
دخلت الأمومة عصر الأضواء الرقمية، وما كان روتيناً يومياً مثل رعاية الأطفال وإدارة المنزل، أصبح محتوى جذاباً يتابعه الملايين.
على منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب”، حوّلت الأمهات تفاصيل حياتهن اليومية إلى مصدر قوة وتأثير، ودمجن النصائح المنزلية بروح الريادة، والضغوطات اليومية بالطموحات المهنية.
فكيف أصبحت الأمهات رائدات أعمال من داخل منازلهن، وكيف حوّلن الأعمال المنزلية إلى محتوى مدرّ للدخل؟ السطور التالية تجيب.
كيف تحولت الأمومة إلى محتوى رقمي؟
لطالما تشاركت النساء النصائح حول العناية بالمنزل وتربية الأطفال وتبادلن التوصيات حول المنتجات المجرّبة والوصفات الناجحة. كانت تلك المعارف تنتقل ضمن دوائر ضيقة بين الصديقات أو داخل العائلة، لكن مع انتشار الإنترنت، تحوّلت هذه النصائح إلى محتوى رقمي يتابعه الملايين حول العالم.
في مطلع الألفية، بدأت بعض الأمهات توثيق تفاصيل حياتهن اليومية عبر مدونات شخصية، سردن فيها تجاربهن مع الأمومة وتنظيم الأعمال المنزلية ووصفات الطعام وغيرها، لينتقلن بعدها إلى مجموعات خاصة بالأمهات نشأت على موقع “فيسبوك”.
ومع صعود منصات التواصل الاجتماعي مثل “إنستغرام” و”يوتيوب” و”تيك توك”، أصبحت النصائح تفاعلية أكثر، تُقدَّم من خلال فيديوهات قصيرة، تسهل مشاركتها، وتلقى انتشاراً واسعاً.
فعلى سبيل المثال، تم استخدام وسم #momlife أكثر من 23 مليون مرة على تيك توك وحده، شاركت تحته الأمهات مقاطع تعرض مقتطفات من حياتهن اليومية مع أطفالهن أو أثناء قيامهن بالأعمال المنزلية. ومن طرق تخزين ذكية باستخدام أدوات بسيطة، إلى أفكار لتنظيم غرف الأطفال أو إعداد وجبات صحية سريعة، باتت “حيل الأمهات” محتوى جذاباً للمشاهدين، واستُخدم وسم #momhacks أكثر من 308 ألف مرة على التطبيق.
تدعم الخوارزميات أيضاً محتوى الأمهات، نظراً لتحقيقه تفاعلاً مرتفعاً، ما يسهم في انتشار هذا المحتوى أكثر فأكثر. كما تمثّل النساء بشكل عام الشريحة الأكبر من صانعي المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت الأكثر استخداماً لتطبيق “تيك توك” في 2023.
شكّلت وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً بوابة أخرجت الأمهات من عزلتهن خلف جدران المنزل، وأتاحت لهن التواصل مع أمهات أخريات والبحث عن الدعم. إذ كانت دراسة أجراها مركز “ويكسنر” الطبي في جامعة أوهايو عام 2024 أظهرت أن 66% من الأمهات والآباء يشعرون بالعزلة والوحدة بسبب مسؤوليات العناية بالأطفال.
اقرأ أيضاً: محتالون يستهدفون مؤثرين من الشرق الأوسط بواسطة أدوات “ميتا”
ومع تضاعف أعداد المتابعين، تلقفت العلامات التجارية ظاهرة الأمهات المؤثرات، وسارعت إلى التعاون مع بعضهن للترويج لمنتجات الأطفال والمستلزمات المنزلية ومستحضرات العناية والسيارات العائلية، وغيرها. بل إن بعض الأمهات تحوّلن أنفسهن إلى رائدات أعمال أطلقن علامات تجارية خاصة بهن.
وفي حين تُقدّر قيمة الأعمال الرعائية غير المدفوعة بنحو 11 تريليون دولار سنوياً، أي ما يعادل 9% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، تتحمل النساء العبء الأكبر منها، تحاول بعضهن استثمار خبرتهن المنزلية وتحويلها إلى مصدر دخل.
لماذا تتعاون العلامات التجارية مع الأمهات المؤثرات؟
تُقبل العلامات التجارية على التعاون مع الأمهات المؤثرات بما أنهن يجمعن بين الثقة والأصالة والتأثير الفعلي، وهي عناصر يصعب تحقيقها عبر الإعلانات التقليدية. فالأم تُعد مرجعًا موثوقاً، وعندما توصي بمنتج ما، يُنظر إلى توصيتها على أنها انعكاس لتجربة شخصية صادقة، لا مجرد ترويج تجاري.
وأشارت دراسة لمؤسسة Edison Research أن 80% من الأمهات الأميركيات اللواتي يستخدمن وسائل التواصل الاجتماعي يلجأن إلى هذه المنصات للبحث عن توصيات حول المنتجات.
كما تتمتع الأمهات بقوة شرائية ضخمة تجعل استهدافهن أولوية تسويقية. فبحسب مجلة “فوربس” (Forbes)، تتحكم الأمهات في الولايات المتحدة بـ85% من قرارات الشراء داخل الأسرة، بقوة إنفاق تبلغ نحو 2.4 تريليون دولار سنوياً. وتشير دراسة حديثة من شركة “ويسرمان” (Wasserman) صدرت في يونيو 2025 إلى أن النساء حول العالم يتحكمن بنحو 31.8 تريليون دولار من الإنفاق الاستهلاكي، ويتخذن ما بين 70 إلى 80% من قرارات الشراء عالمياً.
اقرأ أيضاً: شركة ناشئة خففت وطأة أزمة حليب الأطفال الأميركية
وبحسب التقرير، أبدت غالبية النساء تفضيلهن للعلامات التجارية التي تتوافق مع قيمهن وتتواصل معهن بعمق.
مؤثرات الشرق الأوسط
يمتد هذا التأثير إلى منطقة الشرق الأوسط، إذ أظهرت الدراسة أن 55% من النساء في الإمارات و52% من النساء في السعودية هن صاحبات القرار الأساسي في معظم المشتريات.
وبشكل عام، تشهد سوق الإعلانات عبر المؤثرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نمواً متسارعاً، إذ يُتوقَّع أن يصل حجم الإنفاق الإعلاني عبر المؤثرين في المنطقة إلى نحو 648.9 مليون دولار في عام 2025 بحسب بيانات قاعدة “ستاتيستا” (Statista).
في الإمارات مثلاً، أكثر من ثلث مستخدمي الإنترنت تعرّفوا إلى علامات تجارية عبر إعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي، مع توقعات باستمرار توسع هذا النوع من الإعلانات خلال السنوات المقبلة، بحسب “ستاتيستا”.
كيف تجني الأمهات المال من وسائل التواصل؟
كما هو الحال مع سائر المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، تحقق الأمهات إيرادات عبر مصادر متعددة، أبرزها المحتوى المموّل حيث تدفع الشركات مقابل منشورات أو مقاطع فيديو أو “ريلز” للترويج لمنتجاتها وخدماتها. ويأتي بعده التسويق بالعمولة، فيحصلن على نسبة من المبيعات الناتجة عن الروابط أو أكواد الخصم الخاصة بهن، فكل عملية شراء تتم عبر هذه الروابط تعني دخلاً إضافياً. كما تستفيد بعضهن من عوائد المنصات مثل الإعلانات على “يوتيوب” أو برامج الإيرادات من “تيك توك”، وإن كانت عوائدها قليلة نسبياً بالنسبة لأصحاب الحسابات الصغيرة. كما يشكل التمويل من الجمهور عبر الاشتراكات أو التبرعات المباشرة مصدراً إضافياً للدخل، ولو أقل حجماً.
اقرأ أيضاً: “تيك توك” تشارك أرباح “الفلاتر” مع صناع المحتوى في 33 دولة جديدة
تُظهر بيانات مجمّعة نشرها موقع “شوبيفاي” في يوليو 2025 أنّ متوسط الأجور التي يتقاضاها المؤثرون عموماً يتدرج بحسب عدد المتابعين. فالحسابات الصغيرة (النانو، 500 –10 آلاف متابع) تحقق ما بين 2 إلى 250 دولاراً للمنشور عبر منصات التواصل الاجتماعي، والحسابات الأكبر قليلاً (الميكرو، 10آلاف –100 ألف متابع) بين 25 و1250 دولار للمنشور، والمتوسطة (100 ألف–500 ألف متابع) قد تصل إلى حد 12500 دولار للمنشور، بينما تصل حسابات الماكرو (500 ألف–مليون متابع) إلى 25 ألف دولار للمنشور، فيما أجور المؤثرين أصحاب الحسابات الضخمة (الميغا، أكثر من مليون متابع) قد تتخطى المليون دولار للمنشور الواحد، بالأخص في حالة المشاهير.
إلا أن هذه الأرقام تتباين بشكل كبير بين منصة وأخرى، حيث يحقق المؤثرون الأجر الأعلى من النشر عبر “يوتيوب”، فيما الأجر الأقل للمنشورات عبر “تيك توك”.
ومع ذلك، فعدد المتابعين ليس المقياس الوحيد، إذ يلعب مستوى التفاعل دوراً مهماً، فقد تحقق أم مؤثرة لديها عدد متابعين أقل، لكن بنسبة تفاعل مرتفعة (إعجابات، تعليقات، مشاركات)، دخلاً أكبر من حساب يضم جمهوراً أوسع لكنه غير متفاعل.
ورغم الصورة الشائعة عن ثراء المؤثرين والمؤثرات، تكشف البيانات أن قلة فقط يحققون دخلاً ثابتاً يمكن التعويل عليه. فبحسب تقرير لـ NeoReach، فإن نحو نصف المؤثرين يجنون أقل من 15 ألف دولار سنوياً من المحتوى الذي ينشرونه، فيما أشار تقرير لـ”غولدمان ساكس” إلى أن نحو 4% فقط من المؤثرين حول العالم يجنون أكثر من 100 ألف دولار في السنة.
ويرجع ضعف العوائد لدى كثير من المؤثرين إلى تخمة المعروض من صانعي المحتوى وتفضيل العلامات التجارية إنفاق الجزء الأكبر من ميزانياتها على قلة من الأسماء الكبرى، فيما يحصل صغار المؤثرين على مبالغ محدودة لا تكفي لدخل مستقر. ورغم تزايد الاهتمام بالمؤثرين الصغار ذوي الجمهور المتخصّص مؤخراً، فإن العوائد تبقى متقطعة ومحدودة، إذ يتوزع الإنفاق على عدد واسع من الحسابات.
إلى ذلك، توجهت بعض الأمهات المؤثرات نحو ريادة الأعمال عبر إطلاق خطوط منتجات خاصة بهن أو دورات تدريبية رقمية أو سلع تحمل علاماتهن التجارية، فيما تحقق أخريات إيرادات من خلال الظهور الإعلامي والتعاونات والمشاركة في الفعاليات.
في الولايات المتحدة، تملك النساء اليوم نحو 40% من الشركات، أي ما يعادل 14.5 مليون شركة، بحسب تقرير نشرته “ويلز فارغو نيوزروم” Wells Fargo Newsroom” عام 2024، وقرابة ثلث أصحاب المشاريع الصغيرة هن أمهات، وفق منصة Small Business Trends.
لعبت جائحة كوفيد-19 أيضاً دوراً محورياً في تسريع هذا التحوّل، إذ دفعت الكثير من الأمهات لترك وظائفهن التقليدية والبحث عن مصادر دخل أكثر مرونة ومواءمة لنمط حياتهن العائلي. وبحسب منصة “غوستو” (Gusto)، شكّلت النساء 49% من رواد الأعمال الجدد في الولايات المتحدة عام 2023، مقارنة بـ29% فقط في عام 2019.
وفي الإمارات، أشار تقرير لـ”ماستركارد” في مارس 2025 إلى أن 84% من النساء في البلاد يفكرن جدياً في إطلاق أعمالهن الخاصة.
بين وهم الكمال والحقيقة بلا تجميل
مع انتشار محتوى الأمومة على وسائل التواصل الاجتماعي، برزت ظاهرة “الأمهات التقليديات” أو “الزوجات التقليديات” على “تيك توك” و”إنستغرام” اللواتي يعرضن نمط حياة مستوحى من الحنين إلى الماضي، والدور التقليدي للمرأة داخل المنزل، فيقدمن نصائح حول تحضير المخبوزات وترتيب المنزل بديكورات أنيقة وتربية الأطفال، وكثيرات منهن يعبرن عن رفضهن فكرة العمل خارج المنزل، وقد جذبت وسوم مثل #tradwife عشرات ملايين المشاهدات.
في المقابل، نشأت حركة مضادة تُظهر واقع الحياة المنزلية بلا تجميل، حيث تتعمّد الأمهات عرض مطابخ غير مرتبة، وسلال غسيل ممتلئة، والفوضى اليومية.
اقرأ أيضاً: مليارديرات “إنستغرام”.. كيف صنعت كيم كارداشيان ثروة من التواصل الاجتماعي؟
رغم هذا التنوع، تكشف الدراسات عن مفارقة في تأثير هذا المحتوى على النساء. فبينما يرى البعض فيه مساحة للدعم وتبادل الخبرات، تعاني أخريات من ضغط المقارنة وتراجع الثقة بالنفس. فقد أظهرت دراسة لجامعة نبراسكا شملت 464 أمّاً لأطفال حديثي الولادة أن التعرض المتكرر لصور “الأمومة المثالية” على “إنستغرام” زاد من مشاعر القلق والحسد، وقلل من شعور الأمهات بالكفاءة في تربية أطفالهن، خاصة لدى من يملن للمقارنة الاجتماعية.
وفي حين يسهم إدماج الأطفال في محتوى الأمهات المؤثرات في تعزيز مصداقيتهن ويضفي على ما يقدمنه طابعاً أكثر واقعية وقرباً من الجمهور، إلا أن ظهور الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي له جوانب سلبية أيضاً. إذ إن تعريضهم باستمرار للأضواء قد يطمس الحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة والعامة، ويثير مخاوف بشأن خصوصيتهم، لاسيما أنهم لا يملكون القدرة الكاملة على استيعاب تبعات هذا الحضور الرقمي وما يخلّفه من بصمة دائمة، ولا على منح موافقة واعية على مشاركتهم فيه.
في ضوء ذلك، أصبحت الأمومة الرقمية ساحة تتقاطع فيها مشاعر التمكين والضغط. والتحدي الحقيقي أمام الأمهات اليوم هو استخدام هذه المنصات كمصدر إلهام ودعم، دون السقوط في فخ المقارنة أو الانجرار وراء وهم الكمال.
المصدر : الشرق بلومبرج