مرت خمس سنوات على “إنجاز” بريكست، ولا يزال الناخبون والسياسيون على حد سواء يحسبون الكلفة التي ترتبت عليه.

صوت البريطانيون لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي بنسبة 52 في المئة في مقابل 48 في المئة عام 2016، وذلك في استفتاء نادر حملت نتيجته رئيس الوزراء ديفيد كاميرون على الاستقالة. ثم انسحبت المملكة المتحدة رسمياً من الاتحاد الأوروبي في الـ31 من يناير (كانون الثاني) 2020، وتلت ذلك فترة انتقالية استمرت حتى يناير 2021.

وعد مؤيدو بريكست بعصر جديد من السيادة البريطانية وبقمع الهجرة وباستعادة مبلغ كثيراً ما جرى التنديد به، وقدره “350 مليون جنيه استرليني (435 مليون دولار) في الأسبوع”، سيحول إلى صالح هيئة الخدمات الصحية الوطنية بدلاً من الاتحاد الأوروبي.

لكن بعد نصف عقد من الزمن، وبمقاييس عديدة، يبدو أن بريكست لم يؤت ثماره.

لا تزال كلفة بريكست قيد التحديد، لكن هيئة الرقابة الحكومية ذات الصلة تقدر أن الاقتصاد سيتضرر بنسبة 15 في المئة، بسبب انحسار التجارة في الأجل البعيد، في حين يشير خبراء إلى أن إنتاج المملكة المتحدة يخسر 100 مليار جنيه استرليني من الناتج كل عام.

منذ مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وصلت الهجرة إلى أعلى مستوياتها منذ بدء وضع السجلات المعنية، في الوقت نفسه تواجه قطاعات رئيسة نقصاً في الموظفين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعتقد ما يقرب من ستة من كل 10 بريطانيين (59 في المئة) أن مسار بريكست سيئ إلى حد كبير أو سيئ للغاية، ويعتقد 12 في المئة فقط أنه [يسير] على ما يرام، وفق استطلاع أجرته “يوغوف” في أكتوبر (تشرين الأول).

قال الخبير التجاري البريطاني ديفيد هينيغ لصحيفة “اندبندنت”: “تفصل حواجز تجارية كبيرة الآن المملكة المتحدة عن البلدان المجاورة لها، هذا أمر يجب أن نتعايش معه. لن يقيض لنا أن ننساه، ستقع مشكلات باستمرار”.

أما الخبير الاقتصادي المتفائل ببريكست جوليان جيسوب، الزميل في معهد الشؤون الاقتصادية، فرأى أن بريكست جعل من الصعب أو “المستحيل” على الشركات الصغيرة التكيف مع المستجدات الاقتصادية.

وقال لصحيفة “اندبندنت”: “لا شك في أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي رتب بعض الآثار السلبية في الاقتصاد، ولاسيما من خلال تقليص النشاط التجاري، ونقص الاستثمار في الأعمال، واضطرابات في أسواق العمل [نقص اليد العاملة وأسواق التصريف]”.

لكنه أضاف أن “العبء الإجمالي الذي ترتب على الصادرات والواردات، كان أقل بكثير مما كان متوقعاً”.

في المقابل قال نائب رئيس الوزراء السابق اللورد هيسلتين إن بريكست يبدو بعد مرور خمس سنوات تقريباً على تفعيله “كارثة تاريخية”.

وأضاف: “لقد دمر دور بريطانيا القيادي في أوروبا في حين كانت الحاجة (إلى هذا الدور) ماسة، وأغلق أبواب الفرص أمام الجيل الأصغر سناً للحصول على المزايا الأوروبية، وحرم القاعدة الصناعية البريطانية من الوصول إلى البحوث والاستفادة من السياسات الأوروبية. بات اقتصادنا في وضع أسوأ كثيراً، بسبب بريكست ولا يمكن لسلطة محترمة أن تنكر ذلك. أعتقد أن الشعب البريطاني يعرف أنه خدع، ويقاس الخداع في تراجع مستويات المعيشة”.

في ما يأتي، نقف على مدى الخسائر بالأرقام.

