تواصل الشارقة ترسيخ مكانتها بوصفها منارة ثقافية عالمية، تجمع القارئ بالمؤلف، وتحتفي بالكلمة في أبهى صورها، في كل عام يفتح معرض الشارقة الدولي للكتاب أبوابه، ليحول الإمارة إلى مدينة عامرة بالحوار والإبداع والمعرفة، منذ انطلاقته الأولى عام 1982، أصبح المعرض واحداً من أهم المهرجانات الثقافية في العالم العربي والعالم، حيث يجتمع فيه مئات الناشرين، وآلاف الكتاب، وملايين الزوار الذين يأتون من مختلف القارات، حاملين معهم شغفهم بالقراءة والاكتشاف.
يتميز المعرض بخصوصية واضحة تضعه في مصاف أبرز الفعاليات الثقافية العالمية، إذ لا يقتصر على عرض الإصدارات أو تنظيم البرامج المصاحبة، وإنما يحرص في كل دورة على طرح فكرة ملهمة ذات بعد إنساني وثقافي، تتجسد في شعار سنوي يختزل رسالة فكرية تعبر عن واقع المرحلة وتستشرف آفاقها المستقبلية، في احتفال شامل بالكلمة وبالإنسان الذي يصنعها ويقرؤها.
إن شعارات معرض الشارقة للكتاب، تمثل خلاصة رؤية فكرية تصاغ بعناية لتكون المفتاح الذي يدخل منه الجمهور إلى عالم الدورة الجديدة، ومن خلاله يمكن قراءة توجهات المنظمين، وفهم المزاج الثقافي العام، والتعرف إلى الأولويات الفكرية والاجتماعية التي تسعى الشارقة إلى ترسيخها عبر هذا الحدث العالمي، لنجد أنه في السنوات الأخيرة، قد تحول اختيار الشعار إلى عملية إبداعية متكاملة لتحديد الرسالة الأكثر تعبيراً عن اللحظة الثقافية، بحيث يصبح الشعار عنواناً للتوجه وملمحاً للهوية، ورابطاً بين القارئ والمكان.
تنوع
خلال الدورات الماضية، تنوعت شعارات المعرض بين تلك التي تدعو إلى القراءة كقيمة إنسانية، وتلك التي تربط الكتاب بالتواصل والمعرفة والمستقبل، وقد أصبحت هذه الشعارات بمثابة «ذاكرة بصرية» تسرد قصة المعرض نفسه، وكيف تطور من حدث محلي إلى منصة عالمية للثقافة، وفي هذا السياق، يمكننا قراءة خمسة شعارات بارزة من السنوات الأخيرة، بوصفها سرديات ثقافية في مسيرة هذا الحدث الثقافي الذي لا يشبه غيره.
جاء شعار المعرض لعام 2020، بمثابة إعلان عن رؤية ثقافية عالمية للشارقة، في وقت كان فيه العالم بأسره يواجه الانغلاق بسبب تطورات جائحة «كوفيد 19»، وتحت شعار «العالم يقرأ من الشارقة»، أراد المعرض أن يثبت أن الثقافة لا تتوقف عند حدود الجغرافيا أو الظروف، وأن الشارقة قادرة على أن تكون نافذة للمعرفة حتى في أحلك الأوقات.
جاءت تلك الدورة في ظلّ جائحة عصفت بالعالم، ما اضطر المنظمين إلى اعتماد صيغة هجينة تجمع بين الحضور المحدود والفعاليات الرقمية، وقد ساعد الشعار على خلق شعور بالاتصال العالمي رغم العزلة، إذ أصبحت الشارقة مركزاً افتراضياً يقرأ منه العالم، وتمت استضافة كتاب ومتحدثين من دول مختلفة عبر تقنيات الاتصال المرئي، وكان التركيز على أن الكلمة يمكن أن تنتقل من مكان إلى آخر دون أن تحتاج إلى السفر.
وعبّر هذا الشعار عن فلسفة الشارقة في مقاومة الانقطاع الثقافي، وعن إيمانها بأن المعرفة لا يمكن أن تحجر، واستطاعت الشارقة أن تثبت من خلاله أن الكتاب لا يزال أقدر وسيلة على ربط البشر رغم المسافات، وأن الكلمة يمكن أن تتغلب على الجائحة كما تتغلب على الجهل.
أمل
جاءت الدورة الأربعون من المعرض في عام 2021، لتستكمل الدورة التي سبقت، خصوصاً بعد فترة صعبة عاشها العالم بسبب جائحة «كوفيد 19»، وهنا كان لا بد من شعار يبعث الطمأنينة والأمل في نفوس الجمهور، لذلك اختار المعرض شعار «هنا.. لك كتاب»، وهو شعار دافئ يذكر القارئ بأن هناك دائماً كتاباً ينتظره، مهما تغيرت الظروف، في إشارة إلى أن لكل قارئ كتابه المناسب في الوقت المناسب.
كان الشعار خير تعبير عن الامتنان لعودة الحياة الثقافية إلى طبيعتها، وعن رغبة في إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والكتاب بعد فترة العزلة الاحترازية الطويلة. في تلك الدورة، كثف المنظمون الفعاليات الموجهة للعائلات وللأطفال، كأنهم يقولون نحن نعود إلى الحكاية الأولى، إلى لحظة الاكتشاف الأولى التي بدأناها بكتاب صغير.
يتجاوز الشعار معناه اللغوي ليكون وعداً بالعلاقة الإنسانية التي تصنعها القراءة، فالمعرض في تلك السنة مثل مساحة للتعافي الثقافي والاجتماعي، ورسالة بأن الثقافة هي أكثر ما يمكن أن يعيد للإنسان اتزانه بعد الاضطراب.
مبادرات
اختار المعرض شعار «انشر الكلمة» لدورته الحادية والأربعين، والذي جاء بمثابة دعوة جماعية للمشاركة في بناء الوعي، وتشجيع النشر وتوسيع دائرة المستفيدين من المعرفة، فالكلمة التي تبقى في الكتاب لا تكمل رسالتها إلا إذا خرجت إلى الناس، ومن هنا كان التركيز في تلك الدورة على مبادرات الترجمة والتوزيع والقراءة المجتمعية.
استثمر المعرض هذا الشعار في توجيه الضوء نحو دور النشر المحلية والدولية، وإلى الكتّاب الشباب الذين يسعون إلى أن تصل أصواتهم إلى أبعد مدى، كما تم إطلاق حملات رقمية لتشجيع مشاركة القراء في نشر الاقتباسات والكتب المفضلة على وسائل التواصل، في انسجام مع روح العصر الرقمي، وكان الشعار رابطاً بين الكتاب الورقي والفضاء الافتراضي، وبين الورقة والحروف المضيئة على الشاشة.
أما في عام 2023، فقد حمل المعرض شعاراً مميزاً هو «نتحدث كتباً»، هذه العبارة، رغم بساطتها، تحمل طاقة رمزية كبيرة، فهي تعبر عن أن الكتاب لم يعد مادة تقرأ، بل هو لغةٌ مشتركة نتواصل بها مع العالم، وتحت هذا الشعار، تحول الكتاب إلى وسيلة حوار بين الثقافات، وبين المؤلفين والقراء، وبين الأجيال المختلفة التي يجمعها حب الحرف.
خلال تلك الدورة، نظمت العديد من الجلسات الحوارية بين كتاب من أنحاء العالم، وكان الهدف منها تجسيد الشعار حرفياً والحديث من خلال الكتب، في احتفاء راق بالحوار بوصفه ممارسة ثقافية لا تقل أهمية عن القراءة ذاتها.
عبر الشعار عن حاجة الإنسان المعاصر إلى لغة جديدة بعد أن شتتته العصر الرقمي وسائط التواصل الاجتماعي، فالكتاب، في هذا المعنى، هو اللغة الأصلية التي يمكننا العودة إليها كي نعيد ترتيب علاقتنا بالمعنى وبالآخرين، وجاء هذا الشعار ليعيد للكتاب مكانته في قلب الحوار الإنساني، وليذكر بأن القراءة ليست فعل انعزال، بل طريقة في التواصل العميق مع العالم.
بداية
في دورته الماضية الثالثة والأربعين عام 2024، أطلق المعرض شعاراً لافتاً هو «هكذا نبدأ»، ليؤكد أن كل انطلاقة فكرية أو مشروع معرفي يبدأ من الكتاب، هذا الشعار البسيط في صياغته والعميق في دلالته جاء بمثابة إعلان فلسفي يؤكد أن كل خطوة في مسيرة الإنسان نحو التغيير أو النجاح أو الوعي تبدأ من صفحة كتاب، ولم يكن المقصود أن يقتصر الشعار على القراءة بوصفها هواية، بل كفعل تأسيسي للحياة المعاصرة نفسها.
وقد تجسد هذا المعنى في مختلف فعاليات الدورة، حيث ركزت برامج وفعاليات المعرض على تشجيع البدء من الكتاب في مجالات الابتكار والبحث والتعليم، فالمعارض المصاحبة، والورش المدرسية، والحوارات الأدبية، كلها كانت تدور في فلك فكرة البداية، ليتبدى واضحاً أن هذا الشعار يمثل مرحلة نضجٍ في فلسفة المعرض، إذ انتقل من الدعوة إلى القراءة إلى تمكين الكتاب كبداية لكل تحول إنساني، في استمرار لنهج الشارقة في جعل الكتاب نقطة التقاء لا تنتهي، ويتجدد كل عام.
أبعاد
عند النظر إلى هذه الشعارات مجتمعة، يمكن ملاحظة مدى ترابطها عضوياً رغم اختلاف عناوينها، فهي جميعاً تؤكد مركزية الكتاب في الحياة، لكن كل شعار منها يتناول هذه الفكرة من زاوية مختلفة، ففي بعض السنوات، كان التركيز على الفعل الفردي، كما في «هنا.. لك كتاب» أو «هكذا نبدأ»، بينما ركزت شعارات أخرى على البعد الجماعي، كما في «انشر الكلمة» و«العالم يقرأ من الشارقة»، أما «نتحدث كتباً» فقد كان حلقة وصل بين الاثنين، إذ جمع بين التجربة الشخصية والحوار الجماعي.
ليس من المبالغة القول إن شعارات المعرض، تمثل نوعاً من السجل الثقافي للمجتمع الإماراتي والعربي، فهي تعكس في كل عام المزاج العام، والاهتمامات الفكرية، والتحديات التي يواجهها القارئ، في سنوات الأزمات، جاءت الشعارات مطمئنة وحميمة، وفي سنوات الانفتاح، حملت طابعاً حيوياً يدعو إلى المشاركة والانطلاق.
معرض الشارقة للكتاب، يعد اليوم منصة عالمية للثقافة العربية الحديثة، فبينما تزداد سرعة العالم الرقمي، لا تزال الشارقة تراهن على الكلمة المقروءة باعتبارها جوهر الوعي الإنساني، تعيد من خلال المعرض تعريف علاقتنا بالكتاب الذي يعتبر مساحة فكرية للبدء والحوار، محولة شعارات المعرض إلى هوية فكرية عميقة، تعبر عن التزام الإمارة الدائم بنشر المعرفة وبناء الإنسان.
بيان
حين ننظر إلى مسيرة معرض الشارقة الدولي للكتاب، نجد أن كل شعار من شعاراته كان بمثابة فصل جديد في قصة طويلة عنوانها الإيمان بالكتاب وتأثيره، تتطور هذه الشعارات مع تطور وعي المجتمع وتطلعاته، فهي تكتب بعناية لتعبر عن مرحلة زمنية محددة، لكنها تبقى بعد انتهاء الدورة جزءاً من ذاكرة المعرض ومن ذاكرة المدينة نفسها.
إن ما يميز تجربة المعرض، هو تحويل شعار الدورة إلى «بيان ثقافي»، ففي كل دورة، نجد أنفسنا أمام رسالة جديدة تذكرنا بأن الثقافة مشروع مستمر لا ينتهي بانتهاء المعرض، بل يبدأ من لحظة فتح الكتاب الأول، ومن هنا يمكن القول إن شعارات معرض الشارقة هي رؤى فكرية تصاغ بحروف مضيئة، تذكرنا بأن مستقبل المجتمعات يكتب دائماً على صفحات الكتب.
من الحلم إلى العمل
أصبحت الشارقة، عبر معرضها الدولي للكتاب، مركزاً فكرياً لتجديد الخطاب الثقافي العربي والعالمي، فمن دورة إلى دورة تسير الرحلة الثقافية من المحلية إلى العالمية، ومن الحلم إلى العمل، ويبقى الشعار في كل دورة يتجاوز كونه إعلان بداية فعاليات المعرض، ليغدو في جوهره بداية دائمة لحكاية لا تنتهي، حكاية الإنسان الذي لا يزال يؤمن بأن الكلمة قادرة على أن تغير العالم.
المصدر : صحيفة الخليج
