
تحولت الحركة التشكيلية في الإمارات خلال العقود الأخيرة إلى سردية فنية متكاملة، تعبّر عن الهوية الوطنية، وعلاقة الإنسان بمكانه وزمانه، وإذا كان الفن في بداياته منصباً على تسجيل ملامح المشهد المحلي من بيوت طينية وسفن خشبية وصحراء ممتدة، فإنه اليوم بات أكثر قدرة على المزج بين واقعية البدايات ورمزية المعاصرة، وهذا التطور كان ثمرة جيل من الفنانين والرواد الذين آمنوا بأن اللوحة إنما هي في جوهرها وسيلة للتعبير عن الذات والهوية، وللانفتاح على الآخر في الوقت ذاته.
وسط هذه المسيرة يبرز اسم الفنان عبد القادر الريس الذي يعد من العلامات البارزة في التشكيل الإماراتي، فهو رسام استطاع بحرفية أن يسجل تفاصيل المكان، وتحولات المجتمع الإماراتي برمته منذ السبعينيات حتى اليوم، واستطاع الريس أن يبني أسلوباً بصرياً خاصاً به، يوازن بين الحنين العاطفي إلى الماضي والانفتاح الفكري والجمالي على التجريد المعاصر، وكان ميالاً في بداياته إلى الواقعية التي برزت في تصوير البيوت القديمة والمراكب والنوافذ التقليدية، لكنه مع الزمن طور لغته البصرية لتصبح أكثر عمقاً، مستنداً إلى الخطوط الهندسية والزخرفية وأسلوب التكوين الذي يمزج ما هو رمزي بما هو وجداني.
*فلسفة
في هذه اللوحة التي نتأملها، يضع الفنان مركباً وحيداً في مركز التكوين، فيبدو المشهد الفني كأنه لحظة عالقة بين زمنين مختلفين، فالنصف العلوي يغمره اللون الأصفر بمشتقاته البرتقالية والذهبية، وهو اختيار يشي بالحياة والشمس وضوء النهار، وأما النصف السفلي فيتمدد فيه الأزرق الغامق مع درجات البنفسجي، لتصل الرؤية بالمشاهد إلى عالم آخر أكثر هدوءاً وأقرب إلى الليل أو البحر الممتد في سكونه، ولعل هذا التقسيم اللوني ينطوي على رسالة فلسفية، بحيث إنه يمثل التناقض الأزلي بين النور والعتمة، وبين الحلم والواقع.
يمكن اعتبار المركب في هذا السياق رمزاً للتنقل بين ضفتين، ضفة ماض مشبع بالذكريات والحنين، ومستقبل مليء بالاحتمالات والمفاجآت، وكما هو معروف في الإمارات فإن البحر يمثل رافعة أساسية للهوية، فمنه كانت تجيء الثروات باللؤلؤ والتجارة، ومنه أيضاً بدأت علاقة الإماراتيين بالعالم الأوسع، لذلك، عندما يستحضر الريس صورة المركب، فإنه يستدعي ذاكرة جمعية راسخة، لكنه يعيد صياغتها بمنظور فني حديث يتجاوز حدود المكان والزمان.
*تأويل
يوظف الفنان الريس في هذه اللوحة تقنية الألوان المائية الشفافة، التي بدورها تسمح بظهور طبقات متداخلة، في رمزية بصرية تذكرنا بحركة الموج أو بحركة الروح، وبينما يملأ الخلفية بمربعات وأشكال هندسية صغيرة، فإنه يربط المشهد كله بجذور العمارة المحلية، ولعل الفنان يوظفها كرموز تحمل دلالات تمثل أبواباً ونوافذ خفية، في إشارات إلى الروح وأسرارها، وربما شظايا من ذاكرة الماضي المعماري، أما اللون بدوره فهو يتحرك بعين المشاهد في انسياب يخلق نوعاً من الإيقاع البصري يعكس جدلية الحياة، والمدقق يلاحظ المركب ذاته يبدو شفاف الخطوط، كأنه في حالة عوم أبدي بين الوجود والعدم، ليجعل المشاهد لا يرى لوحة مباشرة، بل تجربة مفتوحة تحتمل مئات التأويلات.
يمكن القول إن ما يميز تجربة الريس الفنية، أن لوحاته لا تحمل معنى جاهزاً، فهي تدعو المتلقي إلى اكتشاف دلالاته ورموزها الخاصة، ورمزية المركب هنا تحتمل عدة تفاسير، إذ قد يكون وسيلة لسرد حكاية شخصية، أو هي رحلة الحياة، أو حتى رمز لفقدان شخص عزيز، أو بحث عن حلم مؤجل، وفي هذا الانفتاح على احتمالات المعنى تكمن الشاعرية الحقيقية التي تجعل أعمال الريس قريبة من روح الإنسان أياً يكن انتماؤه، اللوحة بحد ذاتها تتجاوز تصوير الارث الثقافي للواقع الإماراتي، لتغدو حقيبة محملة بكل الأسئلة الوجودية التي يتقاطع عندها الجميع: من نحن؟ إلى أين نمضي؟ وكيف يمكن أن نتعامل مع ما نتركه خلفنا؟
بالعودة إلى هذه اللوحة التي تجسد مراكب الروح الطوافة بين الضوء والظلمة، ندرك معها أن المكانة الكبيرة التي يحتلها عبد القادر الريس داخل الفن الإماراتي، جاءت بفعل تمكنه من بناء خط فني يزاوج بين الأصالة والحداثة، وبين عمق التراث وجرأة التجريب، ويقدم لنا نموذجاً على إمكانية صون الجذور والانفتاح في الوقت نفسه، لخلق حالة متوازنة تربط بين المكان المحلي والعالم، وبين التكوين الكلاسيكي والتجريد الحداثي.
المصدر : صحيفة الخليج