طلاق مكلف

تشير أحدث تقديرات وزارة المالية إلى أن مجموع كلفة التسوية التي توصلت إليها بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي يبلغ نحو 30.2 مليار جنيه استرليني، ولا يشمل الرقم أي تقديرات للأموال المهدورة [الخسائر] بسبب الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

واعتباراً من بداية عام 2024، كان الجزء الأكبر من كلفة هذه التسوية (23.8 مليار جنيه استرليني) سدد بالفعل، ولا يزال هناك ما يقرب من 6.4 مليار جنيه استرليني يجب تسديدها إلى الاتحاد الأوروبي عن عام 2024 وما بعده.

لم تنشر الحكومة المبلغ المدفوع حتى نهاية عام 2024، ​لكن هذه الكلفة لا تقارن بالخسائر المتوقعة من مغادرة الاتحاد الأوروبي على صعيد كل من الناتج المحلي الإجمالي والتجارة.

وقال متحدث باسم الحكومة: “من المهم أن ننظر إلى المستقبل وليس إلى الماضي، وألا نعيد فتح باب الانقسامات في شأن بريكست، وأن نجعل بريكست ينجح لصالح الشعب البريطاني”.

“لهذا السبب نعيد ضبط العلاقة مع أصدقائنا الأوروبيين لتعزيز العلاقات، وتأمين اتفاق أمني واسع النطاق، ومعالجة الحواجز القائمة التي تعرقل التجارة”.

 

لكن الخبير التجاري السيد هينيغ قال لصحيفة “اندبندنت” إن المملكة المتحدة لم تتجاوز بريكست بعد: “أخشى أن يتواصل مسلسل بريكست، لا حلول للمسائل المتصلة به، لا يمكننا وضعها كلها وراءنا”.

ما الكلفة الحقيقية إذاً المترتبة على بريكست حتى الآن؟

تزامن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع تفشي جائحة فيروس كورونا والإغلاقات التي ترتبت عليه، وذلك اعتباراً من مارس (آذار) 2020، مما أثر في الاقتصادات حول العالم.

وقال الخبير الاقتصادي في معهد الشؤون الاقتصادية السيد جيسوب إن الحكم على تكاليف بريكست أو مزاياه البعيدة الأجل لا يزال سابقاً لأوانه، وأضاف: “على المستوى الكلي، من المستحيل فصل أثر بريكست عن الصدمات الأخرى، ولاسيما الجائحة وأزمة الطاقة. بالنسبة إلى بريكست وحده، أقدر أن اقتصاد المملكة المتحدة بات الآن أصغر بنحو واحد في المئة مقارنة بالحجم الذي كان سيبلغه في ظروف مختلفة”.

ومع ذلك كان ناتج المملكة المتحدة المحلي الإجمالي الأكثر تضرراً مقارنة بالمؤشرات المقابلة لدى البلدان الأعضاء الأخرى في مجموعة السبع في ذلك الوقت، لقد انخفض بنسبة 10.3 في المئة عام 2020.

وعام 2023 قدرت وكالة “بلومبرغ إيكونوميكس” خسائر ناتج المملكة المتحدة السنوية، بسبب مغادرة البلاد الاتحاد الأوروبي بـ100 مليار جنيه استرليني.

وكتب الاقتصاديان آنا أندرادي ودان هانسون قائلين إن المملكة المتحدة ألحقت “أذى ذاتي اقتصادي عندما صوتت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي”، إذ بات الناتج المحلي الإجمالي يقل بنسبة أربعة في المئة عما كان سيسجله من دون بريكست.

وفي أحدث توقعاته إلى جانب تقييمه لموازنة عام 2024 الأخيرة، قدر مكتب مسؤولية الموازنة أن تجارة المملكة المتحدة ستتكبد خسارة بنسبة 15 في المئة في الأجل البعيد نتيجة لبريكست.

وأشار المكتب، وهو هيئة مستقلة للرقابة المالية، إلى “ضعف في نمو الواردات والصادرات في الأجل المتوسط، [مما] يعكس جزئياً أثر بريكست المستمر”.

إلى ذلك، يدعو الرئيس التنفيذي لـ”الحركة الأوروبية في المملكة المتحدة” السير نيك هارفي، وهي مؤسسة بحثية، إلى إبرام شراكة أوثق مع أوروبا بغرض معالجة بعض الأضرار الاقتصادية الناجمة عن بريكست.

