الثقافة لا تغيّر التاريخ | صحيفة الخليج

الثقافة لا تغيّر التاريخ | صحيفة الخليج

قد يتساءل البعض عن جدوى تصفح التاريخ وإعادة قراءة أنماط مختلفة من العادات والأفكار والممارسات العامة التي تكشف لنا الحياة في زمنٍ ما، اندثر كثير من آثاره، ولم يبق منه إلا ما تستدعيه ذاكرتنا من أوراق حفظته للأجيال التي تأتي بعده، أو من الآثار التي لم تتآكل مع الزمن وبقيت شاهدة على جزء من حياة الناس آنذاك.

ملتقى الشارقة الثقافي الثاني «العصر العباسي حكاية وصل بين قرطاس وقلم»، جاء مكملاً لملتقى العام الماضي الذي حضر فيه العصر الأندلسي بعلومه وآدابه وأدوات الحضارة التي أبهرت أوروبا، وربطنا في الملتقيين بجسر بين زمننا وتلك الأزمنة.. بمشاركـــة المختصين وعشاق التاريخ، لنذكر كل الأجيال بأن تاريخنا قصة يجب أن تروى فصولها على صغارنا قبل النوم، وفي الصفوف بالمدارس، وحين يلعبون ويلهون بأساليب للكتابة الموجهة للطفل، وتروى بأساليب أخرى للشباب الذين يفترض أنهم يخرجون من مناهج التاريخ في التعليم بكم معرفي في هذا المجال. لا بأس، لندعهم يفخروا بأنهم أبناء زمن التقنيات واسعة الانتشار، لكن عليهم أن يعلموا ويعرفوا أن هذا التيار الذي يسبحون فيه أزيل السد عنه كي يفيض على عالمنا اليوم بيد أحد كبار العلماء العرب والمسلمين، من دون أن نتأسى على ما كناه، وما أصبحنا عليه.

التاريخ علم جميل، يحفظ لنا قصصاً لم نعشها لكنها وقعت في زمن بعيد عنا، قد تدخل في أحداثه يد تريد أن تنعطف بها إلى مصلحة ما، إلا أنه يبقى مثار بحث عن حقائقه، ولحسن الحظ أن للحدث مصادره المتعددة التي يعرفها الباحثون المؤرخون، ولبعضهــا منطق والبعض الآخر بعيد عن منهجية المنطق.. كما قيل عن الخليفة العباسي هارون الرشيد وليالي الأنس التي يقضيها في بلاطه، إذ يتساءل التاريخ: كيف لرجل يحج عاماً ويغزو عاماً أن تتوفر له له ليالٍ كتلك؟.

فكما أن للتكنولوجـــيا وقعـهــا المتعمق تأثيراً في حياتنا اليوم، وللآداب والفنون إيقاعها المخاطب للوجدان، والاكتشافات العلمية التي نتجاوز الإبهار بها سريعاً لنصل إلى مرحلة التفاعل معها استخداماً، واللغة والطب والفلسفة والجغرافيا وغيرها، فإن التاريخ هو العلم الحارس لهذه العلوم وحافظها من الاندثار الكلي مع مرور الزمن عليها.

ومهما نتـغــير فإن القــافلة الزمنية يوجد فيها حيز لكل زمن تمر به يحفظ فيه أهم آثاره وأرقى الشخصيات المؤثرة في إثراء زمنهم الذي سيصبح تاريخاً فيما بعد، ما يعني أننا نحن أيضاً سنصبح تاريخاً، فالعالم في المستقبل سيعرف عنا الكثير، وسيعجب بما أنجزته البشرية آنذاك (زماننا) ولن تعجبه أمور أخرى، وسنكون موضوعات للمؤرخين والباحثين والمفكرين.. وقد يجد الأدباء فينا ما يمكن اقتباسه في قصائدهم ورواياتهم وقصصهم ومسرحهم كما نقتبس من الأندلس والعصر الجاهلي وحكايات ألف ليلة وليلة، إلا أن أدوات الاتصال المتطورة ستسهل عملية حفظ اليوم لأبناء الغد وأبناء أبنائهم ولأعمق من ذلك.

إن نظرتنا للمستقبل تتطلب العودة إلى التاريخ، والبحث فيه وتتبع آثاره المدفونة في أمكنة عديدة في العالم، خاصة عالمنا العربي الغني بآثار الأولين، ولا يعرف أن يسبر غورها إلا مثقف يعرف اللغة الخاصة بقراءته، وكما قال صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة: «الثقافة لا تغير التاريخ، لكنها تغير طريقة قراءتنا له».

الماضي والحاضر والمستقبل.. أزمنة تشعرني بأنها أمواج بحر يغذي بعضها بعضاً، إذ يبقى للإنسان أثره مهما تقادم الزمن، فيستلم مَن بَعدَه هذا الأثر مكملاً ومتقدماً نحو مستقبله، من دون أن يغفل أنه يستند إلى ما علمه من التاريخ.

المصدر : صحيفة الخليج

وسوم: