
طوال سنوات حملة الصين على شركات التكنولوجيا، ضجت منصات التواصل داخل مجموعة “علي بابا غروب القابضة” بشعارات تدعو لإعادة الشركة إلى عظمتها السابقة. وإذ بها اليوم تستعين بسلاحها الأقوى لتحقيق هذا الهدف: جاك ما.
بعد أن توارى عن الأنظار في بداية التحقيقات في قضايا الاحتكار أواخر عام 2020، عاد أشهر رائد أعمال صيني إلى مقار “علي بابا”، منخرطاً فيها أكثر من أي وقت سابق خلال الأعوام الخمسة الماضية، وفق أشخاص مطلعين. وقد تجلّى تأثير عودته خلف الكواليس، مع تحوّل الشركة نحو الذكاء الاصطناعي وإعلانها الحرب على منافسيها في التجارة الإلكترونية “جيه دي دوت كوم” (JD.com) و”ميتوان” (Meituan).
وقال أحد الأشخاص الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم لخصوصية المسألة إن ما كان أساسياً في قرار “علي بابا” تخصيص ما يصل إلى 50 مليار يوان (7 مليارات دولار) لدعم الأسعار، بهدف التصدي للدخول المفاجئ لـ”جيه دي” إلى السوق.
استعادة رضا بكين
يدير “علي بابا” منذ عام 2023 اثنان من أقدم معاوني جاك ما، وهما: جو تساي وإيدي وو. ولم تكشف الشركة ما إذا كان “ما” قد عاد ليتولى منصباً رسمياً داخل الشركة، فيما لم يرد متحدث باسمها على طلب للتعليق أُرسل عبر البريد الإلكتروني.
لكن أشخاصاً مطلعين على عمليات الشركة أشاروا إلى أن المؤسس البالغ من العمر 61 عاماً بات اليوم أكثر انخراطاً في أعمال الشركة منذ استقالته من رئاسة مجلس الإدارة عام 2019. فإلى جانب إشرافه على إنفاق بمليارات الدولارات، يتابع عن كثب مشاريع “علي بابا” في الذكاء الاصطناعي، حتى إنه، وفق أحد الأشخاص، طلب من أحد كبار المديرين إطلاعه على آخر المستجدات ثلاث مرات في يوم واحد.
دلالات عودة جاك ما
كان “ما” يوماً أغنى وأشهر قادة التكنولوجيا في الصين، ولطالما نُظر إلى عودته المنتظرة كمؤشر إلى أن قطاع التكنولوجيا الذي تمتع سابقاً بهامش أوسع من الحرية، بدأ يستعيد مكانته لدى بكين.
وفي حين لم يتضح بعد ما إذا كانت هذه العودة تحظى بمباركة السلطات الصينية، اعتُبرت مصافحته للرئيس شي جين بينغ في فبراير كإشارة واضحة إلى أنه مرضي عنه مجدداً، في وقت تراهن البلاد على الذكاء الاصطناعي لتعزيز النمو. مع ذلك، يُتوقع أن يحافظ على حضور متواضع مقارنة بالسابق، حين كان يشارك في جلسات منتدى دافوس ويجلس على مقاعد لجان تحكيم برامج المواهب في أفريقيا.
قال لي تشينغدونغ، رئيس مركز الأبحاث “هايتون” (Haitun) المتخصص بالإنترنت في بكين “جاك ما هو الوجه الأبرز لـ‘علي بابا‘، الشخص الأهم فيها وأيقونتها الكبرى. عودة الرجل الأول تعني أنه لم يعد يُنظر إليه كخطر، وهذا وحده يكفي لإشعال الحماسة لدى الجميع”.
منافسون جدد في الصين
اليوم، يواجه “ما” واقعاً جديداً في قطاع التجارة الإلكترونية بالصين، حيث تحتدم المنافسة على استقطاب المستهلكين الباحثين عن وجبات وبقالة وأجهزة إلكترونية تُسلَّم خلال ساعة أو أقل. وبحسب أحد الأشخاص المطلعين، يسعى كبار مسؤولي الشركة للتوضيح له بأن زمن هيمنة “علي بابا” على 85% من السوق قد انتهى.
مع ذلك، يراهن “ما” على قدرة المنصة الرئيسية للشركة “تاوباو” على التفوق على “جيه دي دوت كوم” (JD.com) و”ميتوان” (Meituan)، بعدما نجحت مؤخراً في استعادة جزء من حصتها السوقية. ووفقاً لبيانات “غولدمان ساكس”، بلغت حصة “علي بابا” حتى يوليو 43% من سوق توصيل الطعام في الصين، مقابل 47% لـ”ميتوان”.
اقرأ أيضاً: “علي بابا” تقود موجة تمويل شركات التكنولوجيا الصينية
لكن هذه المنافسة قد تضع “ما” في مواجهة مباشرة مع السلطات، التي تسعى إلى إنهاء ما تصفه بدعم الأسعار “الخبيث”، ما يجعله عرضة لانتقادات جديدة بسبب دور “علي بابا” في حرب الأسعار.
كان الخطاب المشؤوم الذي ألقاه “ما” عام 2020 السبب في اختفائه عن المشهد العام. فبعد أيام فقط من هجومه العلني على البنوك الصينية ووصفه إياها بـ”محلات الرهن”، أوقفت الهيئات الناظمة خطط إدراج شركة “آنت غروب” التابعة لـ”علي بابا”. وفي غضون أسابيع، أطلقت بكين حملة موسعة لتشديد قبضتها على الاقتصاد، في محاولة لكبح صعود طبقة المليارديرات الجدد.
وهكذا وجد “ما” نفسه في قلب عاصفة تنظيمية امتدت لتطال منافسين كباراً مثل “ديدي غلوبال” (Didi Global) وعملاقة التعليم الإلكتروني، وأجبرت عدداً من رجال الأعمال البارزين على التواري عن الأنظار، وتسببت بأكبر موجة تدمير للثروات في التاريخ الصيني الحديث. وخسرت “علي بابا” نحو 700 مليار دولار من قيمتها السوقية، أي ما يعادل كامل القيمة السوقية لشركة “تنسنت” (Tencent) اليوم.
يُعدّ جاك ما أبرز رموز تلك الحقبة من الحملة على قطاع التكنولوجيا، إذ انسحب من الحياة العامة وقضى معظم وقته بين طوكيو وهونغ كونغ. خلال تلك الفترة التي تزامنت مع القيود الصارمة التي فرضتها الصين لمكافحة الجائحة، انهارت معنويات الموظفين. وغدا غياب “ما” رمزاً لأزمة عميقة في تاريخ “علي بابا”. لذا، عندما عاد إلى مقر “آنت غروب” في ديسمبر الماضي لإلقاء أول خطاب علني له منذ عام 2020، غلب التأثر بعض الموظفين القدامى إلى حد البكاء، بحسب أحد الحاضرين طلب عدم الكشف عن هويته نظراً لخصوصية المناسبة.
حماسة متجددة في “علي بابا”
خلال زيارة إلى المقر الرئيسي لقسم الحوسبة السحابية في “علي بابا” في أبريل، مرّ جاك ما بجانب جدران عُلّقت عليها رسائل مؤثرة من موظفين مخضرمين، يسردون فيها التحديات التي واجهتها الشركة خلال فترة غيابه. وبين موظفين يجلسون على الدرج والأرض، وآخرين يتابعون من طوكيو وهونغ كونغ، استعرض فصاحته المعهودة، بحسب عدد من الحاضرين الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم.
وقال وفقاً لنص الخطاب الذي اطلعت عليه بلومبرغ “التكنولوجيا ليست مجرد غزو للنجوم والمحيطات، بل هي الحفاظ على الشرارة التي تسكننا جميعاً”.
كما تناول في كلمته الدور المحوري لمنصة “علي بابا” السحابية والرقائق الإلكترونية المطوّرة داخلياً المعروفة بـ”T-Head”، إلى جانب سلسلة نماذج الذكاء الاصطناعي “كوين” (Qwen)، مشيراً إلى أنه يتلقى آخر المستجدات بشأنها يومياً. وخرج بعض الحاضرين من اللقاء بشعور من الحماسة والإلهام، كما لو أنهم شهدوا انطلاقة شركة ناشئة في يومها الأول.
قطعت “علي بابا” شوطاً طويلاً منذ أن أسسها “ما” عام 1999 بجمعه 80 ألف دولار من 80 مستثمراً لإطلاق منصة إلكترونية. ففي عام 2014، دخلت التاريخ بأكبر طرح عام أولي آنذاك بقيمة 25 مليار دولار، قبل أن تواصل صعودها حيث تجاوزت قيمتها السوقية 800 مليار دولار. غير أن خلاف “ما” مع الهيئات الناظمة، إلى جانب التداعيات الاقتصادية للجائحة، أدى إلى انهيار حاد في سهم الشركة.
تركيز على الذكاء الاصطناعي
في سعي “ما” لإعادة علي بابا” إلى سابق مجدها، يراهن على وجوه مألوفة مثل إيدي وو وجو تساي، إلى جانب النجم الصاعد جيانغ فان. إذ يُنظر إلى وو كشخصية دائمة لا انتقالية، وتمنحه خلفيته التقنية موقعاً مثالياً لقيادة المرحلة المقبلة، خصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي، بحسب أشخاص مطلعين. أما تساي، فيشغل منصب رئيس مجلس الإدارة ويُعد الحليف الأقرب لـ”ما” داخل المجلس، فيما أُوكلت إلى جيانغ مهمّة إدارة منظومة التجارة الإلكترونية بحلتها الجديدة، والتي تمتد اليوم من سنغافورة إلى إسطنبول.
وقال في-سيرن لينغ، المدير العام في “يونيون بانكير بريفيه” (Union Bancaire Privée): “من الواضح أن (علي بابا) في أيدٍ أمينة بعودة روادها الأوائل مثل إيدي، جو، وجيانغ فان. لقد أعادت تركيزها على التكنولوجيا وأعمالها الأساسية عبر استثمارات منضبطة، ويبدو أنها تدخل الآن مرحلة جني الثمار”.
اقرأ أيضاً: “آنت” المدعومة من جاك ما تكشف عن أول روبوتاتها الشبيهة بالبشر
يتولى وو قيادة أولوية الشركة، المتمثلة بتطوير الذكاء الاصطناعي العام (AGI). وفي فبراير، أعلنت “علي بابا” عزمها إنفاق أكثر من 380 مليار يوان خلال السنوات الثلاث المقبلة على الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية السحابية.
ورغم أن تحقيق أرباح واسعة من الذكاء الاصطناعي لا يزال هدفاً بعيد المدى، تمكنت الشركة في أغسطس من تحقيق نمو بنسبة 26% في إيرادات الحوسبة السحابية – وهو أسرع معدل توسع فصلي منذ سنوات. وقد ساعد ذلك في رفع سهم الشركة بنسبة 88% منذ بداية العام حتى إغلاق الاثنين، رغم أن قيمتها السوقية البالغة 380 مليار دولار لا تزال أقل من نصف ذروتها السابقة.
تأثير على التجارة الإلكترونية
إلى جانب الذكاء الاصطناعي، يواصل جاك ما ممارسة التأثير على قطاع التجارة الإلكترونية الأساسي الذي لا يزال يشكل المصدر الأكبر لإيرادات “علي بابا”. ففي 2023، وبحسب شخص مقرّب من “ما”، دفعه تراجع الحصة السوقية للشركة لدعم إزاحة الرئيس التنفيذي آنذاك دانيال تشانغ. وفي العام نفسه، فاجأ ما الموظفين برسائل نشرها على منتدى داخلي، دعا فيها إلى “تصحيح المسار”، في وقت كانت شركة “بي دي دي هولدينغز” (PDD Holdings) الناشئة على وشك تجاوز “علي بابا” من حيث القيمة السوقية، وهو ما حدث لاحقاً بالفعل.
ولا تزال “علي بابا” تتعافى من سلسلة قرارات خاطئة اتُخذت في عهد تشانغ الذي ضخّ، بمباركة “ما”، مليارات اليوانات في سلاسل “هايبرماركت” ضمن رهان لم يكن في محله على اتساع رقعة الاستهلاك في الصين. وخلال فترة ولايته، قسّم تشانغ “علي بابا” إلى ست وحدات مستقلة، من بينها الحوسبة السحابية والخدمات اللوجستية، ومنح كل وحدة حرية السعي لإدراجها في سوق الأسهم. لكن هذه الخطط أُرجئت لاحقاً بسبب تقلبات السوق.
ولم تستجب شركة “فيرستريد كابيتال” (Firstred Capital) التي انتقل إليها تشانغ بعد مغادرته “علي بابا” على طلب التعليق ورفضت مشاركة معلومات الاتصال الخاصة به.
وقال دنكن كلارك، مؤلف كتاب Alibaba: The House That Jack Ma Built “يمتلك جاك سلطة معنوية داخل الشركة تتيح له اتخاذ قرارات مفصلية، وانتقاد المدراء أو الاستراتيجيات بشكل مباشر أو غير مباشر عندما يرى أن الاتجاه خاطئ. هو ليس مديراً تنفيذياً يتابع التفاصيل اليومية، لكن كلمته أو حتى انزعاجه يمكن أن يُعبَّر عنه بطريقة تدفع الشركة إلى القيام بتغييرات”.
استبعاد تولي ما منصباً رسمياً
أُوكلت إلى جيانغ فان مهمة إدارة إمبراطورية “علي بابا” للتجارة الإلكترونية بحلة موحدة أكثر، حيث يشرف بشكل مباشر على تنسيق عمليات توصيل الطعام وحجوزات الفنادق والخدمات اللوجستية. ويُعد جيانغ، الذي بدأ مسيرته كمهندس برمجيات، من بين نخبة من التنفيذيين الذين تلقوا توجيهاً شخصياً من جاك ما، وفقاً لأشخاص مطلعين. ورغم استبعاده في عام 2020 من الفريق القيادي الأساسي الذي يشارك في تعيينات مجلس الإدارة على خلفية فضيحة آنذاك، إلا أنه أعيد إلى منصبه هذا العام.
في حين عززت عودة “ما” الثقة داخلياً في توجّه الشركة، إلا أنها حملت معها بعض التحديات أيضاً. فحضوره المتكرر إلى مقر “علي بابا” أربك الهيكل الإداري، إذ بات بعض الموظفين يرونه المرجعية العليا في اتخاذ القرار، بحسب الأشخاص المطلعين، وذلك على الرغم من عدم شغله أي منصب رسمي وابتعاده عن التفاصيل التشغيلية اليومية.
بالنسبة للبعض، تبدو عودة جاك ما بمثابة محاولة أخيرة من أحد مؤسسي الجيل الأول للتكنولوجيا في الصين لاستعادة إرثه. وكغيره من موظفي “علي بابا” الأوائل، تبنّى اسماً مستعاراً مستلهماً من أساطير الكونغ فو، وكان يشبّه المسار الريادي برحلة بطل أسطوري يسعى لتجاوز التحديات.
“علي بابا” تنادي جاك ما
قال تشن ويشينغ، مؤسس تطبيق النقل “كوايدي داتشه” (Kuaidi Dache) “يبدو أن جاك ما بات مقتنعاً بأن الوقت قد حان للخروج من عزلته وترك بصمته من خلال هزيمة ’ميتوان‘. إنه يعيش في وهم ملحمته الخاصة في عالم الكونغ فو”.
رغم استبعاد عودة ما إلى “علي بابا” في منصب رسمي، إلا أنه يرتدي الآن بطاقة دخول الشركة أينما تنقل داخل الحرم الرئيسي، في إشارة فسّرها الموظفون على أنها إعلان غير مباشر عن عودته إلى الساحة.
عندما سلّم “ما” القيادة إلى دانيال تشانغ، قال ما لوسائل الإعلام الرسمية الصينية “التقاعد لا يعني أنني غادرت (علي بابا). إذا نادتني الشركة، سأكون دائماً حاضراً”.
المصدر : الشرق بلومبرج