وقال لصحيفة “اندبندنت”: “أدى خروج المملكة المتحدة من السوق الأوروبية الموحدة إلى الآن إلى إلحاق ضرر بالاقتصاد البريطاني مقدر بأكثر من خمسة في المئة، مما يتسبب في عجز سنوي في المالية العامة للخزانة يقترب من 45 مليار جنيه استرليني، وهذا يعادل نحو ثلث عوائد ضريبة الدخل الأساسية”.

وأضاف: “يقتضي ازدهارنا وأمننا في المستقبل عقد شراكة أوثق بكثير مع أوروبا، تسير إجراءات ‘إعادة الضبط’ التي تنفذها الحكومة في الاتجاه الصحيح، لكن الحكومة بحاجة إلى المضي أبعد من ذلك بكثير وأسرع من ذلك بكثير إذا قيض لنا أن نبني مستقبلاً أكثر إشراقاً”.

النتائج في التجارة

هذا وبينت دراسة حديثة أعدها مركز الأداء الاقتصادي التابع لكلية لندن للاقتصاد أن قيمة صادرات المنتجات من المملكة المتحدة انخفضت بمقدار 27 مليار جنيه استرليني عام 2022 وحده نتيجة لبريكست.

وتخلص الدراسة خصوصاً إلى أن اتفاق التجارة والتعاون المبرم بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي بدأ العمل به في يناير 2021، خفض صادرات المنتجات البريطانية (باستثناء الخدمات) إلى مختلف أنحاء العالم بنسبة 6.4 في المئة، بسبب انخفاض هذه الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 13.2 في المئة.

وقال معدو الورقة إن التقلص الذي انتاب تجارة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بعد بريكست يعود لـ”إقامة حواجز تجارية جديدة بموجب اتفاق التجارة والتعاون، وليس لعدم اليقين الذي شاب عملية انسحاب بريطانيا من الكتلة”.

وتشير الدراسة إلى أن 16 ألفاً و400 شركة، نحو 14 في المئة من المؤسسات البريطانية المصدرة، توقفت عن التصدير إلى الاتحاد الأوروبي بسبب القواعد التجارية التي نجمت عن بريكست.

وعلى رغم أن توماس سامبسون، المعد المشارك للدراسة وأستاذ الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد، يقول إن الضربة التي تكبدتها التجارة كانت “أضعف من المتوقع”، نعت اتفاق التجارة والتعاون بأنه “كارثة لصغار المصدرين”.

وتعود بعض أسباب ذلك على الأرجح لتفاقم تعقيدات التنظيمات الجديدة الخاصة بالتصدير، التي تكون الشركات الأكبر مجهزة في صورة أفضل لاستيعابها. يذكر أن رئيس مجلس الإدارة في “ماركس أند سبنسر” قال إن المؤسسة المتخصصة بالبيع بالتجزئة اضطرت إلى استئجار مستودع لمجرد تخزين المعاملات الورقية التي ترتب إجراؤها عن التنظيمات الجديدة.

أما السيد هينيغ، مدير “مشروع السياسة التجارية في المملكة المتحدة”، فقال إن الأرقام تظهر أن خسارة بريطانيا في التجارة أكبر من خسارة الاتحاد الأوروبي.

“لقد أثر بريكست سلباً في صادراتنا إلى الاتحاد الأوروبي، أكثر مما أثر في وارداتنا منه. كان عثور المستوردين الأوروبيين على موردين بديلين أسهل من عثور المستوردين البريطانيين على موردين يحلون محل الموردين الأوروبيين”.

والقطاعات التجارية الأكثر تضرراً هي قطاعات الأغذية والزراعة وصيد الأسماك.

في صورة عامة تتكبد صادرات الأغذية إلى الاتحاد الأوروبي خسارة يبلغ متوسط قيمتها 2.8 مليار جنيه استرليني سنوياً منذ نهاية الفترة الانتقالية، بحسب مركز السياسة التجارية الشاملة.

ولا يحمل هذا الانخفاض البالغ 16 في المئة في متوسط قيمة الصادرات الغذائية والزراعية “أية علامات جديدة على استعادته مستوياته السابقة”، وفق تقرير أعده المركز، وهو انخفاض ينجم عن ضوابط حدودية وعمليات إدارية مرهقة.

