«أحلام جنوبية»… الذاكرة تعزف ألحان الشعر

«أحلام جنوبية»… الذاكرة تعزف ألحان الشعر

في فضاء الشعر العربي، ظل ارتباط الشاعر بالمكان يمثل علاقة وجودية تشكل جوهر التجربة الشعرية منذ بداياتها الأولى في المعلقات، وحتى تحولات القصيدة الحديثة، فالمكان في الشعر العربي هو كينونة حية تتفاعل مع الوجدان وتعيد إنتاج معنى الوجود، ويتحول المكان في القصيدة إلى بطل فاعل يتماهى معه الشاعر في لحظات الحنين والفقد، ويصبح وسيلة لإعادة بناء الذات والتعبيرعن همومها.

ضمن هذا السياق، يقدم الشاعر الأردني حسن عطية جلنبو في ديوانه «أحلام جنوبية» الصادر عن دائرة الثقافة في الشارقة، نموذجاً متجدداً لحضور المكان في الشعر العربي المعاصر،الديوان الذي جاء في 159 صفحة ويضم 37 قصيدة، يبحر في فضاءات الوجدان والرمز والذاكرة، كما تتجاور في هذا العمل ثنائية الغربة والانتماء، والبعد الزماني عن المكان الأول مع التعلق الروحي به.

*بوابة الحلم

منذ العنوان الأول «أحلام جنوبية» يفتح الشاعر بوابة مزدوجة الدلالة، «الأحلام» بوصفها رمزاً لفضاء الذات وذاكرة الحنين، و«الجنوبية»، بوصفها رمزية المهد والمكان الأول، أو بالأحرى الحالة النفسية المتصلة بالدفء والطفولة، لندرك أن العنوان مدخل إلى عالم من الرموز الكامنة، يصبح فيه «الجنوب» إشارة إلى الانتماء القديم وإلى تلك البقعة التي تستيقظ في الذاكرة كلما هب الحنين أو اشتد الغياب.

يدخل القارئ عالم الديوان من بوابة الحلم، ليجد نفسه في مواجهة ذات تبحث عن خلاصها عبر استعادة المكان، يسأل الشاعر الزمان عن نفسه، ويستحضر أرض الجنوب باعتبارها موطن الطفولة والذاكرة ودفء الأمومة، ولعل الحلم هنا ليس هروباً من الواقع، بقدر ما هو طريقة شعرية لمعانقة الماضي واستعادة صفائه، حيث نجد في قصائده المعنونة بـ«غربة» و«ولأني أحبك» و«وعابرون»، حضور مكثف للذات الشاعرة وهي تحاور غيابها وتسترجع وجوه الأحبة الذين تفرقوا في المنافي، في تجلٍ لغوي متقن في هذه النصوص الشفافة، لتتنفس نصوص الديوان الشجن وتضيء بالحنين دون أن تغرق في انفعال مباشر.

إن جوهر الديوان يرتكز على جدلية العودة والفقد، وهي قلب كل تجربة وجودية في الشعر العربي، الجنوب بالنسبة للشاعر وطن روحي يُستدعى كلما تاهت الذات في الغربة، نجد ذلك في أمثلة كثيرة داخل جنبات الديوان، في قصيدة «ولا خيل عندك» مثلاً، يتبدى الوجع من خلال صورة فردية ناطقة، حيث تتحول الغربة إلى ألم يمس الجميع، وهكذا ينقل الشاعر تجربة النفي الداخلية إلى تجربة حسية وجدانية جماعية، فلا يعود المكان جغرافيا بل يصير مجازاً للحنين الإنساني وللأمكنة الضائعة في النفس.

*وعي إيقاعي

يمتاز أسلوب جلنبو، بمزاوجة فنية دقيقة بين الحس الكلاسيكي ورحابة الحداثة في القصيدة، فهو شاعر يكتب القصيدة العمودية بإيقاع مضبوط، لكنه لا يتخلى عن تحرر القصيدة الحديثة في الإيقاع، وموسيقى القصيدة عنده لا تقوم فقط على الوزن، بل على انسجام الصورة والعبارة، وعلى التكرار الوجداني الذي يمنح النص موسيقاه الداخلية، لذا نجده يستعمل الاستعارة والتشبيه والرمز الطبيعي مثل البحر، الغيم، المطر، ليؤنسن الطبيعة ويجعلها جزءاً من التجربة الذاتية، فالبحر مرآة للذات حين تتأمل اتساعها ووجعها، أما الغيم فهو كيان ناقل للأمل والمطر تطهير للروح.

تتميز لغة الشاعر ببساطة توهم القارئ بيسرها الظاهري، لكنها تخفي وراءها عمقاً دلالياً غنياً، هذه البساطة المضيئة هي التي جعلت شعره قريبا للناس لكنه رغم ذلك، لا يفقد فنية القصيدة وطاقتها الرمزية، ونجده يكتب بوعي إيقاعي متزن، وبقدرة على صياغة المعنى في صور غير مباشرة، تجعل القارئ شريكا في استكمال النص وتأويله، فكل قصيدة تترك مساحة صمت بين الأسطر تصلح للتأمل، وهي المساحة التي تخلق الحوار الحي بين النص والمتلقي، وهذه قدرة مميزة على جعل الشعر تجربة وجدانية مشتركة وليست خطاباً من طرف واحد.

