يعتبر الشعر من أرقى صور التعبير الإنساني، يجمع بين الكلام والموسيقى، والحقيقة والمخيلة، معبراً عن الوجدان والمعاناة، حيث عذوبة الموسيقى الشعرية يتدفق لحنها على الآذان، لتهدئ الروح التي تفتش عن ذاتها في كل بيت وقافية، فالشعر ذلك النسيج الفريد، تتشابك فيه الكلمات والأنغام، فتولد إحساسًا لا يُنسى، يخلق حالة من التماهي والاندماج بين الشاعر والقارئ.
في إطار موسيقى الشعر، نقرأ اليوم في ديوان «سأنشد موالي» للشاعر ياسين بعبسلام، الصادر عن دائرة الثقافة في الشارقة عام 2023، ضمن الإصدار الأول لجائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال الشعر، يحتوي الديوان على 224 صفحة من القطع المتوسط احتوى على ثلاثين قصيدة، عكست رحلة شعرية مستلهمة من الموال والتراث المغربي، مع اعتماد لغة شعرية حديثة ذات غنى إيقاعي وبلاغي.
تنوعت مواضيع قصائد الديوان ما بين تجارب حسية ووجدانية للشاعر، حيث نجد ثيمات أساسية للقصائد، مثل الغربة، و الوجود والحنين، والصراع مع الذات، وقد اجتمعت في جنبات هذا الديوان، عذوبة الحس الموسيقي مع تناغم اللغة الفصحى ومفرداتها، ليطرح بعبسلام شعراً يحمل مضامين الهوية والذاكرة والانتماء، في إطار فني متجدد ومتماسك، كما يعطينا الديوان إطلالة مهمة على الشعر المغربي العربي الحديث، لجهة الأساليب والمواضيع والرسائل الثقافية التي يعبر عنها.
*موسيقى
يقدّم الشاعر في ديوانه تجربة شعرية، تجمع بين الحنين الفلسفي والتمرد الهادئ، بين الوعي بجراح الذات والرغبة في ترويضها بالشعر، منذ العنوان، يتبدّى أن الشاعر لا يعلن عن ديوانه شعراً فحسب، وإنما يعلن عن انتماء وجداني وروحي، العنوان ينفتح على بعد شاعري ووجداني، فالفعل «سأنشد» يشي بإرادة القول، بالتحول من الصمت إلى النشيد، ومن الكتمان إلى البوح، أما كلمة «موالي» فهي مفردة تحتمل طبقات من المعنى، الموال الشعبي كفنٍّ غنائيٍّ عربيٍّ ضاربٍ في الوجدان، كأن الشاعر يقول: سأنشد ذاتي وذاكرتي، وولائي للإنسان والوجود.
بهذا العنوان يؤسس الشاعر في ديوانه لمعجم لغوي دقيق، يدمج بين ما يغنَّى ويردد في الموال وبين ما يستفزُّ الفكر ويثير الانفعال، هذا الربط الأولي بين الشعر والموسيقى يجعل من النص تجربة تتميز بحضور الصوت الإيقاعي والعاطفة، حيث يتلاقى الفرد مع الذاكرة الجمعية، في علاقة تنسج ثوب النص بخيوط الماضي والحاضر، وبريق الأصالة والتجديد.
هنا، تتحول الموسيقى الشعرية من عنصر جمالي إلى ركيزة أساسية في صناعة المعنى، تسرق انتباه القارئ إلى مشاعر الشاعر وأفكاره العميقة، فتصبح القصائد أغاني حية تتردد أصداؤها في صدى الذاكرة، مانحة لكل قراءة فرصة لاكتشاف جديد، وفي هذا الإبداع اللغوي، يبدع بعبسلام في الصياغة الشعرية الراقية، التي تنسج بخفة ودقة بين طبقات الهوية والحنين والوجود، معززاً القوى التعبيرية للنص، بمضمون يحمل عبق التاريخ وحيوية التجربة الإنسانية المعاصرة.
*رمزية
وصل الشاعر بعبسلام في هذا الديوان إلى مستويات عالية من توظيف الأساليب الفنية، حيث يمزج بين لغة الموال الشعبي الذي يمتاز بالإيقاع الموسيقي والنبرات الشعرية، وبين بناء مجازي شعري معاصر، يستثمر الصور الكثيفة والمعاني المركبة، حيث تتسم القصائد بجمالية التكرار الموسيقي، والصورة البلاغية التي تستخدم الاستعارة والتشبيه والتورية لإضفاء أبعاد جديدة على المعاني، كذلك يظهر في ديوانه استخدام الرموز الروحية والطبيعية، مثل الشمس والأم والطير، لتعزيز دلالات التجربة الإنسانية والبحث عن الذات، في فضاءات واسعة من الحلم والانتظار.
كما نلاحظ أن الشاعر يبدأ بعض قصائده باقتباسات مفتاحية متنوعة، كما في قصيدة «منك القصائد تستحي» و «نوستالجيا» و«كأنني راكض خلفي» و «رسالتها الأخيرة» وغيرها، وهذه الاقتباسات تعبر عن انطلاق تجربة الشاعر، من ثقافة اطلاع على أدبيات متنوعة، بالإضافة إلى إحساسه بالانتماء العميق إلى مجتمعه وتراثه، مسلطاً الضوء على رحلة الذات الشعرية التي تتقاطع فيها الأصالة بالحداثة والرغبة في التعبير الشعري الحر، ليصور الشاعر تجربة إنسانية داخل مجتمع مدجج بتقلبات الحاضر وحميمية الماضي، كما يعكس الديوان كذلك أزمة الإنسان المعاصر بين التقاليد ومتطلبات الحداثة.