على جانب الإنتاج، لم يعد المزارعون يستفيدون من سياسة الاتحاد الأوروبي الزراعية المشتركة، ويمثل ذلك خسارة كبيرة نظراً إلى التخفيضات التي التزمت بها المملكة المتحدة على الإعانات المخصصة للمزارعين.

ويقدر الحزب الديمقراطي الليبرالي أن الدعم الزراعي انخفض بنسبة 20 في المئة، محتسباً بالقيمة الحقيقية منذ عام 2015، وأن القطاع يعاني في توظيف العاملين الضروريين لسد النقص.

في قطاع الألبان اضطر واحد من كل 12 مزارعاً إلى خفض الإنتاج عام 2024، بحسب استطلاع أجرته شركة “آرلا للأغذية – المملكة المتحدة”، إذ قال 56 في المئة من منتجي الألبان إن توظيف العاملين بات أصعب بعد بريكست وكوفيد.

ويشعر المستهلكون أيضاً بتداعيات هذه الضغوط، ذلك أن معدل التضخم المرتفع الذي أصاب أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية كان سيقل بنسبة ثمانية في المئة لو لم يحصل بريكست، وفق دراسة أخرى أعدتها كلية لندن للاقتصاد عام 2023.

ويفيد معدو الورقة بأن “أدلة قوية على أن بريكست هو سبب هذه الآثار”، بعدما استثنوا الضغوط الناجمة عن كوفيد [فيروس كورونا] والحرب في أوكرانيا.

يشار إلى أن حزب استقلال المملكة المتحدة، الذي يتزعمه نايجل فاراج، أطلق من ضمن حملته المناهضة للاتحاد الأوروبي سلسلة ملصقات عام 2015، تشير إلى أن الاتحاد “دمر” قطاع صيد الأسماك في المملكة المتحدة.

ومع ذلك ليس صيادو الأسماك إلى حد كبير راضين عن شروط ما بعد بريكست المنصوص عليها في اتفاق التجارة والتعاون، في ضوء جمود الحوار الفرنسي – البريطاني في هذا الصدد، وقيود فرنسا المستمرة على صيادي الأسماك البريطانيين الراغبين في العمل في مياهها.

وانخفضت صادرات المأكولات البحرية السنوية بمقدار الربع منذ عام 2019، وذلك من 454 ألف طن إلى 336 ألف طن عام 2023. وهذا يمثل انخفاضاً في العوائد قدره 283 مليون جنيه استرليني، بحسب أحدث الإحصاءات التجارية في المملكة المتحدة.

وفي ديسمبر (كانون الأول)، أبرم رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر اتفاقاً جديداً لصيد الأسماك مع الاتحاد الأوروبي يدر 360 مليون جنيه استرليني، مما سيزيد من فرص صيد الأسماك بمقدار 15 ألف طن (11 في المئة).

وكانت إحدى حجج الحملة المؤيدة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، التي ظهرت على ملصقات و”حافلة بريكست” الترويجية، شددت على أن بريطانيا كانت تدفع 350 مليون جنيه استرليني أسبوعياً إلى الاتحاد الأوروبي، وهو مبلغ كان من الأفضل إنفاقه بدلاً من ذلك على هيئة الخدمات الصحية الوطنية.

من الصعب التأكد مما إذا كان هذا المبلغ النقدي، الذي سيصل مجمله إلى نحو 18.2 مليار جنيه استرليني سنوياً، يحول إلى الهيئة بالفعل.

ذلك أن موازنة الهيئة المخطط لها خلال السنتين الماليتين 2020-2021 و2021-2022، بعد استبعاد التمويل الطارئ بسبب كوفيد، لم تشهد أي ارتفاع يذكر.

لكن بدءاً من السنة المالية 2022-2023، قفزت موازنة الهيئة الأساسية من 162.3 مليار جنيه استرليني إلى 185.4 مليار.

وتظل هذه الموازنة أقل من موازنة السنة المالية السابقة عند احتساب الإنفاق الإضافي على الهيئة، الذي تطلبه [مواجهة فيروس] كوفيد.

وعام 2023 زعم مايكل غوف، الناشط في الحملة المؤيدة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، أن بريكست “حقق” وعده بتوفير 350 مليون جنيه استرليني إلى هيئة الخدمات الصحية الوطنية، على رغم عدم تقديم أي دليل على ذلك.

