يبدو أن اتحاد الشغل التونسي القوي والعتيد فقد هيبته في المشهد السياسي والاقتصادي للبلاد خلال الفترة الأخيرة، ودخل نفقاً مظلماً عمقته أزمات داخلية متتالية أضعفته بصورة لافتة أمام السلطة القائمة.
وبإعلان دخول خمسة أعضاء من المكتب التنفيذي (أعلى سلطة في الاتحاد) ضمن 15 عضواً في اعتصام مفتوح بداية من الأربعاء الـ25 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، احتجاجاً على الأوضاع التي آلت إليها المنظمة الشغيلة الحاصلة عام 2015 على جائزة نوبل للسلام، يتجه الاتحاد إلى منعرج خطر قد يعصف به ويضعفه كحاضنة شعبية مهمة في البلاد.
إعلان الدخول في اعتصام مفتوح من أعضاء فاعلين ووازنين بمقر المنظمة الشغيلة التونسية صاحبة نصف المليون منخرط والمحتفلة هذا العام بمرور قرن على العمل النقابي في تونس، يترجم أن الأوضاع في اتحاد الشغل صارت “متفككة”، ولم تعد تحتمل السكوت عنها وأنه حان الوقت للتغيير.
فعلى رغم أن اتحاد الشغل التونسي كان مدافعاً “شرساً” عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعموم العاملين وله نفوذ سياسي واقتصادي في أمهات القضايا الوطنية في البلاد، فإنه بدأ يتهاوى ويفقد هيبته بدليل تمرير الحكومة عدداً من القوانين الاقتصادية والإجراءات ذات الطابع المالي والاجتماعي غير عابئة به.
رفض الديكتاتورية النقابية
يعكس الاجتماع الساخن لكل القواعد النقابية باتحاد الشغل التونسي أمس السبت الـ14 من ديسمبر الجاري الغضب الشديد على القيادة الحالية لمنظمة حشاد (الزعيم النقابي الوطني المغتال خلال ديسمبر 1952 من المحتل الفرنسي)، التي اعتبروها حادت عن مسارها الصحيح وكرست نوعاً من الديكتاتورية النقابية بعدم الانصياع إلى رغبة النقابيين في إحداث الرجة المطلوبة.
وطالب جموع النقابيين الحاضرين في الاجتماع العام بضرورة تقديم مؤتمر المنظمة الشغيلة المزمع عقده عام 2027 إلى منتصف عام 2025، وإنهاء ما وصفوه بحال الوهن والضعف التي وصلت إليها المركزية النقابية خلال الفترة الأخيرة وفقدان بريقها وإشعاعها لدى التونسيين.
وطالبوا من القيادة الحالية للاتحاد بضرورة التوقيع على محضر اجتماع المجلس الوطني المنعقد خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، وبخاصة النقطة الـ12 من المحضر التي تنص على تقديم موعد عقد مؤتمر اتحاد الشغل، وهو ما رفضه عدد من أعضاء المكتب التنفيذي.
وسادت الاجتماع حال من الاحتقان والغضب في صفوف مختلف الهياكل النقابية، مطالبين عبر هتافاتهم وشعاراتهم بضرورة القطع مع ممارسات أعضاء المكتب التنفيذي الـ10 والانصياع إلى رغبة القواعد النقابية.
إنقاذ الاتحاد
وصرح عضو المكتب التنفيذي والأمين العام المساعد لاتحاد الشغل أنور بن قدور المكلف الدراسات وأحد المنشقين لـ”اندبندنت عربية”، بأنه حان الوقت لإنقاذ الاتحاد والمحافظة عليه إثر الوضعية التي آل إليها خلال الفترة الأخيرة.
واعتبر أنه من الضروري ضخ دماء جديدة مع تجديد شامل وجذري لاتحاد الشغل على المستوى النقابي والإداري والمالي، بحسب تصوره.
وانتقد أنور بن قدور بشدة تصرف بقية أعضاء المكتب التنفيذي في الالتفاف على مخرجات المجلس الوطني المنعقد خلال سبتمبر الماضي، ورفضهم إمضاء محضر اجتماع المجلس وعدم إصداره ورفض الانصياع إلى رغبة القاعدة النقابية في عقد مؤتمر استثنائي أو تقديم المؤتمر إلى عام 2025، وهو ما نصت عليها النقطة الـ12 من محضر اجتماع المجلس الوطني (ثاني أعلى سلطة في الاتحاد).
وتابع بالقول “نطالب باستكمال أشغال المجلس الوطني وإمضاء اللائحة الداخلية وعدم هرب القيادة الحالية إلى الأمام”، داعياً النقابيين إلى التماسك ووحدة الصف النقابي وتجاوز الخلافات من أجل إيصال منظمة حشاد إلى بر الأمان ومعلناً أنه لن يترشح إلى عضوية المكتب التنفيذي المقبل، وأنه يتعين أيضاً على كل أعضاء المكتب التنفيذي الحالي (15 عضواً) عدم التقدم إلى عضوية المكتب التنفيذي في حال الاتفاق على موعد جديد لمؤتمر اتحاد الشغل.
غياب عن القضايا الاقتصادية
المتابع للشأن العام في تونس يلاحظ بالتأكيد غياب اتحاد الشغل عن أمهات القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وأن بريقه خفت وأداءه صار باهتاً ولم يعد بالقوة والشراسة اللتين كان عليهما سابقًا في افتكاك حقوق ومكاسب لعموم العاملين في القطاعين الحكومي والخاص.
وعمدت الحكومة إلى إجراء تغييرات كبيرة على جدول الضريبة على الدخل باقتطاعات لشريحة واسعة من الأجراء ذوي الدخل المتوسط، كخطوة لترسيخ العدالة الضريبية في ظل ارتفاع مستوى التضخم وزيادة لافتة في أسعار المنتجات الغذائية.
لكن اتحاد الشغل انغمس في صراعاته الداخلية وابتعد من القضايا الاقتصادية ليتم تمرير حزمة من الإجراءات عدها المتخصصون قد يكون لها تداعيات كبيرة على التضخم وزيادة الأسعار.
ملف آخر يترجم ضعف المركزية النقابية يتمثل في عدم قدرتها على التفاوض مع الحكومة أو الدخول في مفاوضات اجتماعية حول زيادة الأجور، والتي من المفترض أن تكون كل ثلاثة أعوام، وأن السلطة سحبت البساط منفردة.
فقدان الحاضنة الشعبية
ومن جانبه، اعترف عضو المكتب التنفيذي والأمين العام المساعد بالمركزية النقابية صلاح الدين السالمي المكلف الشركات الحكومية وأحد الداخلين في الاعتصام، بأنه منذ مؤتمر صفاقس خلال يونيو (حزيران) 2022 بدأت بوصلة الاتحاد تحيد على مسارها الصحيح.
وقال في هذا الصدد “المنظمة ضاعت كلياً وغابت تماماً في المشهد العام وبخاصة في ما له علاقة بالملفات الاقتصادية في البلاد، وفقدت إشعاعها وبريقها كمنظمة صلبة تدافع عن حقوق الشغالين”، كاشفاً عجز المكتب التنفيذي عن حل أبسط الإشكاليات النقابية.
وأقر بأن اتحاد الشغل يشهد خلال الوقت الراهن أزمة ثقة على مستوى عمودي وأفقي، وفي جميع هياكله.
في الأثناء أردف بالتأكيد أن السلطة القائمة تريد منظمة شغيلة بهذا الوهن بل وترغب في بقائها على هذا الوضع، مستدلاً في ذلك على أن السلطة صارت تمرر عدداً من مشاريع القوانين ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي من دون استشارة اتحاد الشغل المعني مباشرة بها.
فراغ اقتصادي
وتعليقاً على ما يجري من تواتر أزمات اتحاد الشغل التونسي، قال أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية ومستشار المنظمة الشغيلة في الملفات الاقتصادية كريم الطرابلسي، إن حالها لا تبعد كثيراً عن حال الأجسام الوسطى من بقية المنظمات الوطنية الأخرى ومكونات المجتمع المدني في البلاد.
