
نكاد نشهد صراعاً ملحمياً بين مخطط “هيمنة الطاقة” الأميركي ومشروع “قوة سيبيريا” الروسي، وهو مشروع خط أنابيب مُقترح لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى شمال الصين عبر منغوليا؛ حيث إن هذا الخط يهدد بتعقيد دبلوماسية الطاقة التي ينتهجها الرئيس دونالد ترمب، وقلب أسواق الطاقة رأساً على عقب، بل وحتى تحديد ملامح طفرة الذكاء الاصطناعي.
إن إحياء مشروع “قوة سيبيريا 2” للغاز خلال القمة الأخيرة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ عامل حاسم في قطاع الغاز الأميركي. إلى جانب التوسعات المُقترحة لخطي أنابيب آخرين، سيُتيح هذا المشروع قدرة على تصدير 58 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الروسي مباشرةً إلى الصين.
لتوضيح ذلك، يُعادل هذا المشروع ما يقرب من نصف الزيادة المتوقعة في الطلب الصيني على الغاز خلال العقد المُقبل، وربع الطلب العالمي الإضافي إجمالاً.
الصين تعزز تجارة الغاز المسال مع روسيا في اختبار لموقف ترمب
الأمر الأهم للولايات المتحدة هو أن ذلك سيؤدي إلى تفاقم وتوسيع فائض وشيك في قطاع طاقة ذو أثر على محور أجندة ترمب “للهيمنة”، وهو الغاز الطبيعي المسال. إن الولايات المتحدة حالياِ أكبر مُصدّري الغاز الطبيعي المسال في العالم، وتقود توسعاً هائلا ًفي طاقة التسييل. وقد أعلن وزير الطاقة كريس رايت في فعالية لمجلس الشؤون الخارجية الأسبوع الماضي بأنه يتوقع أن يصبح الغاز الطبيعي المسال أكبر صادرات البلاد.
كان من أحدث توقعات وكالة الطاقة الدولية طويلة الأجل التي نشرتها أواخر العام الماضي، ارتفاع في الطلب العالمي السنوي على الغاز الطبيعي المسال بمقدار 144 مليار متر مكعب بين عامي 2023 و2030.
لكن يُتوقع أن تزيد طاقة العرض بمقدار ضعف هذه الكمية تقريباً. ويأمل القطاع بشدة أن يتلاشى هذا الفائض مع استمرار نمو الطلب وتراجع طفرة طاقة التصدير. ومن شأن ضخ 58 مليار متر مكعب من الغاز الروسي العالق أن يُبدد هذا الأمل.
هل تتأثر الأسعار سلباً؟
للفائض المستمر آثار مباشرة على السوق الأميركية. على مدى السنوات الخمس الماضية، استحوذت صادرات الغاز الطبيعي المسال الصافية على ثلثي الزيادة في إنتاج الغاز المحلي، متجاوزةً بشكل كبير المصدر الرئيسي الآخر الوحيد للطلب المتزايد على الغاز الأميركي، وهو توليد الكهرباء.
في حال تساوي جميع العوامل الأخرى، فإن سوق الغاز الطبيعي المسال العالمية المتخمة ستزيد من الغاز المتاح محلياً، ما يؤدي إلى خفض الأسعار الأميركية.
يشابه هذا فرضية “ارتفاع إمدادات النفط والغاز” التي طرحتها وزارة الطاقة في توقعاتها طويلة الأجل، والتي ستؤدي إلى انخفاض أسعار الغاز في عامي 2030 و2035 بنسبة 25% و37% على التوالي، مقارنةً مع توقعاتها الأساسية.
الصين تكثف شراء الغاز المسال لإعادة ملء المخزونات مع تراجع الأسعار
بالطبع، سيعاني منتجو ومطورو الغاز الطبيعي المسال الأميركيون. فإذا اقترب مشروع “قوة سيبيريا 2” من التحقق، فلن تبنى البنية التحتية التي يعتمد عليها جزء من الطاقة الإنتاجية المتوقعة للغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة، ولن تُكون هناك عمليات حفر أولية. هنا قد يكون سعي ترمب للهيمنة على قطاع الطاقة قد خلق عقبة أخرى، من خلال منح الصين دافعاً للانضمام إلى خط الأنابيب.
تحتاج روسيا، التي دفع غزوها لأوكرانيا أوروبا إلى خفض كبير في وارداتها من الغاز من سيبيريا بشكل كبير، إلى خيارات تصدير جديدة. فقد أعاقت العقوبات مشاريعها للغاز الطبيعي المسال في القطب الشمالي، وستُغنيها خطوط الأنابيب الجديدة المتجهة إلى الصين، عند اكتمال طاقتها، عن الطلب الأوروبي السابق.