*الحياة الأولى

إلى جانب الحنين الفردي، يبرز في الديوان حضور الأم لترمز للحياة الأولى، إذ يواجه الشاعر فقدها بوصفها جرحاً مفتوحا، يتحول رثاؤه للأم إلى قصيدة كونية في الأمومة والحب، فيستدعي من خلالها معنى البدايات التي اندثرت، ثم نجد في قصائد مثل «أم البيان» و «وعزف منفرد على شاطئ الغربة» تقاطع بين الألم الشخصي مع الحنين الإنساني العام، ويغدو الفقد طريقا للوعي والتفكر.

يمضي الديوان أبعد من العاطفة المباشرة، ليكرس ثقافة البوح التي تعيد للقارئ معنى المشاركة الإنسانية في الحزن، حيث يقلب الشاعر التجربة الفردية إلى تجربة عامة تحمل طابع تنقية النفس، تماماً كما في تقاليد البكاء على الأطلال، غير أن جلنبو يطورها لتغدو أداة للشفاء من الغربة الحديثة، وبهذا المعنى، يمكن القول إن أحلام جنوبية قصائد تنتمي إلى النصوص التي توظف الشعر كمسار للتأمل الوجودي، وتفتح الباب أمام بحث الإنسان الدائم عن المعنى وسط الضجيج.

من زاوية أخرى، يتخذ الحلم في الديوان وظيفة بنائية باعتباره محركا دراميا للنص، فمن خلال الحلم يغدو المكان قابلا للتجدد، يلتقي فيه عالمي الطفولة والحداثة في آن واحد، كما تراوح القصائد في الديوان بين صوت الراوي العارف، وصوت الباحث عن دفء الأمكنة، ما يضفي على النص بعداً سردياً مموهاً يجعل القارئ يعيش رحلة القصيدة كما لو كانت سيرة وجدانية ذاتية.

أسلوب جلنبو يشي بوعي نقدي واضح بتقنيات الكتابة، فهو يحرص على وحدة النص وتماسكه الداخلي، رغم تنوع الموضوعات، فكل قصيدة تشغل موقعاً محدداً ضمن البناء الكلي للديوان، وأمام هذا البناء الشعري المدروس بعناية يدرك القارئ أنه أمام عمل شعري يقيم نظامه الخاص، لا أمام مجموعة نصوص متفرقة، حيث يجمع الشاعر بين إرث القصيدة العربية وقلق الإنسان المعاصر، كأنما يعيد للمكان وظيفته الأولى: أن يكون مرآة لتغير الذات، وشاهداً على عبورها الزمني.

*تجربة

لعل ما يميز تجربة جلنبو أيضاً، وعيه بقدرة اللغة على أن تكون وسيطاً للتصالح مع الذاكرة، فالكلمات في نصوصه تفتح باب الخيال وتعيد ترتيب الماضي في صور جديدة، لذلك تتعدد أصوات القصائد وتتشابك في نسيج واحد من الرموز والإيحاءات، وتتسع لتضم الحبيب والأم ومكان الطفولة والمدينة والغربة في وحدة وجدانية.

وعندما نقرأ في الديوان عناوين مثل: «أول الخمسين» و «وغيمة أيلول» و «وأمنيات معتّقة» و «وأعصر شعراً» حيث تمتزج مراحل الزمن بحكمة تتسرب من بين المفردات، ندرك أننا أمام تجربة شعرية معتقة بالتجارب، في تعدد للأصوات الشعرية ما يمنح الديوان بعداً إنسانياً مفتوحاً، ويجعل القارئ جزءاً من التأويل المستمر للنص.

هذا الديوان «أحلام جنوبية» بما يحمله من عمق وجداني وقدرة لغوية، هو امتداد طبيعي لتقليد الشعر العربي، الذي يجعل من المكان ذاكرة ويجعل من الوجع حكاية، ويغدو المكان فعلا للتأمل والنجاة من قسوة الواقع، وتصبح القصيدة وسيلة لمساءلة الوجود نفسه، فهي مشروع نجاة من ضغوط الحياة، أكثر من كونها مشروعاً فنياً.

*اقتباسات

*ما زال يسكنني الجنوب وهل فتى

مثلي على وجع الجنوب قدير

في غرفة الإنعاش يقبع دفتر

يجثو على صفحاته التعبير

******

*يقول الغريب

لساعي المحطة لا تغلق الباب

قبل امتلاء المقاعد

علّ غريباً جديداً

يجيء

وقد لفظته البلاد

كما لفظتنا

يطل علينا

*هل تذكرين بذاك الركن مقعدنا

والريح بعثرت الأوراق والصحفا

وثار شعرك كالمجنون يصفعني

لأنني لم أشأ للريح أن تقفا

المصدر : صحيفة الخليج