يحرجني بعض الشيء أن أعترف بأنني خلال رحلة برية في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، قدت سيارة رياضية متعددة الأغراض بحجم مدرعة تابعة لشركة تأجير وقد سجلت معدل استهلاك وقود يكاد يكون هزلياً بلغ 11 كيلومتراً لكل لتر.
قد يبدو هذا الرقم منطقياً للقراء الأميركيين، لكنني في المملكة المتحدة عادة ما أقطع مسافة تزيد عن 19 كيلومتراً لكل لتر. بالطبع، يستخف أصدقائي الأميركيون بسيارة ”هوندا“ الصغيرة التي أقودها في لندن؛ فالسيارة الأميركية التي قدتها هناك كانت ”فورد إكسبلورر“، وهي أنسب لمناطق النزاعات المسلحة من الطرق الفرعية وارفة الأشجار في ولاية مين.
كانت صدمتي في محطة الوقود تذكيراً جاء في وقت مناسب بصاحب لا يحظى بالاهتمام الكافي لشعار “احفر يا عزيزي، احفر” الذي غيّر إنتاج النفط الأميركي، وذاك أن الطلب عليه مزدهر أيضاً.
النفط الصخري الأميركي يسجل إنتاجاً أكبر بتكاليف أقل
إن النفط إدمان يصعب التخلص منه، ويزداد الأمر سوءاً مع وفرة النفط. في الواقع، تنتج الولايات المتحدة نفطاً أكثر مما تستهلك، وتشكل ثورة النفط الصخري مصدر إحراج سياسي – فهي تدعم زيادة الاستهلاك عبر الأسعار والضرائب المنخفضين.
وفقاً للاتجاهات الحالية، ستستهلك الولايات المتحدة ما متوسطه السنوي 20.59 مليون برميل يومياً في عام 2025، وهو أعلى مستوى منذ 18 عاماً. يساعد ذلك تحديث من إدارة معلومات الطاقة الأميركية، الهيئة الحكومية المسؤولة عن إحصاء البراميل، عدّلت فيه لناحية الزيادة تقديراتها للطلب على النفط لعام 2024. ويُرجح أن تكون هناك زيادات أخرى، ما يعيد إلى الأذهان الرقم القياسي الحالي المسجّل منذ 20 عاماً – وهو مستوى قياسي كان قطاع النفط يعتقد أنه سيظل بلا تغيير.
قد يكون سهلاً إلقاء اللوم على إدارة ترمب المؤيدة للوقود الأحفوري في هذه الزيادة، لكن كثيراً مما يحدث اليوم تبلور خلال سنوات بايدن، وحتى قبل ذلك خلال إدارة ترمب الأولى وسنوات أوباما. في ذلك الوقت، أعلن عن موجة من مصانع البتروكيماويات، مهدت الطريق للطلب المتزايد على الذهب الأسود اليوم.
مع ذلك، فإن ما يفعله الرئيس دونالد ترمب هو صياغة اتجاهات المستقبل. على المدى القصير، قد تلحق الرسوم الجمركية الضرر بالتنمية الاقتصادية، فيتباطأ نمو استهلاك النفط. لكن بغض النظر عن هذا التأثير المنفرد، فإن سياساته ستعزز الطلب فحسب.
سيكون نفوره من السيارات الكهربائية أمراً بالغ الأهمية، لكن الأهم من ذلك هو دعمه للسيارات الكبيرة المستهلكة للوقود المصنوعة في الولايات المتحدة – مثل النوع الذي قدته الأسبوع الماضي.
لماذا انقلب استشراف قطاع النفط الأميركي للمستقبل؟
حتى فوز ترمب بولاية ثانية، كان قطاع الطاقة الأميركي متقبلاً بقدر كبير أن استهلاك البلاد من النفط، الذي بلغ أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2005 عند 20.8 مليون برميل يومياً قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية، لا يمكن تجاوزه.
وقد أدى ارتفاع الكفاءة إلى أن تصبح أميركا بعد فترة انتعاش قصيرة في أعقاب الجائحة، دولة تجاوزت ذروة الطلب على النفط، مثل دول غنية أخرى منها ألمانيا وفرنسا واليابان.
لذلك، قبل بضعة أشهر فقط، صرّحت وكالة الطاقة الدولية بأن استهلاك الولايات المتحدة سينخفض سنوياً بدءا من عام 2025 فصاعداً، ليصل إلى 20.01 مليون برميل يومياً بحلول عام 2030.
اليوم، يبدو مسار الانخفاض غير مؤكد. فهل يمكن للطلب الأميركي على النفط أن ينمو أكثر، مسجلا مستوى قياسياً جديداً؟ يعتقد كثيرون، وأنا منهم، أن فرصة ذلك جيدة. تشير أحدث توقعات وكالة الطاقة الدولية، التي تنظر إلى عام 2026 فقط، إلى زيادة طفيفة في العام المقبل.