وفرة في الغاز
علاوة على ذلك، فإن الوفرة المتوقعة في طاقة الغاز الطبيعي المسال، حتى قبل مراعاة تأثير خطوط الأنابيب الجديدة، تعني أن أوروبا لن يكون لديها سبب كافٍ للتفكير في طلب الغاز الروسي مرة أخرى في حال التوصل إلى اتفاق سلام في الحرب الأوكرانية.
سبق أن رفضت روسيا مفاوضات الصين الصارمة بشأن التسعير والالتزامات المتعلقة بالحد الأدنى من الحجم، لكن الكارثة في أوكرانيا جعلت موسكو أشد اعتماداً على بكين للحصول على الدعم.
من منظور اقتصادي بحت، لا تحتاج الصين إلى مشروع “قوة سيبيريا 2″، نظراً لتوافر الغاز الطبيعي المسال. وهذا قد يعني أن خط الأنابيب ما يزال مجرد حلم روسي. لكن تجارة الطاقة العالمية تبتعد أكثر فأكثر عن الاعتبارات الاقتصادية البحتة.
بيّنت آن صوفي كوربو، خبيرة الغاز في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا، حديثاً أن واردات الصين من غاز الولايات المتحدة الطبيعي المسال انخفضت إلى الصفر في مارس، بعد اشتداد الحرب التجارية بين البلدين.
تقلبات أسعار الغاز في أوروبا تهبط لأدنى مستوياتها منذ 2021
ستُسهم مبادرة “قوة سيبيريا 2” في تنويع مصادر الغاز في الصين، وتوثيق الروابط الاستراتيجية والاقتصادية بين روسيا والصين، وتوجيه ضربة لسياسة ترمب في مجال الطاقة.
لقد بدأت الصين، على وجه الخصوص، في زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال الروسي المدرج في القائمة السوداء، كما أفادت التقارير بأنها تستعد لإعادة فتح سوق سنداتها المحلية أمام شركات الطاقة الروسية، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة ”فاينانشيال تايمز“ حديثاً.
يتوافق هذا مع استراتيجية الصين الشاملة للتنويع، بعد أن ضخت أموالاً طائلة في تطوير صناعة سيارات كهربائية رائدة عالمياً للحد من الاعتماد على واردات النفط، إلى جانب مصادر الطاقة المتجددة والطاقة النووية.
بالرغم من استغلال ترمب لطفرة النفط الصخري كمصدرٍ للضغط الدبلوماسي القائم على العرض، يبدو أنه نسي أن العملاء المهددين بسلاح الطاقة يميلون إلى دفع ثمن خيارات أخرى (كما فعل العالم الصناعي بعد صدمات النفط في سبعينيات القرن الماضي، وكما فعلت أوروبا بعد الهجوم الروسي الأخير على أوكرانيا).
علاوة على ذلك، تبدو جهود الهيمنة حتى الآن منفصلة عن واقع السوق الأساسي. صحيح أن أوروبا أصبحت تعتمد على الغاز الطبيعي المسال الأمريكي منذ عام 2022، لكن الاقتصاد الناضج الملتزم بخفض الانبعاثات لا يمكنه استيعاب موجة إضافية من الشحنات.
الذكاء الاصطناعي هو المستفيد الأكبر
كذلك، تبدو الآفاق محدودة فيما يتعلق باليابان وكوريا الجنوبية، اللتين قطعتا، التزامات غامضة بشراء كميات هائلة من “الطاقة” الأميركية، كما فعلت أوروبا، سعياً وراء تسوية تجارية مع ترمب. أشارت كوربو إلى أنه ”محاولة استهداف الأسواق البطيئة النمو أو المتراجعة غريبة جداً”.
إن المستفيد الواضح الوحيد من فائض الغاز المنخفض التكلفة في الولايات المتحدة هم مطورو مراكز البيانات، الذين يستهدفون توليد الكهرباء باستخدام الغاز كلقيم لتلبية احتياجاتهم المتزايدة من الكهرباء.
هل يلبي قطاع الكهرباء بأميركا الاحتياجات الهائلة للذكاء الاصطناعي؟
سيرتفع الطلب على الغاز من قطاع الطاقة في عام 2035 بنسبة 38% في حالة “الإمدادات العالية” التي وضعتها وزارة الطاقة مقارنةً بالتوقعات الأساسية. في المقابل، يُمثل الغاز الرخيص خطراً على الطاقة التي تعمل بالفحم (وهي من أولويات ترمب الأخرى) وتحدٍّ إضافي لقطاع الطاقة المتجددة الذي يتعرض بالفعل لهجوم من الرئيس.
لكن إذا استفادت شركات الذكاء الاصطناعي العملاقة في نهاية المطاف من دبلوماسية الطاقة معدومة النتيجة التي ينتهجها ترمب، سيكون ذلك راجعاً إلى محدودية متأصلة في مفهوم الهيمنة.
المصدر : الشرق بلومبرج