ونظراً إلى تداخل تداعيات كوفيد وبريكست، من الصعب جداً تحديد ما إذا كانت الأموال التي جرى توفيرها من مغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي أنفقت حقاً على الهيئة، وما الدوافع التي وجهت قرارات التمويل.

بعد استفتاء عام 2016، أعلن السيد فاراج على الفور أنه غير قادر على أن يقطع وعداً بأن الأموال التي كانت تدفع إلى الاتحاد الأوروبي ستنفق بدلاً من ذلك على الهيئة، قائلاً: “لا أستطيع [أن أضمن ذلك]، ولم أكن لأزعم ذلك قط، كان هذا الزعم أحد الأخطاء التي أعتقد أن الحملة المؤيدة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ارتكبتها”.

الهجرة: وعود فاشلة

تمثل أحد المبادئ الرئيسة للحملة المؤيدة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في الحد من الهجرة، في رسالة مفتوحة إلى السيد كاميرون نشرتها صحيفة “الصنداي تايمز” عام 2016، كتب بوريس جونسون والسيد غوف يقولان: “من الواضح أن الوعد [بالحد من صافي الهجرة (الفارق بين البريطانيين المغادرين في صورة دائمة والأجانب الوافدين بغرض الاستقرار)]، لا يمكن تحقيقه ما دام أن المملكة المتحدة عضو في الاتحاد الأوروبي وأن الفشل في الوفاء بهذا الوعد يقوض ثقة الرأي العام في العمل السياسي”.

لكن مغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي لم يكن لها الأثر المقصود في الهجرة البحتة.

على رغم مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي عام 2020، ظلت حرية تنقل الناس سارية حتى يناير 2021. ومنذ ذلك الحين، تعاظم صافي الهجرة والهجرة الوافدة.

لقد دخل ما لا يقل عن 3.6 مليون مهاجر إلى المملكة المتحدة منذ بريكست (بين يونيو [حزيران] 2021 ويونيو 2024، وفق أحدث البيانات المتاحة)، إذ سجلت الهجرة الصافية 2.3 مليون شخص خلال تلك الفترة.

وفي غضون الأشهر الـ12 الأولى من تطبيق قواعد الهجرة المرافقة لبريكست (حتى ديسمبر 2021)، قفزت [نسب] صافي الهجرة إلى 484 ألف شخص، هذا رقم أعلى من أي مستوى مسجل في العقد السابق من الزمن.

ويتعاظم هذا الاتجاه إلى حد كبير، إذ أظهرت أرقام حكومية منقحة للسنة المنتهية في يونيو 2023 مستويات قياسية من الهجرة الصافية بلغت 906 آلاف شخص.

وفي السنوات الأربع التي سبقت بريكست، كانت الهجرة الصافية تعد عدداً أكبر من المهاجرين الآتين من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مقارنة بالبلدان غير الأعضاء في الكتلة.

ومنذ عام 2019 تظهر البيانات أن غالبية الهجرة الصافية إلى المملكة المتحدة تتأتى من مهاجرين آتين من بلدان تقع خارج الاتحاد الأوروبي، إذ بلغ الرقم 662 ألفاً عام 2023 وحده.

وفي الواقع منذ عام 2021 عندما دخلت القواعد المرافقة لبريكست حيز التنفيذ، تسجل الهجرة الصافية من الاتحاد الأوروبي رقماً سلبياً، وهذا يعني أن مواطني بلدان الاتحاد الأوروبي الذين يغادرون المملكة المتحدة يفوق عدد مواطنيهم الذين يأتون ليستقروا في البلاد.

وبين الاستفتاء على بريكست عام 2016 ونهاية العمل بحرية التنقل عام 2021، هاجر ما يقرب من مليون و227 ألفاً و800 شخص من مواطني بلدان الاتحاد الأوروبي من المملكة المتحدة. وهذا ازدياد بنسبة 58 في المئة مقارنة بفترة السنوات الخمس السابقة، بحسب تحليل للأرقام وضعه “مرصد الهجرة”.

وقال السيد جيسوب، الخبير الاقتصادي في معهد الشؤون الاقتصادية، إن “بعض العاملين استفادوا من ارتفاع الأجور، إذ أصبحت المملكة المتحدة أقل اعتماداً على العمالة المتدنية الأجر المهاجرة من الاتحاد الأوروبي”.

