
يشكل البحر في الفن التشكيلي الإماراتي حضوراً كثيفاً ومحملاً بالرموز، إذ لا يمكن فصل الذاكرة البصرية المحلية عن زرقة الماء واتساع الأفق، الذي يعد مصدراً للرزق والإلهام، فمنذ بدايات التشكيل الإماراتي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ارتبطت اللوحة ارتباطاً وثيقاً بالبحر، كرمز للهوية، ومجال للتأمل الوجودي، وفضاء للمجازات الإنسانية، واستلهم الفنانون الإماراتيون من البحر ذاكرة المكان بكل ما تحمله من حكايات الغوص، واللؤلؤ والسفر والمغامرة، فجاءت أعمالهم محملة بشجن الموج وهدوء المرافئ، وبألوان تستعيد تدرجات الرمل والضوء والماء.
بهذا المعنى أصبح البحر في الفن التشكيلي الإماراتي لغة بصرية خاصة، تعبر عن الوجدان الجمعي والحنين للمكان، وعن التوازن بين الأصالة والحداثة، كما لو أن الفنان الإماراتي يرسم موجة واحدة تمثل رحلة وطن بأكمله نحو الأفق.
في هذا السياق، نقف أمام هذه اللوحة التي أبدعتها الفنانة سلوى الشميلي، والتي تمثل نموذجاً يعبر عن اللغة الفنية والبصرية للفنان الإماراتي، حيث تمتزج عند الفنانة الشميلي الرؤية الواقعية بالبعد التأملي الرمزي، لتتحول عناصر الطبيعة، الصدف والرمل، والبحر، والسماء إلى مفردات فنية تنسج سرداً عن العزلة والحنين والذاكرة.
*هدوء
تلتقط الفنانة مشهداً بحرياً بكل حرفية، تنقل فيه المتأمل إلى شاطئ هادئ بعد انحسار الموج، في مقدمة لوحتها صدفة بحرية كبيرة ملقاة على الرمل، وحيدة، كأنها بقايا من ذكريات، أو لحظة زمنية سكنها الصمت، وفي الأفق تتوهج السماء بمزيجٍ من ألوان الغروب الأصفر والبرتقالي والأحمر المتدرج نحو البنفسجي والأزرق، في مشهد مهيب يعكس لحظة رحيل الضوء وبداية الليل.
الفنانة سلوى الشميلي في هذه اللوحة تبرز إتقانها فن توازن المساحات والفراغ، حيث جعلت من المساحة الرملية الفارغة التي تشغل معظم اللوحة تركيباً لونياً بصرياً مدهشاً، يعمق إحساس المتلقي بالوحدة والسكينة، وهذا الاستخدام الذكي للمساحة المفتوحة يمنح العمل إيقاعاً تأملياً، ويجعل العين تنتقل بهدوء من العنصر الرئيسي «الصدفة» إلى السماء المتوهجة بالألوان.
كما جعلت الفنانة من السماء المسرح الذي تتفجر فيه الألوان مشحونة بالعاطفة، لتؤدي هنا الألوان المائية دورها كلونٍ متحول، ينزلق ويتمازج بحرية، كما لو أن الفنانة تركت الطبيعة تتكلم بلغتها الخاصة في تدرج لوني صاغت من خلاله مشهداً يعكس دورة الزمن بين البدايات والنهايات.
الصدفة مفتاح رمزي للوحة كلها، فهي تمثل الذاكرة، أو ربما الكائن الذي احتضن الحياة في داخله ثم لفظه البحر بعد أن أدى دوره، ويمكن اعتبارها رمزاً للإنسان الذي تركه الزمن على شاطئ الوجود، أو كرمز للفن ذاته، الذي يلتقط أصوات البحر والريح ليحولها إلى مادة مرئية.
إن اختيار الفنانة وضع الصدفة في مقدمة اللوحة قريبة من عين المتلقي، مع إبراز تفاصيلها الدقيقة وخطوطها الدقيقة يعبر عن الاحتفاء بالهامش، وعن رؤية ترى في الأشياء الصغيرة معنى كونياً.
*تأويل
تبحر لوحة الفنانة الشميلي في فضاء وسط بين الواقعية والتعبيرية اللونية، وهي تستند إلى مشهد طبيعي مألوف، لكنها لا تقدمه كمجرد تصويرٍ للطبيعة، اللوحة هنا ليست عن البحر فقط، وإنما هي تعبير عن الزمن، وعن لحظة التوقف بين الماضي الذي مضى والمستقبل المنتظر، و«الصدفة» المهجورة هي شاهد على مرور الزمن، بينما الأفق المضيء هو بمثابة نظرة تفاؤل باستمرار الحياة، وهي صورة رمزية عززتها الخطوط المائلة، وتوزيع الظلال، ودرجات اللون المتباينة، كلها ساهمت في نقل حالة وجدانية أكثر مما تنقل مشهداً بصرياً.
ويمكن قراءة هذه اللوحة كإشارة إلى العلاقة بين الإنسان والطبيعة، أو بالأحرى، إلى فقدان تلك العلاقة في العالم الصاخب اليوم، فالصدفة التي كان يسكنها يوماً صوت البحر، ترقد الآن في صمت على الرمل الجاف بعد الجزر، كأنها استعارة عن الإنسان الذي انفصل عن جذوره الطبيعية والروحية، لكن في الوقت نفسه، يلمع الأفق بالضوء، كما لو أن الطبيعة ما زالت تفتح باب الأمل لمن يرغب في العودة إليها.
كما يمكن النظر إلى الصدفة بوصفها رمزاً يعبر عن الأصوات الداخلية التي نحملها في داخلنا، كما يحمل صوت هدير البحر في جوف الصدفة عندما تضربها الريح، وربما أرادت الشميلي من خلال هذا العمل أن تقول إن الجمال لا يكمن في العاصفة، بل في ما تبقى بعدها من أثر هادئ، في لحظة الصمت التي تلي الرحيل.
تثبت الفنانة سلوى الشميلي قدرتها على تحويل أبسط مفردات الطبيعة إلى قصيدة تشكيلية تتحدث عن الإنسان في مواجهة الوجود، وعن الأثر الذي تتركه الحياة في الرمل والذاكرة والبحر.
*سيرة
سلوى الشميلي فنانة تشكيلية إماراتية بدأت مسيرتها بعد دراسة إدارة الأعمال، وتحولت إلى الفن التشكيلي بشغف ورغبة في التعبير عن التراث والهوية الإماراتية، تتبع أسلوب المدرسة الواقعية، مستلهمة من الطبيعة والحياة الإماراتية، مع تركيز خاص على المرأة ودورها في المجتمع. شاركت في عدة معارض محلية ودولية.
المصدر : صحيفة الخليج