عندما يهتم “سيتي غروب” بالذهب نعلم أن الأسعار المرتفعة ستستمر

عندما يهتم “سيتي غروب” بالذهب نعلم أن الأسعار المرتفعة ستستمر

لا شيء يثبت أن الذهب رائجٌ أكثر من خبر عن أن بنوكاً أميركيةً كبرى تفكر في العودة إلى مجال تخزين سبائك الآخرين.

اندهشت للوهلة الأولى، إذ خُيّل إلي أنني أنظر إلى خبر من سبعينيات القرن الماضي. لكن، معرفتي ببراعة زملائي في بلومبرغ نيوز، وبعد حديثي مع عدة مصادر، يبدو الأمر واقعاً. إن ”سيتي غروب حريصة على العودة إلى نشاطٍ ربما ما كان ينبغي لها تركه، وكثير من المؤسسات الكبرى الأخرى تسير على نفس النهج. إن تخزين الذهب مكلفٌ جداً، إذ إن الخدمات اللوجستية، ناهيكم عن الأمن، مكلفةٌ بقدر مذهل.

إليكم رأي المتشكك، مقتبساً من وارن بافيت: “يُستخرج الذهب من الأرض في أفريقيا، أو في مكانٍ ما. ثم نصهره، ونحفر حفرة أخرى، وندفنه مرة أخرى، وندفع لأشخاصٍ ليقفوا حوله ويحرسوه. ليس له أي فائدة”. لكن لا يتفق الجميع على وجهة نظره القائلة: “إنه لن يفعل أي شيء بين الآن ونهاية العالم إلا أن يقبع أمامك”. يتزايد إقبال العملاء على الاحتفاظ بالذهب كتحوط لمحافظهم الاستثمارية، لذا تستجيب البنوك بخدمة عملاء تقليدية ورسوم باهظة متناسبة.

“دويتشه بنك”: المصارف المركزية قد تحتفظ بكميات كبيرة من الذهب وبتكوين في هذا التوقيت

لا يتعلق الأمر بحفر سراديب تخزين جديدة، بل بتأجير أو إعادة توظيف المرافق القائمة. تُحدد رسوم التخزين على مقياس متدرج بناء على نسبة مئوية من قيمة السبائك. مع تضاعف قيمة الذهب منذ عام 2023، أصبح مربحاً جداً تقديم خدمة متكاملة، إذ إنها تغطي سلسلة القيمة بأكملها؛ بل إنها مربحة جداً لمصرف ”جيه بي مورغان تشيس آند كو“، إذ إنه يهيمن على القطاع ويعمل كجهة شبه مركزية لتسوية السبائك.

وقد بيّنت بلومبرغ نيوز، أن ”إتش إس بي سي هولدينغز“ تأتي في المرتبة الثانية بفارق كبير، على الرغم من قوتها في آسيا. وتركز مجموعة ”يو بي إس“ على امتيازها في إدارة الثروات الخاصة، وعلى الرغم من أن بنك ”آي سي بي سي ستاندرد“ (ICBC Standard Bank) قد استثمر بشكل كبير، إلا أنه لم يحقق اختراقاً كبيراً في السوق الدولية بعد.

استمرار اقتناء الذهب مؤشرٌ

مع ذلك، يُعدّ هذا التزاماً امتد لعقود. وهذا يشير إلى أن كبار اللاعبين يعتقدون أن أسعار الذهب المرتفعة ستبقى. صدر تقرير اتجاهات الطلب الفصلي لمجلس الذهب العالمي يوم الخميس، والذي أظهر ارتفاع شراء الذهب بنسبة 3% ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 1313 طناً في الربع الثالث، مطابقاً بذلك الزيادة في المعروض من قطاع التعدين. وارتفع الاستثمار في السبائك والعملات المعدنية بنسبة 17% على أساس سنوي، وهو اتجاه سُلّط الضوء عليه حتى في بيان مبيعات التجزئة في المملكة المتحدة لشهر سبتمبر.

يبدو أن طلب البنوك المركزية ارتفع بنسبة 28% خلال الربع، لكنه لم يتجاوز متوسط ​​السنوات الخمس إلا بفارق ضئيل. وكان الانخفاض الوحيد الملحوظ هو مبيعات المجوهرات التي واجهت صدمةً كبيرةً مع ارتفاع قيمة الذهب بنحو النصف.

الذهب لا يفقد بريقه.. البنوك المركزية تواصل الشراء وسط ضعف الدولار

عادت تجارة المعادن النفيسة إلى الربحية. ويعود ذلك جزئياً إلى كونها من آخر الأسواق التقليدية المتبقية، باستثناء نشاط صناديق الاستثمار المتداولة النشطة في الذهب. وما يزال الذهب المادي سوقاً خارج البورصة بدون طرف مقابل مركزي.

لا يوجد منحنى آجل منشور، ولا أسعار فائدة على الودائع أو القروض، بل بيانات شهرية فقط عن المخزونات. تبلغ السيولة ذروتها خلال ساعات التداول في لندن، ما يفسر تزايد الاهتمام بالتخزين بشكل رئيسي في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى احتفاظ خزائن بنك إنجلترا باحتياطيات كثير من البنوك المركزية الأخرى.

البنية التحتية المطلوبة تعني أن البنوك الكبرى فقط هي التي تملك الميزانيات العمومية والنطاق التنظيمي اللازم لفصل ممتلكات العملاء بكفاءة.

هل تصبح نيويورك مركزاً للذهب مقابل لندن التقليدية؟

أصبحت نيويورك فجأةً موقعاً أكثر جاذبية بسبب المخاوف من رسوم ترمب الجمركية. كان هناك ضغط على عقود الذهب المستقبلية في بورصة ”كومكس“ في نيويورك في وقت سابق من هذا العام، ما أثار ذعراً مفاجئاً واستيراد سبائك مختلفة الأحجام إلى الولايات المتحدة، لكن هذا الضغط تبدد إلى حد كبير.

إن تخزين الذهب، بما في ذلك خدمات المقاصة والتحويل والتسوية، مجال تجاري مصرفي بات مهجوراً منذ الأزمة المالية العالمية. تجنبت البنوك أعمال التداول نظراً لصرامة الجهات التنظيمية الملحوظة في مراقبة السلع. حتى أن الذهب أصبح خاضعاً لقواعد ”بازل ”3. لم يساعد قطاع التجزئة في التعامل مع كيانات أو أفراد أصغر حجماً غير خاضعين للتنظيم.

ازدهار الذهب يرفع حيازات الأسر الهندية إلى 3.8 تريليون دولار

تتم غالبية التعاملات بين البنوك -ما يعني أن الأمر كله يتعلق بالتمويل والقدرة على استخدام ممتلكات العملاء كضمانات في أماكن أخرى- وهي ممارسة تُعرف باسم إعادة استخدام الضمانات المرهونة. يُرجّح أن يكون لدى ”جيه بي مورغان“ مئات مليارات الدولارات من الذهب في ميزانيته العمومية.

العملاء الرئيسيون هم البنوك المركزية، التي تهتم كثيراً بالتعامل مع طرف مقابل يتمتع بجودة ائتمانية عالية جداً.

جني أتعاب مقابل خدمات أساسياتها بسيطة

بالنسبة للآخرين الذين يدققون في هذا المجال، مثل ”مورغان ستانلي“، يتعلق الأمر بالتكامل مع إدارة الثروات؛ فهناك كثير من العملاء الذين يرغبون في الاحتفاظ بالذهب، فلماذا لا تحتفظ به البنوك في خزائنها وتجمع بذلك دخلاً من الأتعاب؟ تُقدّر إيرادات الثروات الخاصة بمضاعف أعلى من شركات التداول. ستراقب البنوك الأخرى التي لديها عمليات لإدارة الثروات الكبيرة الوضع عن كثب.

على الرغم من أن الضجة الكبيرة حول تداولات تخفيض قيمة الدولار ربما تكون مبالغاً فيها، إلا أنها حوّلت هذا المعدن الثمين إلى فئة أصول قابلة للاستمرار. وهذا صحيح برغم الانخفاض الأخير بنسبة تقارب 10%. البنوك، نظراً لتقليص أنشطتها التجارية الخاصة بشكل كبير، أصبحت أقل اعتماداً على ارتفاع الأسعار، لكنها تسعى فقط إلى تحقيق هامش ربح كبير في نشاط التداول. عاد تخزين الذهب يا عزيزي، وربما حان الوقت للعودة إلى بناطيل الجينز الواسعة وأغاني نيل دايموند.

المصدر : الشرق بلومبرج