يعود ارتفاع نصيب الفرد من استهلاك النفط في الولايات المتحدة – وأكثر من ضعف نصيب الفرد في ألمانيا واليابان والمملكة المتحدة – إلى عدة عوامل: سكان أثرياء يعيشون في ضواحي مترامية الأطراف؛ وسوء وسائل النقل العام؛ وصناعة نفط محلية قوية دفعت البلاد إلى إبقاء ضرائب الوقود منخفضة، ما يوفر البنزين والديزل بأسعار أرخص من الدول الغنية الأخرى.
نتيجة لذلك، تستهلك الولايات المتحدة برميلين من كل 10 براميل يستهلكها العالم اليوم.
يتغير التركيب الداخلي لهذا الطلب. في عام 2005، عندما سجل الطلب الأميركي الإجمالي على النفط رقماً قياسياً، كان البنزين والديزل في طليعة نمو الاستخدام في البلاد. أما اليوم، فقد انخفض استهلاك كلا نوعي الوقود عن ذروتهما الأخيرة.
بدلاً من ذلك، فإن أسرع نسبة نمو في برميل النفط هي الإيثان، المستخدم بكثرة كمادة خام في صناعة البتروكيماويات، إذ أصبح حجر أساس صناعة البلاستيك. كما يشهد الطلب الأميركي على وقود الطائرات نمواً سريعاً.
هل يمكن للإيثان ووقود الطائرات وحدهما الحفاظ على نمو استهلاك النفط الأميركي؟ لن يحدث ذلك إذا كان البنزين والديزل يشكلان عائقاً. فإذا استمرت كفاءة وقود السيارات والتحول إلى الكهرباء بوتيرة متسارعة، سيواجه الطلب الأميركي الإجمالي على البترول صعوبة في الارتفاع.
برغم أهمية تحسين كفاءة استهلاك وقود السيارات، إلا أن تأثيره لا يحظى بالتقدير الكافي؛ فالحديث عن السيارات الكهربائية أكثر جاذبية من سرد التحسينات في تقنية محركات سيارات البنزين.
العالم يهدر 4.6 تريليون دولار سنوياً لفشله في تحسين كفاءة استهلاك الطاقة
مع ذلك، تظهر البيانات مدى التقدم المحرز. وفقاً لبيانات حكومية، يقطع متوسط استهلاك الوقود في طرازات السيارات الأميركية لعام 2024 مسافة أطول بنسبة 40% باستخدام نفس كمية البنزين مقارنة بطرازات عام 2005، ليصل إلى حوالي 10.5 كيلومتر للتر.
يمثل هذا تراجعاً حاداً عن الانخفاض الذي بلغ 12% في استهلاك الوقود بين عامي 1988 و2004، عندما كان الأميركيون يشترون سيارات رياضية متعددة الاستخدامات أثقل وأقل كفاءة.
يبدو أن إدارة ترمب عازمة على العودة إلى أيام انخفاض كفاءة استهلاك الوقود. فمنذ عام 1975 وحتى هذا العام، واجهت شركات السيارات الأميركية عقوبات إذا لم تحقق أهداف التحسين السنوية؛ لكن البيت الأبيض وعد الآن بعدم معاقبة المخالفات، مانحاً صناعة السيارات حرية التصرف التامة.
ستقنع أسعار النفط المنخفضة الحالية مزيداً من الأميركيين بشراء سيارات الدفع الرباعي الكبيرة؛ فقد انتهى بي الأمر بدفع مبلغ أقل للتزود بالوقود في محطة الوقود الأسبوع الماضي مما كنت سأدفعه في إنجلترا حتى باستخدام سيارتي الأكثر كفاءة.
إلى جانب ازدراء البيت الأبيض للسيارات الكهربائية، يُرجح أن يكون استهلاك البنزين في الولايات المتحدة أقوى مما كان عليه الحال لولا ذلك. أضف إلى ذلك تزايد استخدام وقود الطائرات والبتروكيماويات، وجميع العوامل متاحة لتسجيل رقم قياسي جديد في الاستهلاك الأميركي للبترول.
رغم أنه أحياناً ما يُنسى ذلك بسبب صعود الصين، ما تزال الولايات المتحدة أكبر مستهلك للنفط في العالم. بالتالي، إن ما يحدث هناك سيتردد صداه في العالم. واليوم، في واشنطن، ثمة تركيز أكبر على الحفاظ على الوضع الراهن للطاقة بدلاً من تغييره.
لقد عاد رواج النفط ومعه السيارات الكبيرة؛ بينما ابتعد تغير المناخ عن بقعة الضوء.
المصدر : الشرق بلومبرج
