«فن الطيور»… الحياة في تغريدة عصفور

«فن الطيور»… الحياة في تغريدة عصفور

الناشر: دار روايات
يهيم الشاعر مع الطبيعة مثل طائر لا يعرف الحواجز أو الحدود، يحلق في سماوات مفتوحة تسكنها الروعة يتغنى بالجمال في كل مكان، فتلك هي رسالة الشاعر أن يصنع أنشودة للحب وينير الطريق للإنسانية ويعلم الناس فن الاستمتاع بالحياة.
كتاب «فن الطيور»، للشاعر الشهير بابلو نيرودا، الصادر عربياً في طبعته الأولى عام 2025، عن دار روايات، بترجمة غسان الخنّيزي، هو مجموعة شعرية تتغنى بالطبيعة وبالطيور بصورة خاصة، حيث يمارس الشاعر فعل التأمل في تلك المخلوقات الجميلة التي تتجول في وطنه الحبيب تشيلي، حيث الطبيعة الخلابة الساحرة، ويصنع معها علاقة من نوع غريب فهو يظل يراقبها ويكوّن عنها الأفكار والتصورات وينطق شعراً في بعض الأحيان بلسانها، بينما في نصوص أخرى يفرد مساحات متألقة ومدهشة عن تلك العلاقة التي جمعته بهذه الكائنات.

اشتهر الشاعر الحاصل على جائزة نوبل، بحب الطبيعة وله ذائقة عجيبة في التعامل مع الجمال الكامن في الأشياء فكان يجمع التماثيل والأصداف، إلى جانب ولعه الكبير بالطيور بشكل خاص، فكان أن أنتج مئات النصوص في حب العصافير، وهو يقول عن ذلك العشق الكبير: «منذ طفولتي، حافظت على مشاعري العميقة تجاه الطيور والأصداف والغابات والنباتات. ذهبت لأماكن عديدة من أجل أن أرى أصدافاً بحرية، وقد جمعت الكثير منها. كتبت كتاباً بعنوان (فن الطيور)، كما كتبت عن الحيوانات المنقرضة، الزلازل البحرية، وحتى زهرة العشّاب. لا أستطيع العيش بعيداً عن الطبيعة، ربما أحب الفنادق ليومين، وأحب الطائرات لساعة، ولكني أسعد حينما أتواجد بين الأشجار في الغابات، أو على الرمال، أو أثناء الإبحار، وحينما أتواصل مباشرة مع النار، الأرض، الماء، والهواء».

*مشاعر متدفقة

كتب نيرودا قصائد الديوان بعد عدّة جولات ربيعية على شواطئ الساحل التشيلي رفقة زوجته ماتيلدا، ويضم الإصدار رسومات رائعة تجعل القارئ يتخيل نفسه وكأنه موجود بين الطيور في تلك الطبيعة الساحرة، فالرسومات تسرب إلى نفس المتلقي شعوراً رائعاً، ليتجول بكل مشاعر الحب بين 38 نصاً خصصها نيرودا عن العصافير والطيور، وهي قصائد تجمع بين الشعر والرؤى الفلسفية والتأملية وتحتفي بالجمال في نصوص تحلق بين الأرض والسماء وتصنع البهجة، حيث تعكس القصائد ذلك الأسلوب المميز لدى نيرودا، وهو المفعم بالمشاعر المتدفقة مثل نهر عذب.

*رسالة

الكتاب رسالة حبٍّ وتأمل بخيال الشاعر في الكائنات والأشياء الموجودة في قلب الطبيعة، ففي كل زقزقة عصفور حكاية، وفي كل رفرفة جناح رواية تتضمن في فصولها تفاصيل الحياة، لكن ماذا يفعل نيرودا في نصوصه التي ضمها الكتاب؟ هو يصنع الحكمة التي تتسق مع منهجه في الحياة كعاشق للحرية وللجمال والحب والسلام وكاره للدمار والحروب، فالنصوص في الكتاب تحمل دعوة لأن يتعلم الإنسان من الطيور وعشقها للتسامح والمودة والغناء من أجل عالم جميل.

*بيان

في الكتاب يؤكد نيرودا أنه عاشق ومتأمل ومراقب لحياة العصافير والطيور، ويدعي معرفته بكل أنواعها، ويعلن عن ذلك في قصيدة تقول: «أنا شاعر شعبي، فتى ريفي/ ومن هواة الطيور/ أجوب العالم وأسافر فيه/ أعرف هذه الأرض طائراً طائراً/ أعرف أين تطير النار/ ومتى تهطل الطاقة/ وقد كوفئت على لا مبالاتي/ لأنه حتى وإن لم يدفع لي أحد ثمنها/ فقد حلقت روحي ولست مقيداً بالجمود»، ومن خلال هذا النص الشفيف، فإن نيرودا يعرف الأرض والمكان من خلال الطيور التي تسكنه، فبعض العصافير رقيقة ووادعة وحالمة لأنها سكنت على ضفاف وأنهار عذبة وهدوء مخيم فكان أن طبعتها بطابعها، وهناك طيور جامحة قوية تقطن أعالي الجبال والمرتفعات ولا ترضى بغير الحرية والحياة الكريمة، ويشير الشاعر في هذا النص إلى أنه مثل تلك الطيور ففي كل أحوالها هي متحررة ولا ترضى بالقيود، وهي ضاجة بالحياة وغير ساكنة ولا تعرف الجمود.

*دروس وعبر

الحركة سر سعادة هذه الطيور، ونيرودا كمراقب لهذه الكائنات فهو يرى أن في انتقالها وهجرتها أكثر من فكرة تجوال في المكان، فلابد أن هناك سراً أو رمزية تكمن وراء هذا الترحال الدائم لأسراب الطيور، وذلك ما يفعله في قصيدة في الكتاب حملت عنوان «الهجرة»، يتابع فيها الشاعر ويرصد بدقة سرباً من الطيور يهاجر بعيداً عن تشيلي في فصل الشتاء، ويصف تلك الرحلة الشاقة التي تقوم بها الطيور المهاجرة بحثاً عن مستقبل أكثر إشراقاً.
يكشف الكتاب عن جوانب مهمة في حياة نيرودا، فهو ليس فقط شاعراً أيديولوجياً سياسياً يسارياً كرس صوته لقصائد ونصوص تخدم مشروعه الفكري، بل هو صاحب قلب عاشق للحياة، ولكنه كذلك يستخلص المعاني الكامنة في الطبيعة، فيتخذ من الطيور مثالاً، ولئن كانت مجرد زقزقة العصافير تعني الجمال، فإن الشاعر يرى فيها كذلك تأملات في الحياة من منظور الطيور، فهي تهدينا السكينة والارتقاء الروحي وصفاء النفس، ولئن كان حلم الإنسان هو التعارف والتلاقي والتقارب، فإن ذلك الأمر متوفر في مجتمعات الطيور.

*جدل

جميع قصائد الكتاب تلح على إبراز مفهوم الحرية كثيمة رئيسية، وبالتالي يجد القارئ نفسه أمام موقفين، فالشاعر يستخلص معاني التحرر والحرية من حياة الطيور، وفي ذات الوقت يسرب نيرودا، بشكل جدلي، أفكاره وقناعاته الخاصة حول الحرية والموقف من الوجود والعدالة والعلاقات الإنسانية داخل نصوص الكتاب بصورة شفيفة من دون حمولة سياسية أو فكرية حيث يراعي الأبعاد الجمالية، لكنه في ذات الوقت يضع علامات ودلالات ترمز إلى أفكاره حيث يلتقطها القارئ عبر التمعن في المعاني، وتلك براعة كبيرة من هذا الشاعر الفذ، الذي يستخدم تقنيات ومنطق الشعر براعة في صناعة الصور والمشاهد والتعبيرات البلاغية بما يحفز خيال المتلقي ويحرضه على التفكير من أجل تكوين رؤيته الخاصة به.

*إضاءة

بابلو نيرودا «1904 ـ 1973»، شاعر تشيلي، يعد من أشهر الشعراء وأكثرهم تأثيراً، ووفقاً للكاتب الروائي غابرييل غارثيا ماركيز فإن نيرودا من أفضل شعراء القرن العشرين في جميع لغات العالم، اشتهر بكونه صاحب توجه يساري وناشطاً سياسياً، كان عضواً بمجلس الشيوخ ومرشحاً سابقاً للرئاسة في بلاده. نال العديد من الجوائز التقديرية أبرزها جائزة نوبل في الآداب عام 1971، ووفقاً لموقع الجائزة الرسمي فقد حصل عليها لأشعاره الممزوجة بالقوة والتي تحضر أحلام ومصائر حية، حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكسفورد، وكتب عنه الناقد الأدبي هارولد بلوم: «لا يمكن مقارنة أي من شعراء الغرب بهذا الشاعر الذي سبق عصره»، كتب نيرودا سيرته الذاتية بعنوان «أشهد أنني قد عشت» وقد ترجمت إلى العربية في سبعينات القرن الماضي.

*اقتباسات

«رأيتُ كيف تعمل الأجنحة، وكيف تنتقل العطور عبر التلغراف الريشيّ».
«ما زلتُ ميتاً في المدينة لا أستطيع التعود على العيش في مكانٍ ضيق».
«نعم، أنا مراقب طيور يائس».
«الطيور لا ترغب في أن أكون في قبة السماء، لكني أدعو نفسي وأختبئ بينها».
«العصافير علمتني زقزقتها».
«ومن الطيور ما هو متأمل يسأل».
«العصافير تبني بالقش والطين والمطر
موطناً من الحب».
«تتجمع الآلاف من الطيور لتشكل معاً نهراً من الوحدة والحركة».
«طيور الليل تنقر على النجوم الأولى التي تومض مثل روحي عندما أحبك».

المصدر : صحيفة الخليج