*اختزال
يواجه الشاعر في هذا الديوان ذاته مواجهة وجودية، فنجد نصوصه الشعرية تتأرجح بين الهدوء والتأمل، لكن خلف هذا الهدوء يخفي مرارة الإدراك، حيث إن الوعي بالحياة عند الشاعر ليس احتفاءً بالكينونة، بل إدراكٌ لقسوتها. «قسوة الإدراك» هنا مفتاح دلالي بالغ الأهمية، إذ يجعل من المعرفة عبئاً، ومن الوعي ثِقلاً يحول الشباب إلى شيخوخة باكرة.
نجد في بعض قصائد الديوان مثل «أنمو لأصبح ورقة خضراء» وغيرها، ما ينتمي إلى ما يمكن تسميته شعر الوعي الموجوع، الذي ينحت جماله من صلابة التجربة،وهي تجسّد نزوع الشاعر إلى الصفاء الداخلي، عبر التأمل في التجربة الذاتية، حيث يصبح الشعر فعل نجاة من العبث.
يتميّز بعبسلام بقدرته على تبسيط الصورة من الخارج وتعميقها من الداخل، فالصور هنا ليست غريبة أو مجازية مفرطة، بل تنبني على تركيب بسيط ينزاح دلالياً في العمق، على سبيل المثال، حين يقول:«من صراخ ولادتي ومن الحياة»، هنا يضع الشاعر الولادة والحياة في حقل واحد من الألم، لا من البهجة، كأن الصراخ الأول للوليد هو استباق لكل صراخ لاحق في مسار الوجود، فينقلب معنى الحياة إلى مأساة كامنة منذ الميلاد، وحين يتبعها بـ«من الردى»، يخلق مقابلة صامتة بين البدء والنهاية، في سطرين متجاورين، ليقول إن المسافة بينهما أقصر مما نظن، هنا تكمن جمالية الاختزال التي يعتمدها الشاعر، اللغة القليلة التي تنتج معنى واسعاً.
*تقشف
لغة بعبسلام تتسم بتقشف جمالي واضح المعالم، لا يستسلم إلى زخارف لغوية مبالغ فيها أو استعارات متكثرة، فهو يكتب بلغة تشبه النفس، تخرج من الكلمات اليومية الصادقة، نابعة من حميمية التجربة الشخصية، هذا التقشف في التعبير يمنح القصيدة عمقاً روحياً ينبع من البساطة، ويجعلها متاحة لتلقي مختلف القرّاء، فهي تأويل فلسفي لعرافة الحياة، وفي الوقت ذاته دعوة انفعالية تمس القلب والعاطفة.
كما يعتمد بعبسلام في تركيب نصوصه على جمل قصيرة ذات إيقاع هادئ، ما يعمق حالة التأمل والسكينة التي تسود الديوان، ويبرز ذلك حالة من الحزن المدفون داخل سطور قليلة، بعيدة عن السرد التقليدي، لكنه يشتغل كدراما نفسية داخلية جلية من خلال طبقات شعورية متنوعة، مثل الانكسار الذي يبدأ دائماً باعتراف مهدد بالخسارة والخذلان، ليعبر بذلك عن التسليم الأولي للواقع المؤلم.
وأيضاً الوعي بالألم الذي ينير المشهد الشعوري لدى الشاعر في قصائده، حيث يتصاعد عنده الألم ليصبح شعوراً يجرح الروح، مؤكداً أن الألم حالة روحية عميقة. ويتجلى التمرد في العديد من المواطن في الديوان؛ حيث يتجسد في فعل مقاومة هادئة لكنها حازمة، وهي مقاومة تنبع من الخوف لكنها تحمل في طياتها قوة التمرد على الألم ومصيره، هذه التصاعدية الشعورية تعطي القصائد بنية درامية داخلية واضحة، تجعلها نصّاً ذا نبض درامي متفرد يعكس عمق الصراع الذاتي.
يحمل الشاعر في قلبه لحن الموال القديم، ليحول الشعر إلى نشيد فردي صاف يعلو على صوت الثرثرة والضجيج لهذا الزمن، في مقاومة شعرية لا تنحصر في المضمون أو القوالب البلاغية، بل تمتد إلى صدق البوح وحميمية التعبير، ما يجعل الكتابة الشعرية تعكس الألم والتمرد والرغبة في الحياة من دون تزييف.
اقتباسات
أنا ابن قصائدي
ا
أشرعت للكلمات أخيلتي
وسرت وراء ضوء مستحيل
فأضعت بوصلتي على الدرب الطويل
يا قبلة الشوق
إن القلب مرتحل إليك
مدي ولو درباً لإيلافي
أمشي..
تجاه عيونك الحوراء
وقصائد الغزل القديم
ورائي
يا فتنة المرئي
ليس لحسنه شبه
ويا فتانة للرائي
المصدر : صحيفة الخليج