يمكن القول إن بريكست كانت الغاية المقصودة منه الحد من المهاجرين الآتين من الاتحاد الأوروبي، لكن ظاهرة الهجرة الأوسع تفاقمت في الآن نفسه.

وتشمل البلدان الأكثر تصديراً للمهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي الهند ونيجيريا وباكستان والصين وزيمبابوي، وفق أحدث أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية.

ونتيجة لبريكست، فقد مواطنو المملكة المتحدة حرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي.

وانخفض عدد الطلاب من حملة جنسيات بلدان الاتحاد الأوروبي الملتحقين بجامعات المملكة المتحدة من نحو 147 ألفاً و920 شخصاً إلى 95 ألفاً و505 أشخاص بين عامي 2019 و2022، بحسب وكالة إحصاءات التعليم العالي.

ودفع الطلاب الآتون من الاتحاد الأوروبي سابقاً الرسوم المخصصة للبريطانيين في مقابل الحصول على تعليم عال، أي نحو 9 آلاف جنيه استرليني سنوياً، والآن يدفع الطلاب الدوليون كلهم (بمن فيهم الآتون من الاتحاد الأوروبي) رسوماً أعلى، يمكن أن تتراوح بين 35 ألفاً و260 جنيهاً استرلينياً و59 ألفاً و260 سنوياً في بعض الجامعات مثل جامعة أوكسفورد.

لا يتوفر رقم مجمل متوسط للطلاب البريطانيين المسجلين في جامعات الاتحاد الأوروبي، بيد أن الطلاب البريطانيين لم يعد في مقدورهم الاستفادة من الرسوم المخصصة لطلاب الاتحاد الأوروبي في هذه المؤسسات، علماً أن بعض الجامعات مجانية لطلاب الاتحاد الأوروبي.

السيادة البريطانية

على رغم عدم تحقيق بريكست توقعات كثيرة كانت معلقة عليه، أتاح ترك المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي لها مزيداً من المرونة في وضع القوانين.

تعد قواعد ضريبة القيمة المضافة أحد المجالات الرئيسة التي يصح فيها ذلك.

يعتمد الاتحاد الأوروبي حداً أدنى من القيود الخاصة بضريبة القيمة المضافة ينطبق على البلدان الأعضاء كلها، مع وجود بعض الإعفاءات. عندما كانت بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي لم تستطع خفض ضريبة القيمة المضافة على التكنولوجيات الملائمة [الصديقة] للبيئة مثل المضخات الحرارية، على رغم أن الاتحاد الأوروبي خفض منذ ذلك الحين معدلات ضريبة القيمة المضافة المفروضة على الألواح الشمسية.

ولم يكن من الممكن أيضاً خفض الضريبة السيئة السمعة المطبقة على الفوط الصحية المخصصة للنساء خلال انتساب المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي منذ ذلك الحين، حذا الاتحاد الأوروبي حذو بريطانيا وسمح للبلدان الأعضاء برفع ضرائب القيمة المضافة عن المنتجات [الفوط] الصحية.

كذلك سهل بريكست اتخاذ حزب العمال الحاكم الخطوة الأخيرة المثيرة للجدل والمتعلقة بفرض ضريبة القيمة المضافة على رسوم المدارس الخاصة، ذلك أن قوانين الاتحاد الأوروبي تصنف التعليم نشاطاً معفياً من هذه الضريبة.

قال جايكوب ريس-موغ، الوزير المحافظ السابق المؤيد لبريكست، إن السنوات الخمس الماضية أظهرت أن “الاتحاد الأوروبي يغرق بسرعة في مستنقع تنظيمي نحن على وشك تجنبه، ليس بفضل هذه الحكومة”.

وقالت النائبة العمالية ستيلا كريسي، رئيسة “الحركة العمالية من أجل أوروبا”: “ليس الجمهور أحمقاً، هو يعرف أن لا مزايا ناجمة عن بريكست مثلما أنه لا أسنان للدجاجة. ما يحتاج إليه الآن هو حلول واقعية للمشكلات التي يتسبب بها بريكست، مثل إبرام اتفاق يسهل تنقل الشباب أو الانضمام إلى اتفاق عموم أوروبا والبحر المتوسط”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية