الجانب الأكثر سهولة في هذا المضمار، ويمكن لأي قاض منفرد أو ابتدائي أن يحسم الأمر فيه وبالتالي لا يهمنا كثيراً هنا.

لكن ما يهمنا هنا هو الجانب المعنوي الذي يثير كثيراً من الإشكالات، ولا سيما حين يقف الورثة الماديون للمبدع حجراً في وجه أي دنو من ذكراه، ولا سيما حين لا يعود عليهم ذلك الدنو بمكاسب مادية لا شأن لها بالإبداع نفسه.

وقد يكون من الملائم هنا أن نذكر بتلك المعارك التي تندلع في كل مرة يحاول فيها فنان من الفنانين المعاصرين أفلمة أو مجرد الكتابة عن حياة أسمهان أو مي زيادة، كي لا نذكر سوى هذين المثلين، والصخب الذي جوبهت به منذ عقود الكاتبة الكبيرة غادة السمان حين جرؤت على نشر رسائل الغرام التي كانت تتبادلها مع الكاتب غسان كنفاني حين كانا على علاقة، فقامت في وجهها عواصف عائلية ومهنية وصلت حد التجريم والشتم.

تراث نيرودا الناقص

طبعاً ليس هدفنا هنا أن نتوقف عند هذه المسألة وما تسفر عنه عادة، لكن غايتنا إيجاد نوع من مدخل يوصلنا إلى حصة شاعر تشيلي الأكبر بابلو نيرودا من تلك المعامع التي تثور بين حين وآخر متعلقة بحكايات من النوع نفسه، والمسألة هنا تتعلق بما لا يزيد على 21 قصيدة لم يكن من الممكن العثور عليها في أي من كتبه، ولا سيما مجموعاته الشعرية، وفي الأقل قبل عام 2014، أي عند الاحتفال بالذكرى الـ 40 لرحيله في أعقاب الانقلاب الفاشي في وطنه تشيلي بقيادة الجنرال بينوشيه.

ولكيلا تذهب الأفكار بالقارئ بعيداً ويعتقد أن لغياب تلك القصائد علاقة ما بالانقلاب الذي حدث بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي كان همها الإطاحة برئيس البلد المنتخب ديمقراطياً سلفادور ألليندي، من دون أدنى التفات منها للشعر أو الفن أو حتى لنيرودا الذي كان على أية حال صديقاً لألليندي، فلا بد من أن نشير إلى أن نيرودا نفسه كان هو الذي نحى تلك القصائد جانباً رافضاً ضمها إلى أي من مجموعاته الشعرية، ورافضاً حتى السماح لأحد بقراءتها بعد موته.

لكن وبحسب الشاعر المعاصر في اللغة الإسبانية في أيامنا هذه بيري غيمفيرير والذي كتب مقدمة لأعمال نيرودا الشعرية التي صدرت عام 2014، ظهرت تلك القصائد علانية للمرة الأولى في تلك الطبعة لتعتبر “اهم اكتشاف أدبي في عالم الكتابة الهسبانية، وحدثاً فائق الأهمية على صعيد الحياة الشعرية في العالم”، ويقيناً أن صاحب هذا التقديم لن يكن مغالياً في ما ذهب إليه لكنه كان مغالياً في حماسه الكبير لأنه لم يذكر في ذلك التقديم الحماسي السبب الحقيقي لاختفاء القصائد كل تلك الأعوام.

والسبب الحقيقي كما نوهنا أعلاه هو نيرودا نفسه، ومن هنا وللإمعان في السكوت عن هذه الحقيقة، اضطر المقدم إلى تجاهل ذلك الضجيج العاصف الذي أقام عالم الشعر والأدب الإسبانيين ولم يقعدهما، ولا سيما أن مثيري الصخب إنما كانوا يعلنون أنهم باحتجاجاتهم إنما يدافعون عن رغبة الشاعر الكبير نفسه، وكان لسان حالهم يقول إنه لئن كان شاعر من قامة نيرودا قد امتنع في حياته من نشر تلك القصائد حتى في الصحف أو من على المنابر، فإنه إنما فعل ذلك لأنه رأى أنها عديمة الأهمية في مساره الشعري، وبخاصة خلال أعوامه الأخيرة حين بات أيقونة في الشعر العالمي الحديث، ومن هنا كان ذا مغزى أن يقول الكاتب والدبلوماسي التشيلياني المعاصر خورخي إدواردز في مقالة نقدية نشرها في صحيفة “إل باييس” الإسبانية، إن ذوق نيرودا الشعري الرهيف وحسه النقدي المميز وتذوقه هو نفسه للشعر كانت أموراً جعلته يختار لأعماله الكاملة قرب نهاية حياته ما ينبغي نشره وما ينبغي تجاهله، “فما بالنا نأتي اليوم ونعارض إرادته، أليس هذا جريمة في حق نيرودا وحق شعره؟”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تناقض غريب

ولعل من أكثر ما يثير الاستغراب هنا هو أن إدواردز نفسه وهو كان على أية حال من أصدقاء نيرودا، وقد نظم من ناحيته وبالتعاون مع أرملة الشاعر الكبير الراحل عملية نشر أسفرت عن إعادة إصدار مجموعة شعرية لنيرودا تضم عدداً من قصائده التي تعود لمرحلة شبابه الباكر بعنوان “النهر اللامرئي”، كان الشاعر نفسه امتنع من نشرها مرات ومرات في حياته، وفي السياق نفسه ذكرت الصحافة الإسبانية أن القصيدة الأولى الواردة في تلك المجموعة لم تنل رضى الشاعر لنشرها في أعماله الكاملة، على رغم أن هذا الأخير قد عدل فيها وطورها مرات عدة.

وفي هذا الصدد ودائماً في مجال الحديث عن التناقضات التي حكمت المواقف من حول الموضوع برمته، يمكن أن نستند مرة أخرى إلى الشاعر إدواردز الذي يخبرنا بنفسه أن بعض النصوص التي لم يقيض لها أن تنشر أول الأمر تبدو للوهلة الأولى وكأنها ستنطلق منذ سطورها الباكرة، فيتفاءل الشاعر ويبدو وكأنه في طريقه للرضى عنها، لكنه سرعان ما يقلق ويقدر ألا جدوى منها مبدياً خيبة أمل مريرة تدفعه إلى تنحيتها في انتظار لحظات شعرية أكثر قوة، ثم يحدث أن تلك اللحظات لا تأتي أبداً”، فإذا كان إدواردز المعتبر من أكثر المعنيين بالقضية إخلاصاً لصديقه نيرودا يقول ذلك، فكيف نفسر بقية مواقفه في ضوء تلك المعركة الغريبة في تطوراتها؟

أبعاد تجارية

في نهاية المطاف لا بد لنا من التساؤل عما إذا لم يكن للحكاية كلها في هذا الزمن المادي الذي يغمرنا ويحاصرنا من كل جانب، أبعاد تجارية وتنافسية من النوع الذي يتكاثر اليوم في عالم النشر، بل في عالم الثقافة بصورة عامة؟

والحقيقة أن هذا جواب على شكل سؤال طرحه عدد من المعلقين لمناسبة صدور القصائد في مجموعة تهافت القراء على شراء نسخها ما إن وصلت إلى الأسواق الهسبانية، حيث يخبرنا معلق على الموضوع آثر إلا أن يعلن هويته أن “هذا الاكتشاف المزعوم لتراث شعري خلفه نيرودا واكتشف اليوم إنما جاء ليطرح في الأسواق منتجاً، وهو عبارة عن عمل أدبي تقول لنا حقائق مؤكدة إنه في واقع الأمر لم يكن بغائب عن تلك الأسواق قبل ذلك بشكل أو بآخر، ولعل المعركة السجالية نفسها لم تكن بغائبة عن لعبة الطرح الرأسمالي للمنتج والإقبال عليه بالتالي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية