
بعض الشعراء العالميين لم تنقل نصوصهم إلى اللغة العربية رغم مكانتهم الإبداعية الكبيرة ومقدراتهم الشعرية الرفيعة، والأهم من ذلك مواقفهم الجمالية والفكرية وكذلك السياسية المهمة خاصة في وجه الظلم والطغاة حيث يظل أثرهم باقياً على مدى الأزمان.
كتاب أشعار زبيغنيف هربرت، عبارة عن مجموعة شعرية اختار نصوصها وترجمها هاتف جنابي، وصدر عام 2022، عن دار روايات، وهي المرة الأولى التي تترجم فيها أعمال ونصوص هذا الشاعر المهم.
يعد هربرت من أعمدة الحركة الشعرية البولندية، ولعل ما أكثر ما ساهم في شهرته، إلى جانب براعته الشعرية، مواقفه ضد الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية، وهي مواقف شرسة لا تقبل المساومة ولا تعرف الخضوع في أزمنة كانت قاسية جداً حيث أعين الرقيب والتنكيل بكل صاحب موقف ورأي، وربما ذلك ما دفع بعض النقاد إلى وصف هربرت بشاعر الفكر نسبة إلى مرجعياته التي ينطلق منها سواء في صياغة موقفه السياسي أو الشعري حيث تتسم حياته ونصوصه بالاتساق اللافت، وذلك الأمر شكل له قاعدة شعبية رغم صعوبة نصوصه.
*أداة للغضب
وأفردت دار «روايات»، مقدمة تناولت الخصائص الشعرية والأسلوبية لهربرت والأمر الذي جعله يحتل مكانة أدبية خاصة، جاء فيها: «لم يحظ شاعرٌ بولندي في الثلاثين سنة الأخيرة بإجماعٍ النقّاد والشعراء والقرّاء كما حظي به شعر وشخصية الشاعر زبيغنيف هربرت. لقد رأى في الشّعر مجالًا وأداة للغضب والتنفّس والتأمّل وتصفية حساب مع رداءة العالم. الشعر بالنسبة إليه يعني أيضًا امتلاك قوّة خفيّة، والقُدرة على التخفيف من وطأة المعاناة والازدراء في المجتمع. ثمّة في شعره ثيمات مهمّة تتناول العلاقة بين الفرد والأنظمة الشموليّة، بين الفرد والطبيعة، وبينه وبين مُحيطه، علاوة على تناول مصائر الأفراد الذين خانهم الأمل ونخرهم الألم جرّاء شجاعتهم وتضحياتهم. وظّف في شعره الأفكار والشخصيات والأحداث المستلة من التاريخ وكذا الأساطير الإغريقية ليجد فيها ما يمكن جعله مقاربة للواقع المعاصر».
والواقع أن هناك عدداً من العوامل التي شكلت وأسهمت في تكوين وجدان هربرت المتميز، فإلى جانب انه شاعر فهو كذلك كاتب نصوص مسرحية، وفي ذات الوقت هو فيلسوف أخلاقي، جعل من الأدب فضاء تتجول فيه أفكاره ومفاهيمه الفلسفية، حيث كان يوزن، في شعره، كل مقطع بميزان الأخلاق والدعوة إلى الخير والحب والجمال وهي قيم وجد الشاعر أنها ضرورية من أجل حياة أفضل، لذلك كانت نصوصه التي ضمها الكتاب، إلى جانب أنها تتسم بروح المقاومة، فهي كذلك بمثابة أطروحة أو مقترح لعالم بديل أجمل يتبدد فيه الشر والصراع وطمع الإنسان ويحل لمحله حب التعاون والتعارف بين الشعوب والثقافات المختلفة.
*عوالم حالمة
نجح الشاعر في تمرير الحمولة النقدية والهجائية الكبيرة برقة شعرية والتفاتات حالمة بديعة في هذه النصوص التي ضمتها هذه المجموعة، وهو عمل يبدو في غاية الصعوبة، أن يتسلل الأمل وينبثق الجمال من بين كل هذا الغضب الذي يطلق له الشاعر العنان، ليس كغاية في حد ذاته، بل كزفرات ضرورية من أجل تخليص الذات من المشاعر السلبية، وكأن الشاعر يحرر روحه من أسر الأوجاع لكي يقبل على مصالحة العالم ويبحث عن أفق جديد للبشرية، ولا عجب في ذلك، إذ إن هربرت ولد من رحم المعاناة في ظل الشموليات، ليقدم شهادته للتاريخ.
يتميز الكتاب بالتنوع حيث يعرض نصوصاً في مجالات وأغراض مختلفة كتب عنها الشاعر، ومواقف حياتية مر بها، فعلى الرغم من غلبة الجانب السياسي في أشعار هربرت التي تركز بشكل أكبر على مشاهد الواقع اليومية في ظل الحروب والدكتاتوريات، إلا أن هناك ثيمات أخرى في هذه النصوص مثل الهجر ومشاعر الخوف والانكسار والاغتراب، وفي ذات الوقت لا تغيب ثيمة الحب وتمجيد الحياة، وهو كذلك لا يلجأ إلى المباشرة، رغم أن عوالم الحرب والدمار تتطلب ذلك، لكنه يسرب فكرته، في بعض النصوص، بطريقة تبدو غامضة بحيث إنها تحتاج إلى قارئ متمرس ليفكك ويؤوّل ويفسر، ومثال على ذلك هذا المقطع الشعري:
«عندما أصعد على كرسيّ/ لألتقط الطاولة/ وأرفع إصبعي/ لأُوقف الشمس/ وعندما أرفع الجلد عن وجهي/ والبيت عن كتفي/ وأمسك باستعارتي/ ريشة إوزة/ وأسناني تغوص في الهواء/ أحاول أن أبتكر حرف علة جديدًا».
نصوص تسرب الجمال والروعة إلى روح المتلقي رغم صعوبتها، تحرض على التفكير والتأمل والذهاب بالخيال نحو أبعد نقطة، فالقارئ قد يشعر بالراحة الروحية، لكن ذهنه يظل في إرهاق من أجل التوصل إلى المعنى الكامن وراء الجمل والكلمات، فهو أمام شاعر «يتمسك باستعارته»، ولا يصرح إلا بقدر، وربما أن الظرف السياسي، حيث الرقيب، يتطلب ذلك، لكن هربرت يلجأ لتلك المراوغة كذلك كأسلوبية شعرية يتبعها في نصوصه النثرية التي تنطلق كمدافع تزرع الرعب في قلوب الطغاة وتدعو في ذات الوقت للتأمل في الحياة والمصائر.
*صور
يصنع هربرت عبر نصوصه النثرية صورا تسيل معها اللغة، مشهديات تجسد الواقع بكل مراراته، حيث يتجول القارئ عبر أشعاره بين دمار المدن والقرى، ومشهد الرجال والنساء الذين يعدمون بالرصاص، ويركز بشكل كبير على لحظة موت الرفاق، فذلك موقف فارق يعمقه هربرت بالوصف الشعري، مثل هذا المقطع الذي يصف فيه اللحظات الأخيرة لاحد المحاربين، فيقول:
«صامتٌ يتلقى رصاصةً صارخة/ استقرت في ذراعه فهربَ من المفاجأة/ سيُغطي العشبُ كومةَ القصائد هذه/ تحتَ وطأةِ الآفاقِ الحاقدة/ سيشرب صمتك حتى الثمالة».
*شعر وسياسة
يشير الكتاب إلى حوار أجري مع هربرت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، عندما سأله المحرر الثقافي: هل أنت سياسي؟ ليجيب بانه سياسي إذ كانت السياسة تعني الوصول إلى هدف معين، موضحاً أن في دواخله عنصراً طبيعياً يدفعه إلى ردة الفعل العنيف أحياناً على الظلم ونقص العدالة. ولعل تلك الإجابات تبين جوهر هذا الشاعر، لكن في ذات الوقت فإن الذي يطلع على نصوصه قد يتفاجأ بتلك الرقة وتلك النزعة الإنسانية التي لا تتفق مع وصف النقاد لهربرت بالشاعر السياسي، فقد تناولت نصوصه وصفاً دقيقاً للمشاعر الإنسانية جعلت أشعاره تخلد بين الناس، وربما ذلك ما دفع الشاعر الروسي الشهير جوزيف برودسكي إلى القول: «مقدر لهذا الشاعر أن يبقى حياً أكثر من أي واحد منا».
*خلفية
يعد البولندي زبيغنيف هربرت (1924/ 1998)، من أبرز أدباء العالم، فهو شاعر وكاتب مقالات وفيلسوف، وكان عضواً في حركة المقاومة البولندية إبان الحرب العالمية الثانية، نُشرت أعماله لأول مرة في خمسينيات القرن العشرين، صدر له مجلد بعنوان «وتر الضوء» في عام 1956، وبعد فترة وجيزة من توقفه بشكل طوعي عن تقديم معظم أعماله إلى دور النشر الحكومية البولندية الرسمية، استأنف النشر في ثمانينيات القرن العشرين، بدايةً في الصحافة غير النظامية، ترجمت أعماله إلى أكثر من 38 لغة عالمية، ويعد أكثر شاعر بولندي نقلت نصوصه إلى اللغات المختلفة، وتميزت مسيرته بالجوائز الكثيرة.
*اقتباسات
«راقب العالم بطريقتك الخاصة كما فعل أسلافك».
«التحولات الكارثية حفرت في جسد أوروبا حتى غيرتها».
«لابد من توفر لياقة كبيرة للفرد لتصفية الحساب مع ماضيه».
«الأدب لا يمكنه أن يحظى بشعبية».
«الفن حامل قيم مطلقة».
«تنحية القيم في الصراع بين البشر يقود إلى الانهيار».
«إن الإنسان ليس هو ما هو عليه فقط، بل ما يرغب أن يكونه».
المصدر : صحيفة الخليج