
من ينظر إلى دبي الآن لا يمكن أن يتخيل أو يتصور شكل الإمارة منذ عقود مضت، فما نراه اليوم معجزة اقتصادية لا يمكن فهم حاضرها من دون العودة إلى الركائز المتينة التي أسسها رجال حملوا رؤية استثنائية في زمن كانت فيه الإمكانات محدودة، والتحديات جساماً.
والطموح لا يعرف حدوداً. هنا يأتي اسم المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، في صدارة هؤلاء الرواد، ليس فقط بصفته حاكماً لدبي بدءاً من عام 1958 حتى رحيله عام 1990، بل بصفته المهندس الرئيس والعبقري الاستراتيجي الذي وضع الأسس الاقتصادية التي نقلت دبي من مجتمع يعتمد على الصيد والغوص على اللؤلؤ في بداية حكمه، إلى مركز تجاري واقتصادي إقليمي ودولي مع نهاية عهده.
يعد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، من أبرز القادة المؤسسين في تاريخ دولة الإمارات بشكل عام، وإمارة دبي بشكل خاص، فقد كان صاحب رؤية استثنائية، وكان مخططاً استراتيجياً وقارئاً للمستقبل.
فعندما تولى مقاليد حكم دبي عام 1958، كانت الإمارات تعتمد بشكل شبه كلي على موارد محدودة من الغوص على اللؤلؤ والتجارة المتواضعة، وكانت المنطقة على أعتاب تحولات جيوسياسية واقتصادية ضخمة مع بداية عصر النفط؛ لذلك يجمع المؤرخون لتاريخ دولة الإمارات على أن الإنجازات الاقتصادية للشيخ راشد هي التي وضعت الأسس الصلبة التي قامت عليها دبي المعاصرة، لتصبح مركزاً اقتصادياً عالمياً يثير الإعجاب.
ونجح، طيب الله ثراه، في تحقيق إنجاز مشاريع أقل ما يمكن أن توصف به أنها «سابقة لعصرها»، حيث استطاع أن يرى المستقبل بعيون حاضره، فتمخضت تلك الرؤية عن مشاريع أيقونية شكلت جزءاً من رؤية اقتصادية واضحة ومتكاملة تقوم على الاستباقية والمرونة، فانطلقت دبي خلال عهده في الاستثمار بالبنية التحتية، وخلق بيئة جاذبة للأعمال ورأس المال، حتى حول دبي إلى منصة للتبادل التجاري والخدمي.
وأدرك الشيخ راشد أن الاعتماد على النفط وحده، رغم أهميته، هو استراتيجية غير مستدامة على المدى الطويل، فقد تنضب الآبار أو تنخفض أسعاره؛ لذلك سعى منذ البداية إلى بناء اقتصاد متعدد الركائز يجعل من دبي مركزاً للتجارة والخدمات والاستثمار بغض النظر عن الثروة النفطية.
وآمن الشيخ راشد بن سعيد بأن البنية التحتية المتطورة هي العمود الفقري لأي تنمية اقتصادية؛ لذلك خصص جزءاً كبيراً من أول عائدات النفط لتمويل مشاريع عملاقة غيرت وجه دبي إلى الأبد؛ فقد كانت نظرته استشرافية، حيث أقام مشروعات اعتبرت بعد ذلك «عماد اقتصاد دبي الحديث».
وشجع الشيخ راشد القطاع الخاص المحلي والأجنبي على حد سواء، مؤمناً بأن روح المبادرة والمنافسة هي المحرك الحقيقي للاقتصاد، فقد قام بخلق بيئة أعمال جاذبة، قائمة على الثقة وسهولة ممارسة النشاط التجاري، كما عمل على توفير بيئة مستقرة وآمنة للمستثمرين والتجار، ما شجع على تدفق رؤوس الأموال والكفاءات من جميع أنحاء المنطقة والعالم.
خور دبي
كان الخور هو شريان الحياة التاريخي لدبي، لكنه كان بحاجة إلى تطوير، وقد قام الشيخ راشد بتعميق قناة الخور وتوسعتها في الستينيات، ما سمح للسفن الأكبر حجماً بالدخول، ثم أطلق في عام 1972 مشروع ميناء راشد، الذي أصبح من أكثر الموانئ تطوراً في المنطقة. هذا المشروع لم يؤمّن فقط مستقبل التجارة البحرية لدبي، بل عزز موقعها بوصفها حلقة وصل حيوية بين الشرق والغرب.
ميناء جبل علي
يعد ميناء جبل علي من أجرأ وأبعد مشاريع الشيخ راشد بن سعيد نظراً، فقد بدأ التخطيط له في السبعينيات وافتتح في عام 1979. ولم يكن مجرد ميناء، بل منطقة صناعية وحرة متكاملة، وكان إنشاؤه بمثابة قفزة استراتيجية هائلة.
حيث تم بناؤه بعيداً عن المركز العمراني ليتسع للنمو المستقبلي ويستوعب أحدث ناقلات الحاويات العملاقة. واليوم، أصبح ميناء جبل علي من أكبر الموانئ الاصطناعية وأكثرها نشاطاً في العالم، وهو العمود الفقري للصناعة والتجارة في دبي، وجذب آلاف الشركات العالمية إلى المنطقة الحرة المحيطة به.
حرة جبل علي
ارتبطت منطقة جبل علي الحرة ارتباطاً وثيقاً بالميناء، وأدرك الشيخ راشد بن سعيد الحاجة إلى خلق بيئة استثمارية فريدة لتشجيع الشركات العالمية على إنشاء مقار إقليمية لها. وقدمت «جافزا» حزمة من الحوافز غير المسبوقة آنذاك، مثل:
الإعفاء من ضريبة الدخل لمدة 50 عاماً (قابلة للتجديد)، والملكية الأجنبية الكاملة (100%)، وحرية تحويل رأس المول والأرباح، وعدم وجود قيود على العملة، فلقد كانت «جافزا» نموذجاً رائداً على مستوى العالم، وسرعان ما أصبحت المغناطيس الذي جذب العمالقة الصناعية والتجارية، محققة رؤية الشيخ راشد في جعل دبي مركزاً لوجستياً وصناعياً.
مطار دبي الدولي
إذا كان الخور والميناءان هي شرايين دبي البحرية، فإن مطار دبي الدولي كان جناحيها نحو العالم، فقد افتتح المطار رسمياً عام 1960 بتشجيع ودعم من الشيخ راشد بن سعيد، وتم تطويره وتوسعته بشكل مستمر. وشُيدت محطة جوية جديدة في عام 1971، وتم توسعة المدرجات لاستيعاب الطائرات النفاثة الكبيرة.
رغم سعيه للتنويع، كان الشيخ راشد بن سعيد مدركاً أهمية النفط كونه تمويلاً للنهضة، ففي عام 1966، تم اكتشاف حقل نفط «فاتح» البحري، وبدأ الإنتاج التجاري في عام 1969.
وقام بتوجيه العائدات النفطية الأولى بحكمة بالغة لتمويل مشاريع البنية التحتية العملاقة، بدلاً من اعتبارها ريعاً استهلاكياً. كما أسس شركة «دبي للبترول» لإدارة الثروة النفطية، وأشرف على بناء مصفاة لتكرير النفط، ما أضاف قيمة مضافة لهذه الثروة.
المصدر : البيان