وصرح لـ”اندبندنت عربية” بأن النظام السياسي الراهن في البلاد صار يرغب في تطبيق الديمقراطية المباشرة من دون وساطات تمثلها المنظمات والجمعيات، ملاحظاً أن إحداث مجلس وطني للأقاليم والجهات وإحداث مجالس محلية وجهوية في كل محافظات البلاد يترجم هذا الوضع الجديد.
وأبرز أنه قبل عام 2021 كان لاتحاد الشغل دور محوري وفاعل في إبداء رأيه تجاه الملفات الاقتصادية والاجتماعية، مستدلاً في ذلك على الاجتماعات الثلاثية بين الحكومة واتحاد الشغل ومنظمة الأعراف في إصلاح منظومة الدعم وإصلاح الشركات الحكومية، مؤكداً في هذا الخصوص أنه تم التقدم خطوات مهمة وكبيرة في هذه الملفات.
وبين أنه توصل إلى إقرار حزمة إجراءات وحلول في دعم الأفراد بتحويلات مالية إلى جانب انتقاء سبع شركات حكومية واعتمادها كأنموذج في مسار إصلاحها وإعادة هيكلتها.
وفي غضون ذلك شدد كريم الطرابلسي على أنه كان لاتحاد الشغل كلمة وازنة في مشاريع قوانين المالية من خلال تغيير بعض الفصول، علاوة على الاجتماعات المتكررة مع وزارة المالية في سلسلة من الملفات لا سيما في مجال الإصلاح الضريبي.
لكنه استدرك بتأكيد أنه منذ عام 2022 حصلت قطيعة مع السلطة التي ارتأت تمرير عدد من القوانين والإجراءات بطريقة فوقية سرعان ما قال إنها فشلت، على غرار قانون الصلح الجزائي وقانون الشيكات الذي يتعرض إلى عدد من الإشكاليات والصعوبات في تنفيذه.
واعتبر أن من عوامل ضعف المنظمة الشغيلة التونسية أنه مُرِّرت إجراءات جديدة في قانون المالية لعام 2025 تنص على اقتطاعات من الأجراء والعمال في إطار إصلاح جدول الضريبة على الدخل، مع اقتطاعات أخرى لإحداث الصناديق الخاصة على غرار صندوق التأمين على فقدان مواطن عمله.
ويعتقد المستشار الاقتصادي لاتحاد الشغل أن كل المشاريع والإجراءات التي كانت محل توافق ومشورة بين الحكومة والمنظمة الشغيلة نجحت، بل أكثر من ذلك فإن المنظمة أسهمت في إنجاح هذه الإجراءات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلص بتأكيد جدوى أن يسترجع اتحاد الشغل هيبته وقوته بتغيير خطابه ووسائل ضغطه، وبخاصة استرجاع حاضنته الشعبية التي فقدها خلال الأعوام الأخيرة.
مخاض طبيعي
في غضون ذلك، صرح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي لوسائل إعلام محلية خلال الرابع من ديسمبر الجاري بمناسبة إحياء الذكرى الـ72 لاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، بأن المنظمة الشغيلة تشهد حالياً مخاضاً نعده أمراً طبيعياً في حياة الاتحاد، وأنه محمول عليه تغيير خطابه تجاه منظوريه.
وأكد أن اتحاد الشغل عرف عدة تحولات داخلية تعرض أثناءها إلى أزمة داخلية خلال فترة ما بعد الاستقلال، وأزمة أخرى داخلية عام 1965 كانت لها تداعيات كبيرة وفق اعتقاده.
وأضاف أنه بعد 13 عاماً تعرضت المركزية النقابية إلى أزمة أخرى وأزمة رابعة عام 1989.
وأقر المسؤول الأول عن المركزية النقابية بأنه من الضروري القيام بمراجعات والعمل على تغيير خطاب اتحاد الشغل تجاه منظوريه الذين تغيروا بصورة كبيرة، وصارت لهم متطلبات مغايرة لجيل الستينيات والسبعينيات والتسعينيات وفق رأيه.
وخلص بالقول “الاتحاد ليس له عقدة، وأنه يجب عليه أن يعترف بأنه أصاب في جوانب وأخطأ في جوانب أخرى”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية