
تأتي أقوى حالات اشتهاء الطعام في لحظات الضعف العاطفي، حين يلجأ الإنسان إلى الطعام بحثاً عن راحة مؤقتة من مشاعر التوتر أو الحزن أو حتى الملل، دون وجود جوع جسدي حقيقي، وهو السلوك المعروف باسم “الأكل العاطفي” الذي يتحول فيه الطعام إلى وسيلة للهرب من الضغوط أو تهدئة الانفعالات، لكنه سرعان ما يتحول إلى حلقة مفرغة. التأثير لا يدوم طويلاً، فالعاطفة السلبية تعود لتفرض نفسها، تاركة شعوراً بالذنب وربما رغبة متجددة في الأكل بنهم .
آلية مواجهة خادعة
غالباً ما تكون الشرارة الأولى لمثل هذا السلوك أحداثاً حياتية كبيرة أو ضغوطاً يومية متكررة مثل مشكلات العلاقات أو أعباء العمل أو الإرهاق والضغوط المالية والصحية. مع مرور الوقت، تصبح العواطف مرتبطة بالعادات الغذائية بصورة تلقائية، فيغدو الطعام “علاجاً” سريعاً لأي انفعال داخلي، بينما يظل أثره مؤقتاً ويفاقم المشكلة بدلاً من أن يحلها .
ويتميز «الأكل العاطفي» بأنه يحدث فجأة وباندفاع، بخلاف الجوع الطبيعي الذي يتطور تدريجاً. وغالباً ما يتجه نحو أطعمة غنية بالسكر أو الدهون مثل الشوكولا والمقليات والوجبات السريعة، يعقبها شعور بالذنب أو الندم. وعلى عكس الجوع الجسدي الذي يمكن إشباعه بأي نوع من الطعام وينتهي بالشبع، فإن الأكل العاطفي يكون انتقائياً ومفاجئاً ولا يختفي بسهولة حتى بعد الامتلاء، مما يجعله سلوكاً معقداً يتجاوز حدود الحاجات الجسدية إلى عالم الانفعالات والمزاج .
نظام المكافأة في الدماغ
في عام 2023، نشرت جامعة هارفارد دراسة مهمة تربط بين الأكل العاطفي وعمل نظام المكافأة في الدماغ، مؤكدة أن التوتر والضغط النفسي يحفزان الرغبة في تناول الطعام حتى في غياب الجوع الجسدي الحقيقي .
كما أظهرت الدراسات أن التوتر الجسدي أو العاطفي يزيد من تناول الأطعمة الغنية بالدهون أو السكر أو كليهما. ويميل الناس في الأوقات العصيبة إلى تناول الأطعمة الدهنية والحلويات والوجبات السريعة، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى زيادة الوزن وتدهور الحالة الصحية .
ويرتبط هذا السلوك بإفراز هرمون الكورتيزول الذي يزيد الشهية وقد يزيد أيضاً الدافع بشكل عام، بما في ذلك الدافع لتناول الطعام. وبمجرد انتهاء نوبة التوتر، يجب أن تنخفض مستويات الكورتيزول، ولكن إذا لم يختفِ التوتر، قد يظل الكورتيزول مرتفعاً، وبالتالي تبقى الشهية في مستويات عالية .
حلقة مفرغة
بمجرد أن تتشكل عادة الأكل العاطفي، تتطور بحيث يصعب التحكم فيها. يذكر العديد من الأشخاص أن الأمر يبدو كأي إدمان آخر، مثل التدخين. هذه الحلقة المفرغة تبدأ بتناول الطعام لتهدئة المشاعر، ما يؤدي إلى الشعور براحة مؤقتة، ولكن يعقب ذلك الشعور بالخجل من الإفراط في تناول الطعام، الذي يعيد الحلقة كلها مرة أخرى .
وتتفاقم هذه الحلقة سوءاً بالتجارب السلبية الشائعة للأشخاص المصابين بالسمنة، الذين غالباً ما يشعرون بالرفض من قبل المجتمع، أو أنهم لا يتلقون الدعم أو الفهم الذي يحتاجونه من عائلتهم أو أصدقائهم أو أطبائهم .
آثار تتجاوز الوزن
لا تقتصر آثار الأكل العاطفي على الجانب الجسدي، بل تمتد إلى الصحة النفسية. فبحسب دراسة نشرتها مجلة “نيوتريانتس” الطبية، يعد الأكل العاطفي من أبرز عوامل زيادة الوزن المتكررة، بسبب الميل إلى تناول أطعمة غنية بالسعرات وقليلة القيمة الغذائية، وهو ما يدخل الفرد في دائرة من الأكل ثم الشعور بالذنب ثم العودة للإفراط مرة أخرى . كما أن التوقف عن تناول الوجبات السريعة والأطعمة غير الصحية، التي غالباً ما يرتبط تناولها بالأكل العاطفي، يمكن أن يؤدي إلى فوائد متعددة تشمل تخفيف أعراض الاكتئاب، خسارة الوزن، تقليل خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري والزهايمر، وتحسين المزاج ونوعية النوم .
آليات المواجهة والعلاج
توضح مؤسسة “مايو كلينك” أن مواجهة الأكل العاطفي لا تعني حرمان النفس أو خوض معركة يومية مع الطعام، بل تبدأ بخطوات بسيطة تساعد على كسر الحلقة المفرغة بين الانفعال والرغبة الشديدة في الأكل. أولى هذه الخطوات هي تسجيل العادات الغذائية عبر مفكرة تدون فيها ما تأكل ومتى ولماذا، لتكتشف العلاقة الخفية بين الحالة المزاجية وما تختاره من أطعمة . أما الخطوة الثانية فهي إدارة الضغط النفسي، سواء عبر ممارسة اليوغا أو التأمل أو حتى تمارين التنفس، إذ تساعد هذه الأنشطة على تهدئة التوتر الذي يشعل الرغبة في الأكل . من المهم أيضاً التفريق بين الجوع الجسدي والنفسي، فإذا كنت قد تناولت وجبة قبل فترة قصيرة ولم تشعر بفراغ في معدتك، فمن المرجح أن دافعك عاطفي وليس جسدياً. في هذه اللحظة، يستحسن أن تمنح نفسك بعض الوقت حتى تنحسر الرغبة، والتشديد على أهمية الدعم الاجتماعي عنصر أساسي أيضاً، فوجود العائلة أو الأصدقاء أو حتى مجموعة دعم قد يقلل من احتمالية الاستسلام للأكل العاطفي . وفي مواجهة الملل، يمكن استبدال الوجبات الخفيفة بأنشطة صحية مثل المشي أو القراءة أو الاتصال بصديق .
علاقة صحية مع الطعام
الانتباه إلى البيئة المحيطة عامل مهم في التعامل مع الأكل العاطفي. ينصح بالتخلص من المغريات في البيت، وتأجيل التسوق عند الشعور بالانفعال، إضافة إلى تجنب الحرمان القاسي الذي قد يعزز الرغبة في الأكل أكثر. من المفيد السماح للنفس بوجبات خفيفة صحية كالفاكهة أو المكسرات أو الفشار الخفيف، بدلاً من اللجوء إلى الأطعمة العالية السعرات .
كما أن طهي المزيد من الوجبات في المنزل وتناول المزيد من البروتين يمكن أن يساعد في تقليل الاعتماد على الوجبات السريعة والأطعمة غير الصحية . وفي النهاية، من المهم أن نتذكر أن الانتكاسات واردة، لكن لا ينبغي أن تتحول إلى جلد للذات. الأفضل هو التعلم من التجربة، ووضع خطة لتجنب تكرارها، مع الاحتفاء بأي تقدم صغير نحو عادات أكثر توازناً وصحة . بالنسبة لبعض الأشخاص، قد تكون هناك حاجة للطلب المساعدة المهنية. إذا جرب الشخص خيارات المساعدة الذاتية لكنه لا يزال غير قادر على السيطرة على تناول الطعام بدافع انفعالي، فقد يفيد العلاج مع اختصاصي في الصحة العقلية في فهم الأسباب وراء الأكل العاطفي وتعلم مهارات التأقلم .
المصدر : تحيا مصر